قراءة في كتاب “مكان تحت الشمس” لـ بنيامين نتنياهو

كتب بواسطة نبال خماش

   بنيامين نتنياهو، أو بيبي، كما كان يحلو للرئيس الأمريكي بيل كلينتون أن يسميه، أو “عطا الله” وفق اللهجة الشعبية للفلسطينين، وهي ترجمة حرفية لاسمه الثاني. ومع تعدد الأسماء، هناك تنوع في الصفات التي ارتبطت به، مثل “الرئيس الكارثة” وهي صفة أطلقت عليه منذ بداية رئاسته للحكومة الإسرائيلية عام 1996 إلى يومنا هذا، ودلالة هذه الصفة قدرة هذا الرجل الفائقة على الاحتيال والتفلت من الأزمات في وقت واحد. وترى فيه نسبة غير قليلة من المقارنات والتحليلات السياسية لكتّاب من اليسار الإسرائيلي تحديدا، الشخصية الصهيونية الأمثل القادرة على الوصول بإسرائيل إلى الكارثة. وإذا كانت هذه قناعة اليسار الإسرائيلي، الذي تزعمه لفترة غير قليلة شمعون بيريز، الذي عرضنا لكتابه “الشرق الأوسط الجديد” في الحلقة السابقة، فإن نتنياهو، باعتباره من رموز اليمين المتشدد في إسرئيل، يتهم اليسار الإسرائيلي باعتبارهم “نسوا معنى أن يكون المرء يهوديا”. ولتوضيح معنى أن تكون مفيدا لليهودية، وفقا لرؤية نتنياهو، لا بد من إعادة ترتيب الأولويات السياسية، التي عرضها على نحو تفصيلي في كتابه “مكان تحت الشمس”.  

   صدر الكتاب بلغته الأم، العبرية، عام 1993، وبعد ثلاثة أعوام من صدوره، تولت دار نشر أردنية “دار الجليل” ترجمته إلى العربية. وإذا أردنا تصنيف الكتاب بحسب دلالات عنوانه والطروحات السياسية الواردة فيه، يمكن إدراجه ضمن الواقعية السياسية، وإذا أردنا تفصيلا أكثر ضمن مستويات الواقعية، فإن الكتاب يعدّ نموذجا واضحا للصيغة الواقعية المتطرفة، التي تعرف بـ ” الواقعية الهجومية “، وهي نظرية تعكس تصورا مقدمًا بالأساس للدول العظمى بهدف تعظيم معالم قوتها وسيطرتها ضمن مبدأين أساسيين: توازن القوى، وإلقاء التبعات على الآخرين. وهما عنصران يلمس القارئ حضورهما في كل صفحة من صفحات الكتاب الذي يقع في 438 صفحة.

   استعرض بيبي في الفصل الأول والثاني من الكتاب النشأة التاريخية للفكر الصهيوني، واعتبره صاحب الفضل الحقيقي في الحفاظ على الهوية اليهودية، وحذر من خطورة التخلي أو التراخي في التمسك بهذه المبادئ، معتبرا أي تنازل عن أساسيات هذا الفكر بمثابة تفريط بمصدر من مصادر الحياة الأساسية. وأهم بند من بنود هذه الأفكار، وفق شروحات المؤلف، المحافظة على أمن إسرائيل. فالأمن مطلب لا يتقدمه أي مطلب آخر، يتقدم الاقتصاد، والسياسية والسلام. والأمن وفق عرض الكتاب مرتبط بالأرض، وبناء على هذه الرؤية وجه نتنياهو نقدا شديدا لمبدأ التفاوض مع الفلسطينيين والعرب عموما الذي كان قائما على مبدأ ” الأرض مقابل السلام “، ويقضي فحوى هذا الشعار العريض، أن تتنازل إسرائيل عن المساحات التي أخضعتها لسلطتها بالقوة، مقابل حصولها على السلام، أما الشعار الذي اعتمده ضمن رؤيته الشاملة فقائم على مبدأ ” السلام مقابل السلام “.

    والترجمة العملية لهذا المبدأ، بالمقارنة مع الخطوات التي اتخذها نتنياهو على الأرض مؤخرا، نجدها حاضرة في: عدم قابلية التفاوض على الجولان باعتبارها تشكل العمق الاستراتيجي لإسرائيل، ضم كامل مدينة القدس تحت السيادة الإسرائيلية. كما استطاع نتنياهو خلال الأشهر الماضية الحصول على تأييد أمريكي بشأن كلا البندين. ولاكتمال الخطة التي رسم معالمها للحفاظ على أمن إسرائيل، أعلن عن نيته ضم غور الأردن والضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني، إضافة إلى ضمان استمرار التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي في المنطقة. 

   وفي سياق الحديث عن “الحق الموضوعي” لليهود في فلسطين، يذكر المؤلف أن هذه البقعة كان يقطنها قبل قدوم المجموعات اليهودية مجموعة من السكان ” الكسالى ” الذين “لا فائدة منهم”.  وأنهم لم يبادروا في إحداث تبدل حقيقي في شكل ونمط الزراعة بفلسطين، رغم خصوبة الأرض ووفرة المياه فيها، وأن مظاهر التطوير والتحديث والاستثمار القصوى للأرض، بدأت مع انطلاقة الاستيطان اليهودي في فلسطين أواسط القرن التاسع عشر. والموضوعية العلمية تقتضي الإقرار بصحة بعض ما ذكره نتنياهو، فالواقع التاريخي يحدثنا أن الحياة الزراعية حتى العقد الثاني من القرن العشرين، ليس في فلسطين وحدها، كانت بدائية، ووسائل الإنتاج المستخدمة لم يطرأ عليها أي تغيير منذ قرون طويلة، وهذا راجع بالأصل إلى نمط الاقتصاد في السلطنة العثمانية، القائم أساسا على الجباية دون إدخال إجراءات إصلاحية لأي من القطاعات الاقتصادية، وفي المجال الزراعي تحديدا، كانت السلطنة تجبي من المزارعين ثلاثة أرباع ناتجهم السنوي، وتترك لهم الربع يتدبرون معيشتهم من خلاله، فكانت النتيجة الطبيعية أن يعزف الناس عن الاشتغال بالأرض وتطويرها، فتردى الوضع الزراعي بعموم المنطقة، بما فيها فلسطين، حتى إذا جاءت الجماعات الاستيطانية اليهودية إلى المنطقة، أخذت تستثمر بما لديها من معارف وخبرات اكتسبتها نتيجة احتكاكها بالمجتمعات الأوربية، وأحدثت بالفعل نقلة حقيقية في كافة المجالات المرتبطة بالزراعة.

   لكن النقطة الأهم المرتبطة بهذه المسألة على وجه التحديد، التي أغفلها نتنياهو وأسقطها بالكامل في سرده التاريخي، وهي أن الصيغة التي اقتحمت من خلالها القوى العالمية إلى المنطقة مطلع القرن العشرين، كانت تحت شعارات ومبررات حضارية بحتة، وأن هذه المبررات تنسجم مع الرسالة الإنسانية التي تكفل الرجل الأبيض تأديتها من خلال الارتقاء بالشعوب المتأخرة والنهوض بها، وتنمية قدراتها وإمكاناتها على نحو يؤهلها لكي تحكم نفسها. غير أن أيًا من هذه الوعود لم يتحقق، والقليل الذي أنجز في هذا الشأن لم يأت اكتماله إلا تلبية لحاجة تعزز من مظاهر الهيمنة الاستعمارية في المنطقة، وفي مقدمتها التمهيد لاستقبال مزيد من الهجرات اليهودية واستيطانهم في هذه الأرض، كمرحلة أولى تعقبها مرحلة إعلان الكيان الصهيوني.

   وفي سياق معالجته الإيديولوجية والتاريخية للعديد من الجوانب المرتبطة بالصراع العربي – الإسرائيلي، يعيد نتنياهو بلورة نظريته العنصرية إزاء العرب بالمجمل، باعتبارهم أمة لا نفع منها، ولا يمكن أن تستقيم في نهج الحضارة إلا من خلال سياسات القوة، وأنه لا يمكن الوثوق بهم، متلونون، يبدلون آراءهم ومواقفهم بسرعة عجيبة، وأن قادتهم السياسيون يتخذون من القضية الفلسطينية فزاعة لتحقيق أهدافهم الشخصية، وهذه النقطة تحديدًا لا يمكن المجادلة بشأنها، وتتوافق بالكامل مع تجربة كافة الأنظمة السياسية المحيطة بفلسطين.

   وبناء على هذه النظرية العنصرية تجاه العرب، يؤكد صاحب الكتاب في أكثر من موضع أن الوسيلة الأنجع للتعامل معهم ينبغي أن تكون مبنية وفق صيغة القوة. وبناء على هذه النظرة رسم الكاتب معالم العلاقة بين إسرائيل والدول العربية وصولا إلى مرحلة السلام، باعتبار أن ” قوة الردع المعتمدة على قوة الحسم” هي الصيغة الوحيدة التي يمكن من خلالها العبور إلى واقع السلام، وهي صيغة تنسجم مع الدول العربية باعتبار أن أنظمتها استبدادية، وهي بالضرورة صيغة مغايرة تماما للصيغة التي تعتمدها إسرائيل في تعاملها مع الأنظمة الديمقراطية حول العالم. واستكمالا لهذه الرؤية لا يعترف نتنياهو بأي حق من حقوق الشعب الفلسطيني التي تتعارض مع مصلحة ” الدولة اليهودية” واشتراطاتها، وفي مقدمتها ضمان أمن إسرائيل وحمايتها من أي اعتداء محتمل. واستكمالا لهذه النظرة يرفض الكاتب في طرحه فكرة التخلي عن الضفة الغربية وهضبة الجولان، باعتبارها مسألة تتعارض مع الاستراتيجية الأمنية لإسرائيل، إضافة لاعتماد هذه الأخيرة على هاتين المنطقتين في البعد المائي الضامن لاستمرارية تزويد الكيان بالماء النقي. واستكمالا للواقع المستقبلي الذي يسمح لإسرائيل أن تأخذ مكانا بارزا تحت شمس المنطقة، أكد الكتاب في أكثر من مكان على أهمية التطبيع مع الدول العربية، وتحديدا الدول النفطية، وهي الدول التي وصف بنيامين قياداتها بعد زيارته ومسؤولين إسرائيليين لعدد من عواصمها، باعتبارهم “الحلفاء”. غير أن الكتاب أغفل بالكامل، الثمن أو التعهدات التي من المفترض أن تلتزم بها إسرائيل لمرحلة ما بعد التطبيع.

   يستشعر القارئ للكتاب، حجم القلق الذي يسكن عقل المؤلف مما يعتبره الخطر الحقيقي الذي يهدد وجود إسرائيل ممثلا بالجمهورية الإيرانية، ففي أكثر من موضع يستحضر نتنياهو المخاوف من امتلاك إيران السلاح النووي، خصوصا في ظل حكم إسلامي راديكالي، وهي حالة من شأنها إذا اكتملت بنجاح أن تحدث تغييرا عميقا في موازين القوى بالمنطقة لصالح طهران، وهذا التغيير قد يتطور ويأخذ في التصاعد وصولا إلى حرب إقليمية. ولمواجهة هذا التهديد فإنه يحث في كتابه الدول العربية والولايات المتحدة الأمريكية إلى اعتماد سياسة الحصار والمقاطعة، وصولا لإجراء تغيير هيكلي في الجمهورية الإسلامية. وعبر السنوات الماضية لمس الجميع لحظات التحفيز التي أثارها رئيس الوزراء الإسرائيلي للقوى الدولية بهدف توجيه ضربة عسكرية قاصمة لإيران، وفي كل مرة كانت تعصف بدعواه أحداث وتطورات سياسية وعسكرية تعارض فكرته في التصعيد، ومع تكرار التحفيز وتوالي الإعراض أدرك غالبية المتابعين أن القرار العسكري لا يحظى بقبول وحماسة لدى المجتمع الدولي، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية. 

   وباعتبار أن الصيغة المقترحة إسرائيليا لا تحظى بقبول دولي، فإن الصيغة الواقعية المتاحة لكلا الطرفين، الإسرائيلي والإيراني على السواء، باتت محصورة ضمن ما يمكن تعريفه بتوافق الطرفين على صيغة مشتركة من التوظيف المتبادل للعناوين الخلافية العريضة، بحيث يظهر كل طرف حدود قوته ونفوذه في مساحة جغرافية على الأرض العربية من خلال اللجوء لما يعرف بـ ” حرب الوكلاء ” والاكتفاء بهذه الصيغة الدامية باعتبارها ترجمانا واقعيا لحالة الصراع بينهما. وهذه الحالة من التوظيف يمكن تلمسها في العديد من مشاهد النزاعات والخلافات التي تحفل بها المنطقة.

   بعد صدور الكتاب بفترة قصيرة تمكن نتنياهو من الوصول إلى رئاسة الحكومة في كيانه،  وتمكن خلال فترات رئاسته،  من تحقيق جزء غير قليل من رؤاه التي شرحها في كتابه، ابتداء من استبدال الصيغة الأصلية لفكرة السلام باعتبارها صيغة تبادلية الأرض مقابل السلام والاستعاضة عنها بصيغة أحادية، سلام مقابل سلام، ونجاحه كذلك في إعلان دولته باعتبارها دولة قومية يهودية، وتكثيف الاستيطان، وانتزاع اعتراف الولايات المتحدة باعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، والتعامل مع الجولان باعتباره جزءا لا ينفصل عن الكيان الصهيوني، والعلامة الفارقة في إنجازات هذا الرجل، نجاحه في اختراق منظومة دول الخليج العربي، والانخراط معها في عملية تطبيع مع أنظمتها السياسية، أما خطوته اللاحقة، التي عبر عنها من خلال وعده لناخبيه في حملته الانتخابية الأخيرة، التي تقاسم الفوز بها مع منافسه بيني غيتس، فستكون ضم غور الأردن والضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني، وهو الوعد ذاته الذي أطلقه منافسه غيتس لاحقا. ودلالة هذا التنافس، أن الحالة المتشددة التي كانت تضمن لنتنياهو بصورة دائمة وصولا آمنا للرئاسة، قد انقلبت عليه، بفضل تماهي منافسيه مع الحالة ذاتها، لا بل والمزاودة عليه من خلالها، وهي حالة يمكننا من خلالها تلمس واقع المنطقة في المراحل المقبلة، وأن لا شيء في الأفق سوى مزيد من التأزيم، ومزيد من الغطرسة الصهيونية.

الثاني بعد المئة سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني