من هو الجوكر؟

كتب بواسطة اسماعيل المقبالي

كثر مؤخرًا الحديث عن شخصية الجوكر، خصوصًا بعد الفلم الناجح الذي قام ببطولته خواكين فينيكس، وحصد عنها جائزة الأوسكار؛ لكن لهذه الشخصية المعقدة أبعادًا أخرى متوارية غير المقاييس الفنية، وحتى نفهم بشكل أكثر عمقًا سبب انجذابنا اللاواعي نحو هذه الشخصية وحضورها الطاغي على النفس؛ لا بد من فهم رموزها المبطنة ومسار تطورها.


ربما تكون شخصية الجوكرJoker (الذي هو امتداد لشخصية البوفون Buffoon أو المهرج Clown في العصور القديمة) من أعقد الشخصيات وأكثرها غموضًا؛ لكنها في الواقع تعكس صراعًا مألوفا تطرقت له أغلب الحضارات والأديان، فالجوكر في حقيقته هو المقابل الموضوعي للنظام والواقع والمنطق. فهو يرمز إلى الفوضى Chaos أو العماء أو الدخان الذي سبق الخلق، فهو يرمز إلى القوة التي كانت سارية قبل إيجاد النظام والوعي والمنطق. فهو الفناء الذي يتربص ببنيان عالمنا المرصوص المترابط، قوة الينج Yin السالبة التي تتكامل مع قوة اليانج Yang الموجبة، إنه ذلك الشعور المقلق في داخل النفس بأن خلف الشمس المشرقة ليل دامس، وخلف هدوء الطبيعة طاقة مدمرة، وخلف النسمات العليلة ريح صرصر عاتية. ذلك الشعور الغامض الذي لا يفتأ ينبعث من أعماق النفس كلما أمسكت بأسباب السعادة، لتكرر السؤال الأبدي، هل ما يحصل أمامي هو حقيقة أو وهم؟ هل ما اكتسبته هي جائزة أم مصيدة؟ لكن على الرغم من السلبية التي قد تكتنف توصيف قوة الجوكر المضادة؛ إلا أنها في حقيقتها قوة ضرورية لاستمرار عجلة الحياة، تسهم في خلق المعاني والصور، وبلغة الفيزيائيين فهي المادة المضادة التي لا بد أن تنشأ بالتوازي مع انبثاق المادة لتضمن استمراريتها. 

في معجم الرموز الذي صدر عن دار نشر Penguin، تُعرف المهرج Clown في ص207 بأنه “صورة للمك المقتول، إنه يرمز إلى انعكاس دور الملكية في الكلام والموقف والسمات، …..الوجه الآخر من عملة الملكية، محاكاة ساخرة تمشي على قدمين”، ويعرف المعجم البوفون  Buffoon في ص129″.. محاكاة ساخرة للشخصية (الأنا ) التي تكشف عن الطبيعة المزدوجة لكل شخص وجانبه المضحك. شخصية البوفون موجودة دائمًا في المناسبات الملكية، وفي مواكب النصر وفي المسرحيات. هذه الشخصية هي الوجه المعاكس للواقع… إن طاعتهم تسخر من السلطة من خلال مبالغة كبيرة، وأنها سوف تتذلل حتى تعدد كل أخطائك وإخفاقاتك.”


الصراع بين الباتمان والجوكر، هو إعادة للقصة التي يعرفها الجميع، الصراع بين الإله والشيطان، فالباتمان يحل بين الناس لكن في الوقت نفسه هو متوارٍ ومتعالٍ عنهم، ينظر لهم من علياء سمائه، ومن طرف خفيٍّ، حبه لهم غير مشروط، لكن في المقابل حب البشر له مرتبك، وتتخلله الشكوك والضبابية؛ لذلك يحتاج من حين إلى آخر أن يعاد تجديده مع كل نازلة، وتحيط بشخصية الباتمان الأساطير عن مدى قوته ورحمته بالبشر العاجزين، لا يعلمون كيف يظهر ولا متى يختفي، يقوم على خدمته ملاك أو خادم في عرشه المستور. يهبط الباتمان من عليائه كلما ضاقت بالبشر المحن واشتدت عليهم النوائب، لكن قبل ذلك عليهم أن يصلوا له ويبعثوا له بعلامة مميزة، إذا حلّت بهم ضائقة، وعجزت حيلتهم أن يصدوا الشر الحالّ بينهم، فيطلبوا تدخله المباشر، ومثلما أن لكل إله لا بد من شيطان أو قوة سالبة تنازعه في ملكه حسب التصور الديني، وتفسد عليه خلقه، وتشككهم في إيمانهم به، فكذلك لا بد لكل باتمان من جوكر يزيح عن قلوب مدينة غوثام غشاوة عبادته. فشخصية الجوكر إعادة وامتداد لشخصية المهرج أو البوفون التي يتعلق بها الملك، الصورة السالبة له. حتى في لعبة الكوتشينة يستطيع الجوكر أن يتغلب على باقي الورقات مع أنه لا يشكل عددًا أو سلطة؛ لأنه وحده الذي يستطيع كسر كل القوانين والأنظمة لطبيعته المزدوجة، فهو خارج عنها ولا يخضع لها أصلا لكنه حالّ فيها جميعاً في الوقت نفسه.


لكن لماذا يخاف الباتمان من الجوكر بالذات لهذا الحد، للإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم تاريخ تطور فكرة الإله نفسه كما حاولت أن تتصوره الأديان؛ فعندما كان الأنسان القديم يطور مفهومه عن الإله المعبود، كان في بدايته يدمج في تصوره هاتين الصورتين المتضادتين من الخير والشر، بحيث تتصارع في جوفه هاتان القوتان المتنافرتان لتتشكل الأحداث الخارجية وتدفع عجلة الزمن، مع مرور الوقت تطورت فكرة الإله، وحدث الانفصال ليصعد الإله بالخير للسماء، ويهبط الشر إلى قعر الأرض مع الشيطان لقعر الجحيم وهاديس.



أما من ناحية التفسير النفسي، فخلف الحالة الظاهرة للنفس Ego هناك ظلال shadow كامنة داخل غياهب النفس، فكما فسرها عالم النفس كارل غوستاف يونغ، كانت هذه الظلال في الفترة السحيقة من عمر البشرية هي من تتحكم في سلوكيات البشر، لكن مع تطور الوعي أخذت هذه الظلال النفسية تتوارى بعيدًا لتغوص في أعماق النفس، عندها بزغ فجر الضمير. بهذا الوعي خرج الإنسان من طور التوحش ليخطو نحو التمدن، فتأسس بنيان الحضارة على عين الإله أو الباتمان، ويعبر الجوكر عن هذه الظلال النفسية الكامنة في الأعماق، التي تخرج من حين إلى آخر على شكل اضطرابات عصابية وذهانية وفي رموز الأحلام، ولم يكن يجد لها الإنسان تفسيرًا علميا ليفهم مصدرها، وما المنطق الذي يحكمها. يذكر كارل غوستاف يونغ في كتابه ” الإنسان ورموزه” ص 21-22 “لقد طور الإنسان الوعي عنده ببطء ودأب، ومن خلال عملية استغرقت عصورًا من الزمان كي يبلغ حالة التحضر (التي وضع لها تاريخًا اعتباطيا هو اختراع الكتابة في حوالي 4000 سنة ق.ب) على أن هذا التطور لم يكتمل؛ نظرًا لأن مناطق كبيرة من عقل الإنسان غارقة في الظلمة، وما ندعوه النفس لا يتطابق البتة مع وعينا ومحتوياته، وليس هو نسخة طبق الأصل… فالوعي هو أحد المكتسبات الحديثة جداً التي حصل عليها الإنسان من الطبيعة، وهو ما يزال في طوره التجريبي، إنه هش…”

 لقد وعت الحضارات القديمة هذا الجانب المتواري والظلال الكامنة من النفس البشرية، وحاولت أن توازن بينها، فالمقابل الموضوعي للإله فشنو الذي يعبر عن النفس الواعية هناك طاقة عمائية مدمرة لا منطقية تتجسد في الشيفا المدمر، وأمام كل أوزوريس لا بد من سيث، وأمام كل ينج لا بد من يانج، وأمام كل إهورمازدا لا بد من اهريمان، وهكذا لا بد أن يوازن الإنسان بين هاتين الطاقتين التي تسري في الكون، الخلق والفناء، الإله والشيطان، الباتمان والجوكر.

تتشابه قصة بداية الجوكر مع قصة الشيطان، فهو كان قوة متصالحة ومتحدة مع قوة الإله عندما كانت الظلال النفسية هي المسيطرة؛ لكن حدثت له صدمة مع بداية بروز الوعي الآدمي عند البشر؛ لتتغير وظيفته نحو السعي لهدم بنيان حضارة الوعي الزائف واستعادة حالة الظلال الأولى، ليفسد على الإله خطته ويريه أن مشروعه البشري في الأرض ومدينة غوثام ما هو في الواقع إلا مشروع فاشل ورهان خاسر، ولا بد لنظام مدينة غوثام العاقل أن ينكشف فساده، فينهار حجاب الوهم والمايا، فيدرك البشر حقيقة الظلال النفسية التي هي الأصل. وهذا دأب الجوكر وهدفه الوحيد الذي يسعى له. وهو في الوقت نفسه مصدر الخوف الأكبر لدى الباتمان، بأن الوعي والنظام الذي تجسده مدينة غوثام ما هو في حقيقته إلا حيلة ليضمن بها الباتمان سيطرته وسلطانه، والحذر كل الحذر أن ينكشف الشيء في ذاته، وأن الجوكر الذي يدعو للحقيقة المجردة يمكن أن ينجح في مهمته ويزيح حجاب المايا. فينهار المعبد على من فيه، فتنكشف صحراء الواقع كما يسميها الفيلسوف سلافوي جيج. لذلك الجوكر يجمع المتناقضات فهو ذو سلوك غير منطقي، وجه لا تعرف هل هو ضاحك حد الجنون أم حزين حتى الموت، ولا يهتم لأمر جمع الثروة والمال، ويعتبرها من قذارات الباتمان وأوساخ نظام مدينة غوثام الفاسد، فهو فقط يسعى لكشف قناع الباتمان المزيف, والعودة للحالة النفسية الأصلية للظلال shadow التي نشأت وسارت عليها البشرية منذ أن دبت على هذه الأرض قبل أن تعرف مسألة الوعي الجديد والحادث.

 يلخص عالم النفس كارل غوستاف يونغ في كتابة ” النماذج البدئية واللاوعي الجمعي” في ص 45 ,ما يمكن أن نطلق عليه جوهر شخصية الشيطان، الجوكر، المهرج، البوفون، كما تتبدى في عالم الظلال النفسية Shadow فيذكر ما نصه ” في الطبيعة الشبحية تظهر الحكمة والحماقة كأنهما الشيء نفسه طالما الأنيما تؤدي دورهما. إن الحياة مجنونة وذات معنى في آن معًا، وعندما لا نضحك على وجه منها ونفكر بالوجه الآخر، تصبح الحياة رتيبة جداً، ويهبط كل شيء إلى مستواه الأدنى، إذن هناك القليل من المنطق والقليل من اللامنطق أيضًا…”, هنا نستعيد ضحكة الجوكر الهيستيرية، ومقولته الشهيرة في فلم “نهوض فارس الظلام” وهو يحكي قصته المؤلمة التي تركت علامتها على وجهه المشوه  ?Why So Serious – لماذا الجدية؟

أدب الرابع بعد المئة

عن الكاتب

اسماعيل المقبالي