واقعية خروج القوات الأمريكية … وتهيؤ منطقة الفراغ السيادي لمرحلة استلام المفتاح وتسليمه

كتب بواسطة نبال خماش

  لم يُعرف بعد على نحو واضح، مكمن الخطأ في الرسالة التي وجهتها واشنطن إلى بغداد، وهي التي أثير حولها ضجيج غير قليل، باعتبارها وثيقة رسمية صادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية، وتتضمن تأكيدًا ببدء قوات التحالف عمليات إعادة تموضع داخل العراق تهيئة لانسحاب نهائي، بصورة آمنة وفعالة. في البداية تناقلت كافة وكالات الأنباء ومحطات التلفزة والمواقع الإلكترونية نبأ هذه الرسالة، وسرعان ما  أصدر البنتاغون بيانًا أوضح فيه أن الرسالة وصلت إلى العراقيين عن طريق الخطأ. تبرير أثار أسئلة أكثر مما أعطى إجابة أو توضيحا،  فهل اقتصر الخطأ على إرسال الرسالة، فيما مضمونها صحيح؟ أم أن هناك خطأ في تحريرها وصياغتها على نحو أسيء منه فهم مقصد المسؤول الأمريكي؟ أم أن الخطأ ينحصر فقط  في مسألة تسريب الرسالة لوسائل الإعلام؟ أم أنه لا يوجد خطأ من أصله، وأن ترويج فكرة الخطأ ما هي إلا تهيئة لفكرة الانسحاب ابتداء من العراق في أقرب وقت، يليها بوقت غير بعيد انسحاب من سوريا، وفي المدى المتوسط انسحاب كامل القوات الأميركية من كامل المنطقة العربية؟    

   منطقة الشرق الأوسط هي مجال بالغ الأهمية بالنسبة للسياسة الأمريكية، ولأمنها القومي كذلك، هذه من المسلمات التي لا يختلف حولها أحد، إلا أن نقاط الاختلاف تبدأ بالظهور عندما يأخذ البحث مسارات غايته التدقيق فيما إذا ما زالت مبررات الأهمية تحتفظ  بالوزن والثقل ذاتهما، مقارنة بما كانت عليه قبل عشرين أو حتى عشرة أعوام على أقل تقدير. 

    ما من مجال لإنكار حقيقة أن بعض عناصر هذه الأهمية داخل الإقليم تتضاءل، وأن عناصر جديدة ومهمة تشكلت خارجه، وأن هذه العناصر الخارجية آخذة بالتضخم والاتساع، إلى أن أخذت طابعا دوليا، وتمكنت من إحداث حالة تنافسية مع النظام العالمي الذي ترعاه السياسة الأمريكية. إذ تسعى كل من الصين وروسيا إلى تأسيس نظام عالمي جديد يستجيب لمصالحهما أولا، ومصالح أحلافهما بالدرجة الثانية، وأظهرت أوجه النشاط الاقتصادية المتتابعة، كيف أصبح العمق الأورو- آسيوي هو ساحة التنافس الحقيقي بين النظامين.  

   هذا المستوى من التنافسية على مستوى دولي، يستدعي انتباها وتوجها أمريكيا أكبر لمواجهته، وعلى الأغلب فإن المجالات الجيوسياسية لهذا الوضع، ستكون بعيدة نسبيا عن منطقة الشرق الأوسط. صحيح أن الشرق الأوسط سيبقى محتفظا بأهميته وخصوصيته، لكن الاستحواذ عليه بالصورة المعتادة على مدى ستين عاما لم تعد مجدية، أو ذات نفع كبير، في مجمل نقاط الربح والخسارة بمواجهة القوى الصاعدة على مستوى العالم، ولن يعوض الحضور الأمريكي التقليدي في منطقة الشرق الأوسط، الخسائر التي ستصيبها نتيجة تخليها عن التنافسية في أماكن باتت أكثر أهمية وتأثيرا. بحيث تغدو مسألة تنافسية مثل قضية التعرفات الجمركية التي طغت على العلاقة الأمريكية- الصينية في الفترة القريبة الماضية، ما هي إلا قطرة في خضم تنافسي متسارع، يكاد يغطي مساحة العالم بمجمله. ومع تغير معالم النظام العالمي الجديد، أخذ محللون أميركيون باستحضار تنظيرات عرّاب سياستها القومية، هنري كيسنجر، ومراجعة شروحاته المتعلقة بمبدأ “الاحتواء” بصورة محددة.   

   وبالعودة إلى مبدأ الواقعية السياسية؛ فقد لوحظ في الفترات القريبة الماضية، مسألة أنه كلما تنامى الخلاف الأمريكي – الإيراني، يقابله تزايد فرص تدخل الصين وروسيا بالمنطقة، وتتعاظم معالم قوتهما وحضورهما في المنطقة، على المستويين: الاقتصادي والعسكري. وفي الوقت الذي كانت حظوظ هاتين القوتين تحقق انتعاشا وازدهارا في المنطقة؛ فإن تقهقرا بدأ يصيب الحضور الأمريكي في المنطقة، وهذه الحالة أضرت على نحو مباشر بحلفائها في المنطقة، ليبلغ في بعض الأحيان مستوى التعرض لخطر الزوال. ورغم محاولات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب –  تنحية الصفة الإقليمية عن عدد من القضايا الحساسة في المنطقة، وفي مقدمتها المشروع النووي الإيراني، إلا أن القوى العالمية ترفض هذا السياق الأمريكي، وما زال هناك إصرار على أن كل ما يتعلق بالملف الإيراني هو شأن إقليمي بامتياز.

   هذه الأبعاد، وغيرها، هي التي حفزت ترامب على التصريح في أكثر من مناسبة، بأن الوجود الأمريكي واستمراريته بهذا الشكل، ليس في العراق وحدها وإنما في المنطقة العربية برمتها، من أكثر القرارات سوءا على صعيد السياسة الأمريكية. ورافقت هذه التصريحات مواقف واضحة وحاسمة تصب في الاتجاه ذاته، وتتعارض مع استراتيجيات كانت تعد من ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، وبصورة أكثر تحديدا في منطقة الخليج العربي. ولو أشيع في السابق على سبيل المثال، أن منشآت آرامكو السعودية، التي تعد أهم منشأة في سوق النفط العالمي قد تعرضت لهجوم إيراني بطائرات موجهة، وأن ردة الفعل الأمريكي اقتصرت على التنديد الخطابي، دون أي خطوة إجرائية لمعاقبة الجهة التي نفذت الهجمة، فإن القصة برمتها ستصنف ضمن سرد اللامعقول. فكيف بنا إذا ذهبنا إلى ما هو أبعد واستذكرنا الدعوة التي أطلقها ترامب منذ أشهر قليلة، يدعو فيها الدول الكبرى التي تتزود بالنفط من منطقة الخليج، إلى حماية سفنها وهي تجتاز الخليج ومضيق هرمز، إنه إعلان التخلي عن القديم، بكامل سياساته واستراتيجياته الرئيسية. والإدارة الأمريكية اليوم راغبة تماما في سحب قواتها عن بعض الأماكن في المنطقة وتحديدا من العراق، الفكرة بالأساس حاضرة وغدت من أهداف السياسة الأمريكية الكبرى، شريطة أن لا يتحقق هذا الهدف تحت مبررات الاضطرار والاستجابة لضغوط العراقيين.

    وإذا كانت ” فرضية ” انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة على مراحل، نتيجة تتوافق مع معطيات التحليل الواقعي للسياسات، فإن الفراغ الذي ستخلفه هذه الخطوة وراءها لن يكون حيزه كبيرا وممتدا، وهي حالة ستعيد نبش المعضلة التي عايشتها المنطقة، ليس الآن أو في هذا العصر، وإنما يرجع حضورها لقرون خالية، إنها معضلة “الفراغ”، التي ألح هذا المنبر الإعلامي على ضرورة الالتفات إليها وإعطائها البعد الذي تستحقه من خلال المقالات وعروض الكتب المنشورة على صفحته. إن تحديد هوية الجهة أو الجهات الإقليمية التي تسعى إلى تحقيق مكاسب نتيجة هذا الانسحاب، والفراغ الناجم عنه عديدة، وحظوظ بعضها أكبر من الأخرى، والحديث هنا عن الحضور الفيزيائي المباشر.

   بالمقارنة مع الحالة النشطة التي تبذلها إسرائيل خلال الأعوام الماضية، التي تهدف إلى تأكيد حضورها وتعزيز مظاهر تغلغلها في المنطقة، استنادا إلى معطى تفوقها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي، إضافة إلى بنية نظام سياسي متماسك نوعا ما، مقارنة مع عموم دول المنطقة التي يظهر عجزها بصورة مدوية في التوصل فيما بينها إلى حدود معقولة من التفاهم المشترك، بمقارنة هذه المعطيات ببعضها، فإن إسرائيل تعتدّ بهذه الفروق النوعية باعتبارها تمنحها مبررًا لقيادة الإقليم وزعامته، وهي حالة مدعومة من جهات دولية وإقليمية عربية. غير أن هذه الرغبة تحول دون اكتمالها جملة من المعترضات الواقعية، أهمها معترضات من داخل إسرائيل وطبيعة كيانها قبل أي شيء آخر، فإسرائيل ” دولة ” محكومة بهاجسها الأمني، وهي لا تستطيع التحرر من هذا الهاجس، ليس اليوم ولا الغد، ومن ثم فإن مظاهر التوتر وعدم الاستقرار ستتضاعف. وبالإضافة إلى البعد الأمني هناك البعد الديني، باعتبار أن إسرائيل حددت هويتها بصفتها دولة دينية، وهي صفة تتعارض بالمطلق مع الهوية الثقافية للمنطقة بالمجمل

   إيران لها تجربة ما زالت حاضرة في ملء الفراغ  بالمنطقة، فعقب سقوط نظام صدام حسين استطاع الإيرانيون بسط نفوذهم في العراق بصورة مباشرة، وبفضل الروابط الاستخبارية والعسكرية المباشرة، تمكن الإيرانيون من تعزيز وجودهم الميداني في دول مجاورة “سوريا ولبنان” وبذا بات اكتمال رؤية “الهلال الشيعي” ممكنة ، بالمعنى الحرفي للكلمة. ومهد هذا الامتداد لتحقيق منافع استراتيجية متنوعة سواء على صعيد ما يعرف بظاهرة تيار المقاومة لإسرائيل من جهة، أو من خلال ذلك الأثر في تعزيز مظاهر النفوذ الإيراني في الخليج العربي انطلاقا من اليمن.

   لقد أظهرت الأحداث المتعاقبة منذ عام 2003 الى اليوم، كيف أن السياسة الأمريكية قد فشلت  في احتواء النفوذ الإيراني بالمنطقة، إضافة إلى التوصل لصيغة محسومة بشأن المفاعل النووي الإيراني، بالمقابل، وبرغم ظروف الحصار القاسية التي تتعرض لها، فإن طهران، بجهدها وجهد وكلائها، تمكنت من تحقيق مكاسب سياسية ذات قيمة، مقابل إخفاق خصومها الإقليميين في مجاراتها فيما أنجزته، ناهيك عن حالة عاجزة تماما عن إيجاد مخارج لمغامرات عسكرية، تحولت بفعل تراكم الالتزامات إلى ورطة. 

   إن هذه الوضعية من شأنها أن تخلق واقعا إقليميا جديدا، هلال ممتد من الشمال، وعنقود عنبي في الجنوب، الأول يعرف باعتباره امتدادًا طبيعيًا لتحالف دولي أكبر، يشمل الصين وروسيا، وهي منظومة تعمل على صياغة نظام عالمي ما بعد النظام الذي حددت معالمه الولايات المتحدة، وشكلت العالم بمقتضاه. وهناك منظومة في الجنوب، على هيئة عنقود عنبي، بدأ العطب والخلل يصيب بعض أجزائه، لسبب واحد وبسيط، وهو أن هذه الأجزاء وضعت كل رهاناتها وحساباتها في عهدة السياسات الأمريكية، والحصيلة أن كلا الطرفين بات عبئا على الآخر، وجه الاختلاف الوحيد، أن الذي يمتلك القوة يحدد في النهاية اختياراته، وبإمكانه التحرر من تعهداته وقتما يريد. 

الرابع بعد المئة سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني