مع الإعلانِ الرسميِّ لـ”صفقة القرن” أواخرَ شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، دخلتْ دولة الاحتلال الإسرائيليِّ في سباقٍ جديد مع الزمن سعيًا لفرضِ الأمر الواقع في مدن الضِّفةِ الغربيَّة المحتلة عبر السيطرة على المزيدِ من الأراضي وإقامة مستوطناتٍ جديدة أو توسعة ما هو قائمٌ منها، كترجمةٍ عمليَّة وفوريَّة للصفقة الأمريكيَّة التي استجابتْ ولبَّتْ رغبات الاحتلال على أكمل وجهٍ.
نشوةُ الانتصار سيطرتْ على قادة الاحتلال بعد الإعلان عن صفقةِ القرن، فرئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايتُه بنيامين نتنياهو كان يوزِّع الابتساماتِ على الهواء مباشرةً أمام الصحفيين وعدسات الإعلام في أثناء استعراضِ الرئيس الأمريكيِّ دونالد ترامب تفاصيلَ الصفقة في البيت الأبيض، في حين وصفها إسرائيليون آخرون بأنها حقَّقتْ لهم ما لم يكُونوا يحلُمون به يومًا.
ومقابلَ الإنجازِ الأمريكيِّ الإسرائيلي السابق، بدا الموقفُ الفلسطيني في أسوأ حالاتهِ بعدما ألغت الصفقة نظريًّا الحقوقَ والثوابت الوطنية خاصَّةً المتعلقة بالقدس المحتلة كعاصمةٍ مستقلةٍ للدولة الفلسطينية، إضافةً إلى حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، بجانب تلاشي حلم إقامةِ دولةٍ ذات سيادة، الأمر الذي جعل مختلف الأطراف الفلسطينية تتَّفِق على رفض الصفقة وما يترتب عليها.
الصفقةُ تقترح إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ بلا جيش أو سيادة، على مساحة 70% من الضفة الغربية المحتلة، على أن تكون عاصمتها بلدة “شعفاط” شمالَ شرقي القدس المحتلة، مع الإبقاء على مدينة القدس المحتلة عاصمةً موحَّدَةً لـ”إسرائيل” وتحت سيادتها، وكذلك تسمح للأخيرةِ بضمِّ نحو 40 بالمائة من أراضي المنطقة “ج” بالضفة الغربية.
وقسَّمت اتفاقية أوسلو أراضي الضفة الغربيَّة إلى (3) مناطقَ، هي “أ” و”ب” و”ج”، وتمثِّل المناطق “أ” نحو 18% من مساحةِ الضفة، وتسيطرُ عليها السلطة الفلسطينية أمنيًّا وإداريًّا، في حين تمثِّل المناطق “ب” 21%، وتخضع لإدارة مدنيَّةٍ فلسطينيَّةٍ وأمنيَّةٍ إسرائيليَّةٍ، أما المناطقُ المصنفة “ج”، فتشكِّلُ 61% من مساحة الضفة، فتخضع لسيطرة أمنيَّةٍ وإداريَّةٍ إسرائيليَّةٍ.
والدولةُ الفلسطينية وفق “صفقة القرن” ستكون دونَ جيشٍ أو بلا سيطرة على المجال الجويِّ والمعابر الحدوديَّةِ، وبلا أيِّ صلاحية لعقد اتفاقيات مع دول أجنبيَّةٍ. وتقترح الخطة إقامة “نفق” بين غزة والضفة الغربية يكون بمنزلة “ممرٍّ آمنٍ”، في صورة “أرخبيل”.
وأخيرًا منحت الإدارةُ الأمريكيَّةُ الاحتلالَ الفرصة العاجلة لبَدْءِ تطبيق صفقة القرن، في حين فرضتْ على الفلسطينيين الانتظار أربعة أعوام لتنفيذ ما يرونه مناسبًا في هذه الصفقة، باستثناء مطالبة السلطة بإعادة السيطرة على قطاع غزة بالكامل، ونزع سلاح حركتي “حماس” والجهاد الإسلامي عاجلًا.
التداعيات والخيارات
وعطفًا على ما سبق، يبرُز التساؤلان الآتيان: ما أصداءُ صفقة القرن على الصعيد الفلسطينيِّ الداخليِّ؟ وكيف يمكن التعاملُ معها وَفْقَ الخيارات المتاحةِ؟
للمرَّةِ الأولى منذ سنوات، اتَّفقت مختلفُ الاتجاهات الفلسطينيةِ على الرفض القاطع لصفقةِ القرن، فعقب الإعلان عن الصفقة تلقى رئيس السلطة محمود عباس اتصالًا هاتفيًّا من رئيس حركة “حماس” إسماعيل هنية، مؤكِّدًا أنَّ الشعبَ الفلسطينيَّ في خندق مشترك للحفاظ على القضيَّةِ الوطنيَّةِ والحقوق الكاملة في القدس واللاجئين والدولة.
وأكَّد الطرفان اللَّذان يشكِّلان طرفَيِ الانقسام الداخليِّ، أنَّ “أي مشروع يتجاوز حقوق شعبنا الفلسطيني الثابتة والواضحة لا مستقبلَ له على الإطلاق، مع أهميَّةِ العمل على المسارات السياسيَّةِ والدبلوماسيَّةِ والشعبيَّةِ لمواجهة الصفقةِ في الداخل والخارجِ”.
كما قال مصطفى البرغوثي، الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية: إنَّ “بنود الصفقة ليسَتْ سوى تكريسٍ لنظام الأبارتهايد الإسرائيليِّ ضد الشعب الفلسطينيِّ، ولتدميرِ أي فرصٍ للسلام في المنطقة، ومحاولةٍ لفرض التطبيع مع منظومة الأبارتهايد على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية”.
أما عبد الإله الأتيرة، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، فقال: إنَّ الأجواء العامة في الشارع الفلسطيني تذكِّرُ بانطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000م، وانتفاضة الحجارة قبلها، وأضاف أنَّ المقاومة “التي أقرَّها القانون الدوليُّ” حقٌّ مشروع للشعب الفلسطيني، في حين وصفَ صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الخطةَ الأمريكيَّةَ بـ”احتيالِ القرن”.
فالأطرافُ الفلسطينية على مختلفِ توجهاتها عبَّرت عن رفضها بصورةٍ قاطعة لصفقة القرن، وعبَّرت عن ذلك في بياناتٍ رسميَّة ومسيرات جماهيريَّة حاشدة حُرِقَتْ خلالها صورُ الرئيس دونالد ترامب تعبيرًا عن الغضب والاستنكار، إلا أنَّ التباين ما زال سيدَ الموقف حول كيفيَّة رفض الصفقة وإسقاطها.
الأصواتُ الشعبيَّةُ والتي تتبناها في الوقتِ ذاتهِ الفصائلُ المقاوِمة للاحتلال والمعارِضة لنهج منظمة التحرير، ترى أنَّ الردَّ على صفقة القرن يجب أن يأتي باعتماد قرارات المجلس المركزي والوطني السابقة التي طالبت بفك الارتباط السياسي والأمني والاقتصادي مع (إسرائيل) وإنهاء اتفاق أوسلو وسحب الاعتراف السابق بـ”إسرائيل”.
وحول ذلك علَّقتْ ماجدة المصري، عضو القيادة السياسية للجبهة الديمقراطية، في حديث صحفي: “إعلانهم لصفقة القرن أصلًا إنهاء لاتفاق أوسلو”، مؤكدةً أنَّ الشعب لديه استعدادٌ عالٍ للتضحية، لكنه يريد موقفًا واضحًا وموحَّدًا من قيادته”.
وفي أحاديثَ منفصلةٍ لـ”الفلق” اتفق نشطاء في المقاومة الشعبيَّةِ على أنَّ التصدي الحقيقيَّ لصفقة القرن يتطلَّبُ تنفيذَ عنصرين أساسيين، الأوَّل يتمثَّل في إنهاء حالة الانقسام الفلسطينيِّ الداخليِّ المستمرَّة منذ نحو (12) عامًا، والثاني توحيد العمل المشترك ضدَّ الاحتلال سواءٌ بالمقاومة الشعبيَّةِ أو المسلَّحةِ، وما دون ذلك سيكون مجرَّدَ أحاديث إعلاميَّةٍ لن تؤتِيَ أُكُلَها.
ويمكن للفلسطينيين زيادة وتيرة المظاهرات والمسيرات ذات الطابع الشعبيِّ السلميِّ تجاه المستوطنات ومشاريع التهويد والبناء في قرى وبلدات الضفة الغربيَّة المحتلَّة، وكذلك بالإمكان حشدُ الجماهيرِ في نقاط التَّماس مع جنود الاحتلال مع تكثيف حملاتِ المقاطعةِ للمنتجات الإسرائيليَّةِ واستغلال منصَّات التواصلِ في حشد الرأي العامِّ العربيِّ والعالميِّ ضد الصفقة.
ويعتقد نشطاء المقاومة الشعبيةِ أنَّ الرهان على منهج المفاوضات كسبيلٍ وحيدٍ للتسوية يجب أنْ ينتهيَ، خاصَّةً أنه لم يحقِّقْ نجاحاتٍ مفصليةً طوال العقودِ الماضية، فيجب أن يُعاد تفعيلُ فتيل المقاومة بكُلِّ أشكالها الممكنة وتعزيزُ الحالة الثورية للشعب الفلسطيني، مع الاتفاقِ على توجهات كفاحيَّةٍ مشتركةٍ وتقليل الفجوة بين القيادة والشعب.
والسلطة مطالبةٌ بتنفيذِ قراراتها التي أعلنت عنها مرارًا بأنها ستغيِّر من دورها الوظيفي وتنسحِبُ من الاتفاقيات التي وقَّعتها مع الاحتلال الذي لم يلتزم بها، بدلًا من الاستمرار في الدوران حول الحلقة المفرغة من الخطاباتوالتهديدات، خاصَّةً وأنها تمتلك أوراقَ قوةٍ تحتاج إلى لملمتها بما يمكِّنُها من “قلب الطاولة” في وجه السياسات الإسرائيلية المسنودة بالدعم الأمريكيِّ المطلق إلى حدٍّ ما.
الخلاصةُ أنَّ الحالة الفلسطينيَّة بعد الإعلان الرسميِّ عن صفقة القرن وشروعِ (إسرائيل) في تنفيذها على وجهِ السُّرعة، تتطلَّب “أفعالًا وليس مجرَّدَ كلامٍ لا يقدِّمُ ورُبَّما يؤَخِّرُ”.