قراءة في رواية رقص المغاصيب
يمكن اعتبار رواية “رقص المغاصيب” للكاتب العماني خليفة سليمان الصادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر بأنها رواية اجتماعية نفسية، يحاول الكاتب من خلالها معالجة قضايا اجتماعية تؤثر في بعض أفراد المجتمع بصورة كبيرة. يصور الكاتب زيارة بطل الرواية “طلال” للاختصاصية النفسية ليجد لنفسه الخلاص من تشتته الفكري والصراعات النفسية الكبيرة التي ألمّت به بسبب أفكار المجتمع من خرافات وعادات؛ مثل قصص السحر والحسد واعتبار الشعوذة علاجًا لهذه المشاكل، كما أن البطل يعيش في مجتمع قروي لا يقبل فكرة النقاش مع الأطفال، ولا يترك لهم المجال للتعبير عما بدواخلهم، ولا حتى إبداء آرائهم على أقل تقدير.
يبدأ سرد الكاتب للرواية في مكتب الاختصاصية النفسية حين يقوم طلال “بطل الرواية” بزيارات متكررة لمكتبها بعد نصيحة من صديقه عمر. وهنا يبدأ طلال بسرد قصصه بعد أن تطلب منه ثريا الاختصاصية أن يتكلم عن حياته في الصغر -الذي هو جزء أساسي للعلاج النفسي- وهنا يظهر تشتت طلال في حياته، وعدم قدرته على فهم ما حدث له، هل هو سحر أو مرض عضوي أو مجرد أوهام بسبب ما يسمعه في مجتمعه. كما يظهر هذا التشتت في سرد بطل الرواية للأحداث حين يمزج في حديثة بين قصته والأحداث التي تخللت حياته وما يقوله الفلاسفة في الموضوع. هل ما حدث كان سحرًا أو وهمًا أم هو واقع !!؟
كما يثير الكاتب قضية قد تكون مخبأة في المجتمع، ولا يراد لها أن تخرج؛ إلا أن الكاتب يظهرها وبشكل ربما يكون فجّا نوعا ما وبطريقة قد لا تكون مقبولة في المجتمع، وهي قضية “ختان المرأة”. ومن خلالها يظهر الكاتب اختلاط المشاعر والفضول عند طلال، الذي ربما يكون هو السبب الذي أحدث الصدمة له. يظهر ذلك في قصة طلال مع “أم سعيد الختّانة” حينما دخله الفضول لمعرفة سرها، بعد أن سمع اطفال الحي ينادون باسمها ليخبروا بعضهم أنها أتت وأن عليهم الهروب منها؛ فقد كان طلال يريد أن يعرف لماذا يهرب الأطفال فزعًا من أم سعيد. يقوده فضوله لمشاهدة أم سعيد وهي تدخل بيت أحد الجيران، فيدخل وراءها متسللا، ويشاهد ما حدث للفتاة الصغيرة سلمى. يُكتشف أمره ويتم تهديده بالعقاب وإخبار أهله بما ارتكب من جرم مخالف للعادات والتقاليد. وهنا يظهر أن طلال كان فضوليا جدًا، وكذلك يظهر – وكما هو الحال في أغلب المجتمعات العربية- أن الخوف من الأهل يسبق الاحترام والحب. حين يخاف طلال من أن يصل أمره الى أهل بيته. وهذا ما يعكس غياب العاطفة السليمة في المجتمع الذي يتسبب بعد حين بظهور مشاكل على الأبناء كما حدث مع طلال وقصته مع ثريا.
كما يعكس الكاتب أيضا الجهل في المجتمع الذي يعيش فيه بطل الرواية حول الثقافة الجنسية؛ ونظرة المجتمع للمرأة على أنها جسد للمتعة حين يسرد تكملة قصته مع أم سعيد وما فعلته بسلمى ابنة أم منصور؛ وحين يذكر ما تفعله أم منصور مع بطل الرواية حين يُطلب منها أن تمارس طقوس فك الحسد. “كانت أم منصور تتمتم ببعض الكلمات التي لم أفهمها. خلعت ما ترتديه من ملابس ببطء شديد، قطعة تلو الأخرى، وهي تردد اسمي واسم أمي مع مجموعة من التعويذات غير المفهومة. وبعد أن أصبحت عارية تمامًا، بدأت في تخطي جسدي…” إلى أن قال: “أنظر إلى جسدها بتمعن.. لأول مرة في حياتي أدرك أن هناك فرقًا بين تفاصيل جسدي وتفاصيل جسد المرأة”. هنا يحاول الكاتب إظهار تفاصيل كان يمكن تجنبها، ولكن هي النظرة العامة للمرأة في أغلب المجتمعات الشرقية.
ثم يعرج الكاتب إلى اطلاع “طلال” على كتب الفلسفة وما يقوله الفلاسفة في حالته في محاولة منه لإيجاد حل لمشكلته؛ بينما هو فالحقيقة يزيد نفسه تشتتًا حين يقول الراوي “سئمت من القراءة في الفلسفة التي أوصلتني إلى المزيد من الأسئلة. ابن رشد في رده على الإمام أبي حامد الغزالي قال إن من المستحيل أن يأتي العلم الشرعي بما يخالف العقل. فالغزالي تحدث في تهافت الفلاسفة عن قصور العقل وانتقد الفلسفة. الغزالي كتب أيضا عن الإرادة الإلهية الفاعلة وأنها فوق كل الأسباب، وتحدث في قصور العقل عن إدراك الفلسفة… إلى أن قال لا مخرج إذًا في الفلسفة؛ فالآراء الفلسفية تناقض نفسها، ولا شيء ثابتًا أستطيع الاعتماد علية للخروج من دوامات المعرفة”. وهنا يظهر الكاتب محاولة يائسة لإظهار قوة الفلسفة والتفسيرات العقلية التي تحاول تفسير المشكلة، إلا أن طلال نفسه كما قال “الآراء الفلسفية تناقض نفسها”.
والسؤال هو لماذا يصر الراوي على ذكر الفلسفة المجردة وصراعها مع الدين!! مع أن بطل الرواية يقول إن الآراء الفلسفية لم تكن لتفيد في مشكلته؛ بل زادت منها. كما يحاول الكاتب أن يستفز المؤمنين بالغيب حين يذكر قصة موت زهرة زوجة الدهان؛ يقول: “أظهر الدهان تقبله لأمر الله؛ لكنه أشار إلى أن وفاة زوجته مفاجئة وغير منطقية”. هنا يحاول الكاتب أن يقول بأنه ليس كل ما يحدث لنا بسبب القضاء والقدر؛ بل قد تكون هناك أسباب أخرى يجب البحث فيها. ونلاحظ هنا أنه كان من الممكن على الكاتب أن يتجنب ذكر هذا الشيء، خصوصا وأننا في مجتمعات غالبيتها تؤمن بأن كل شيء يحدث فهو مقدر من الله سبحانه وتعالى، حتى وإن وجدت الأسباب.
ثم يعرج الكاتب إلى مشكلة طلال من جانب آخر، أرى أنه هو السبب الأكبر في مشكلته، وهو جانب العاطفة والحب اللذين فقدهما وهو في مجتمع القرية؛ حيث لا مكان لتلك المشاعر، خاصة في تلك الحقبة الزمنية، ويظهر ذلك في نهاية الرواية، وفي آخر جلسة لطلال مع ثريا الاختصاصية النفسية، وبعد نصيحتها له بأن يزور طبيبا نفسيا، يقول الراوي:
“أنا: لست مضطربا نفسيا.
ثريا: ربما، ولكن لكي تطمئن على نفسك.
أنا: وقد بدأت أرتعش بقوة: أنا أحبك.
صدمت ثريا من تلك الكلمة. تراجعت نحو الخلف. رقص جسدها أيضا وارتعش.”
يتضح هنا أن طلال مصاب بنقص عاطفي حاد له دور كبير في تلك الأوهام أو ما يسميها سحرًا.
ويظهر هنا أيضا أن كلمة أحبك أو الحب في مجتمعاتنا الشرقية كلمة ثقيلة، فنحن غالبا نفسر الحب على أنه علاقة غرامية بين ذكر وأنثى. وهنا يجب على الأبوين أن يزرعوا ثقافة الحب داخل العائلة، حتى لا تضطرب عواطف الأبناء بعد حين.
لقد وظف الكاتب الشخصيات بطريقة ممتازة جدا، وأظهر اهتماما كبيرا بها، وهذا يعطي الرواية بعدا خياليا جميلا للقارئ، ويجعله مندمجا مع الرواية حين يربط الأحداث بالشخوص. أيضا استخدم الكاتب لغة سلسة ومفهومه بدون أي تكلف أو دخول إلى المصطلحات العمانية الدارجة، مما جعل الرواية يسيرة على القارئ أن يفهمها. إلا أن تشتته بين الفلسفة وأحداث الرواية قد يزعج القُراء أحيانا، ويتسبب في تشتيت القارئ وإبعاده عن الأحداث وخوضه في أمور قد لا يكون لاستطرادها داعٍ أثناء السرد.
ختاما الرواية تستحق القراءة خصوصا للباحثين النفسيين والاجتماعيين والمهتمين بفلسفة العقل وعلاقتها بالدين، أو حتى أولئك الذين يبحثون عن قصص الذعر والخيال.