مدى جواز التفتيش عند جواز القبض

كتب بواسطة سامي السعدي

حدث أن تحصّل مأمور الضبط القضائي  على إذن من الادعاء العام بالقبض على أحد المتهمين، وعندما ناظر المتهم مركبة السلطة الضبطية بادر بالهرب، وبعد مطاردة توقفت مركبة المتهم نتاج ارتطامها بأحد المتاريس الطبيعية، ليتم القبض على المتهم  وتفتيشه تفتيشًا وقائيًا،  ثم عمد مأمور الضبط القضائي إلى تفتيش مركبة المتهم المقبوض عليه  تفتيشاً رضائياً .

وعلى إثر ذلك؛ نطرح التساؤل الآتي:

لماذا عمد مأمور الضبط إلى التفتيش الرضائي ليفتش  مركبة المتهم  المقبوض  عليه؟ وإلى التفتيش الوقائي لتحسس جسمه ؟ أما كان بوسعه أن يفتش المقبوض عليه ومركبته تفتيشاً إجرائياً ( قضائيا) ؟ أم تراه وقف مع ظاهر الإذن، الذي سطر فيه القبض فقط، ولم يتضمن التفتيش.

ثم لماذا لم يعمل قاعدة  قانونية مفادها << إذا جاز القبض جاز التفتيش>> وهي القاعدة المنصوص عليها في المادة (77) من قانون الإجراءات الجزائية؟  

وهل يمكن الحديث عن خطأ إجرائي في حال عمد المأمور إلى تفتيش المركبة ركوناً إلى أمر القبض الصادر إليه  من الادعاء العام ؟ 

ما هو نطاق تفعيل ذلك الأمر الصادر بالقبض فقط دون التفتيش ؟ هل يقف عند حد القبض فقط أم يمتد إلى التفتيش باعتبار التفتيش من توابع القبض ؟ لأنه حتى في تفتيش المأمور لشخص المتهم ، ركن إلى التفتيش الوقائي وفق نص المادة (46) من قانون الإجراءات الجزائية  لإضفاء الصحة على ما تمخض من تلبس، ولم يتحدث عن تفتيش إجرائي. 

إن المثال أعلاه، وما تلاه من تساؤلات، يقودنا في هذا المقال إلى بحث مسألة تتعلق بنطاق إعمال قاعدة ( جواز التفتيش عند جواز القبض ) أو بصورة أدق ، نطاق إعمال النص القانوني الرقيم بـ(77) من قانون الإجراءات الجزائية 

ـ وقبل الذهاب إلى سبر غور  النص (77) يلزمنا الوقوف على معنى التفتيش الذي نطرحه هنا ، وهو التفتيش  الإجرائي ( القضائي) الذي رسم  وحدد معالمه قانون الإجراءات في أكثر من نص، وبناءً عليه فإنه تخرج عن موضوعنا الأنواع الأخرى من التفتيش غير الإجرائية أو غير القضائية ، ومثالها الرضائي والإداري  والوقائي والتعاقدي، وكذلك التفتيش الذي تستلزمه الضرورة الإجرائية .  

إن التفتيش  الإجرائي الذي نتناوله  هنا هو التفتيش الذي يبحث عن مستودع  السر لدى المتهم، الأمر الذي يتطلب أن يكون على إثر جريمة وقعت، بغية الوقوف  على فاعلها أو أدلتها أو غير ذلك  من الغايات الإجرائية.

وقد عبر المشرع عن ذلك بقالب ( كشف الحقيقة ) الذي وظفه في عدة نصوص من قانون الإجراءات الجزائية .

لقد رسم المشرع العماني نص المادة (77) من قانون الإجراءات الجزائية وفق الآتي :<< لمأمور الضبط القضائي تفتيش المتهم  في الأحوال التي يجوز قانوناً القبض عليه>>. 

وهو نص يقابله في قانون الإجراءات الجنائية المصري النص رقم (46)  وفق الآتي :<< في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانوناً على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه>>.

أولاً / أما عن نطاق إعمال هذه القاعدة  القانونية فقد ذهب الفقه والقضاء في الغالب إلى إطلاق النص، ليكون التفتيش جائزاً على إطلاقه متى ما كان القبض صحيحاً .

وقد عبر الفقيه ( محمود نجيب حسني) عن ذلك، حيث ذهب إلى أن الشارع من خلال هذا النص يقرر الارتباط بين  مجالي القبض والتفتيش؛ فحيث يكون القبض  على الشخص جائزاً يكون التفتيش كذلك جائزاً. ثم يذهب إلى رصد العلة من هذا الارتباط على أن التفتيش يفترض مساساً بالحرية الشخصية  بشكل أقل من المساس الذي يفترضه  القبض. الأمر الذي يسلس من وجهة نظره إلى أنه إذا كان المساس الأكثر (القبض ) جائزاً ، فإن المساس الأقل (التفتيش) يكون من باب أولى جائزاً . ( الدستور والقانون الجنائي ـ سنة 1992م صفحة (87))

كما أن محكمة النقض المصرية أخذت بعموم النص ، ولم تحده بحدود تحجب التفتيش الإجرائي لحظة كون القبض جائز، فقالت في ذلك:<< كلما كان القبض صحيحاً كان التفتيش صحيحاً والعكس صحيح>> وذهبت  في مبدأ آخر إلى << أن من حق رجال الضبطية  القضائية  أن يفتشوا المتهم بغير إذن  من النيابة كلما كان لهم حق القبض عليه قانوناً >> وقالت أيضاً ” إن تفتيش الشخص من توابع القبض عليه ومستلزماته>>

هذا ما سطرته محكمة النقض المصرية ، وما اعتنقته من تفسير لنص المادة (46) من قانون الإجراءات الجنائية المصري، وهي المادة التي يقابلها في قانون الإجراءات الجزائية  العماني نص المادة (77). وذاك ما سار عليه الفقه المصري، ولم أقف على مبدأ لمحكمتنا  العليا الموقرة يفسر نص المادة (77) ، وإن كانت هناك مبادئ في حقل التفتيش ، سنأتي عليها لاحقاً . وبالعودة إلى المثال الذي افتتحنا به هذا الموضوع ، وإسقاط ما تقدم من رأي لمحكمة النقض المصرية ، والرأي الفقهي ، نقول أنه كان بوسع مأمور الضبط  أن يفتش المتهم ( المقبوض عليه) تفتيشاً اجرائياً دقيقاً ، يتماهى مع الجريمة محل إذن القبض ، متمسكاً بإطلاق نص المادة (77). 

ثــــانياً / غير أنه ماذا لو اعطينا نص المادة (77) قراءة مغايرة ، تحد من إطلاقها وترسم لها نطاقاً محدداً ، قراءة مفادها أن نص المادة (77) ذكرت مصطلح ( الأحوال) غير أنها لم تذكر تلك الحالات على سبيل الحصر. وبوسعنا أن نوجز الحالات التي يجوز فيها لمأمور الضبط إلقاء القبض على الشخص في حالتين  هما : أن يكون هناك إذن من الادعاء العام أو أن تكون هناك حالة من حالات التلبس المنصوص عليها في المادة (38) من القانون.

ويخلص هذا الرأي إلى أن التفتيش الوارد في نص المادة (46) والتي تقابلها المادة (77) في عمان ، إنما هو التفتيش الذي يجريه مأمور الضبط بناءً على حالة من حالات التلبس.

ويركنون في ذلك إلى مسوغين:

أ ـ مسوغ لغوي: مفاده أن نص المادة (77) في حقيقته محل إحالة إلى نص المادة (38) وما بعدها المادة (42) ، بدلالة اتحاد مصطلح {الأحوال } بمعنى أن الأحوال التي عنتها المادة (77) هي ذاتها الأحوال الواردة في نص المادة (38) وعليه فإن القبض الذي يخول  لمأمور الضبط  التفتيش هو القبض الذي يمارسه المأمور من تلقاء نفسه بناءً على حالة من حالات التلبس، وليس القبض الذي يصدر بناءً على إذن من الادعاء العام.

ب ـ مسوغ موضوعي ، ينبثق من معنى التفتيش الإجرائي ، الذي  هو إجراء هادف غايته كشف الحقيقة عن جريمة محل تحقيق، فإذا فقد هذه الغاية الموضوعية  صار باطلاً . في حين أن أوامر القبض الصادرة من الادعاء العام بالقبض ليس بالضرورة تحمل هذه الغاية ، والمثال على ذلك ، أمر القبض الصادر ضد شاهد تخلف عن أداء الشهادة. كيف يسوغ أن يباشر ضده تفتيشاً إجرائياً ، وليس هناك نطاق موضوعي ( جريمة ) تستوعب ذلك الإجراء . وقد تبنى هذا الرأي الدكتور عوض محمد ( تعليقات على أحكام القضاء ـ ص 89)

وإعمالاً لهذا الرأي يكون مأمور الضبط القضائي الذي باشر تفتيشاً  وقائياً ضد المتهم ورضائياً على المركبة ، قد أعمل صحيح القانون، لأنه لم يكن بوسعه أن يفتش تفتيشاً إجرائياً ، لأن الادعاء لم يأذن له بذلك، ولم يكن بوسعه أن يعمل نص المادة (77) لأنه لم يكن في حالة من حالات التلبس. 

أما ما ساقه  القائلون بإطلاق القاعدة من مبررات تمثلت في الضرر الأخف للمساس بالحرية وتبعية التفتيش للقبض، فعارضه الآخذون بالتضييق بقالة أن الحريات لا ممايزة  بينها إذا  ما تم انتهاكها، فانتهاك  حرمة شخص بالتغول إلى مستودع سره لا تقل ضرراً عن القبض عليه. ثم إن التفتيش ليس تابعاً للقبض فهو إجراء مستقل وموازِ للقبض ، لذلك يتصور أن يكون هناك قبض دون تفتيش ، والعكس صحيح، وإن كان التفتيش يقتضي في حده الأدنى قبضاً لإنفاذه وإن كان يسيراً. وهو ما أشارت إليه المادة  ( 77 ) حين علقت صحة إجراء التفتيش حين يجوز القبض وليس حين يقع .

أخيراً، بين تلكم القراءتين ، للقاعدة القانونية ، ( جواز القبض عند جواز التفتيش)) نجدنا مع القراءة المضيقة ، ليس لأن التوسعة  في سلطات المأمور تضعف وتنال من ضمانات المتهم، وإنما لأن صياغة النص تظهر الارتباط بحالات التلبس، ولأن قرارات القبض الصادرة من الادعاء العام ليس جميعها يستهدف كشف الحقيقة ، الذي هو شرط صحة لإجراء التفتيش الإجرائي.

الرابع بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

سامي السعدي

محامي عماني