التشتت التاريخي في لبنان

كتب بواسطة مصطفى شلش

“تشهد لبنان أزمة سياسية طاحنة على خلفية تظاهرات حاشدة اندلعت منذ 17 أكتوبر 2019، واستقالت على إثرها حكومة سعد الحريري وتشكلت حكومة جديدة برئاسة حسن دياب مع زيادة في تعثر الوضع الاقتصادي للبلاد.”

هذا الخبر البسيط ذو الدلالة التاريخية قد نجد من لا يتفق عليه في لبنان، ويرى أن ما حدث في 17 أكتوبر مؤامرة ضد سعد الحريري أو مَن يعترض على وصفها بالتظاهرات ويعبر عنها بـ “الثورة”.. إلخ. 

تُعد الأحداث التاريخية في لبنان إحدى القضايا الخلافية الضخمة؛ حيث لا تجد بسهولة تاريخًا يتفق عليه المؤرخون أو المواطنون؛ إذ يشير كمال الصليبي في كتابه “بيت بمنازل كثيرة”: “أن الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) كانت حربًا على التاريخ كما كانت حربًا من أجل تقاسم السلطة بين مختلف الجماعات الدينية والسياسية والاجتماعية.”

وتأسيسًا على الإشكالية التي نوه عنها الصليبي فيما يخص التاريخ اللبناني، قدم عبدالرحيم أبو حسين أستاذ دائرة التاريخ بالجامعة الأمريكية ببيروت عملًا أكاديميًا لكيفية “تَشكُل لبنان” بعنوان: Rebellion, myth making and nation building : Lebanon from an Ottoman mountain Iltizam to a nation state صدر في العام 2009 عن معهد الأبحاث اللغوية والثقافية في آسيا وأفريقيا بجامعة طوكيو. وعرف الكتاب طريقه للعربية عام 2019 عن دار الساقي بعنوان: صناعة الأسطورة، حكاية التمرد الطويل في جبل لبنان.

عن الكتاب

يعد كتاب ” صناعة الأسطورة، حكاية التمرد الطويل في جبل لبنان” دراسة تاريخية يقول عنها صاحبها أنها لا تحتكر الحقيقة، ولا يدعي فيها  كونها الأولى في القراءات التاريخية لتشكل الدولة اللبنانية، ولكن، يستند العمل إلى الأرشيف العثماني فيما يخص الدولة المختلف في أصل تكونها. فهناك من ينظرون إلى لبنان أنها “بعث فينيقيا” أي إن لبنان كيان موجود ومستمر منذ ستة آلاف سنة، وهناك من يرى لبنان ليست إلا مُحيطًا جغرافيا شكل ملجأ للطوائف المضطهدة من غير المسلمين خصوصًا، وللجماعات الإسلامية التي اتهمت بالهرطقة وتمت مطارتها وهربت من بطش الحكم في المناطق الإسلامية الأخرى، وهناك من يرى لبنان ما هي إلا نتاج الحرب العالمية الثانية، ونتجت عن مخططات الإمبريالية في بدايات القرن العشرين.

وعلى الصعيد الأكاديمي يشير عبدالرحيم أن الاختلاف حول تاريخ لبنان “نعمة” فهو يجعل المؤرخ يعمل قدر المستطاع بعيدًا عن أي تحيزات عرقية أو مذهبية أو قومية؛ فلا قراءة رسمية لدولة عن تاريخها، ولكن هذا لا يعني في نظرنا أن المؤرخ دائمًا حر أو صاحب ضمير حي، وهذه الإشكالية ستواجه المؤلف نفسه إذ لا يجد كثيرًا من المراجع الحيادية أو المُحكمة؛ بل سيجد الكثير من الطمس والتغيير والاستبعاد حسب الظرف التاريخي، وحسب ما يحمي مصالح أهل السلطة في الوقت المُراد دراسته.

التمرد الطويل وصُنع لبنان

 

“في الأول من سبتمبر/أيلول 1920، أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو دولة لبنان الكبير، وهذا الإعلان جاء بعد ضغط الكنيسة المارونية على فرنسا، لينتج عنه دولة لبنان المعروفة بحدودها الحالية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.” لكن، في نظر عبدالرحيم فـ “لبنان” كان يتشكل وفقًا لعوامل محلية وإقليمية ودولية على الأقل منذ العقود الأخيرة للقرن السابع عشر. لهذا لا يمكن إهمال التطورات المحلية لعملية التشكل، ويعرف عبدالرحيم “عملية التشكل” بكونها الأوضاع السياسية والمواقف العملية لبعض الجماعات التي أدت إلى نشوء كيان سياسي تأسس حوله فيما بعد دولة “لبنان المعاصرة”.

ويعارض عبدالرحيم بشكل من التفصيل ما أعتبره “أسطورة” تشير إلى أن لبنان بشكل حصري مجرد نتاج للسياسات الدولية أو المساعي المارونية، كما يشير أنه لا وجود لما عُرف بلبنان الأبدي (الفينقي) حتى قبل الحُكم العثماني. ويستند إلى الأرشيفات العثمانية لكي يقف على “الكيان السياسي” المتكون قبل حُكم العثمانيين وأثناءه.

فالمنطقة الجغرافية التي تشكل الرقعة المركزية للبنان الذي تكون في 1920 سماها العثمانيون في دفاترهم الإدراية سنجق “صيدا-بيروت” التابعة لولاية دمشق حتى 1660. وكانت تتألف من الشريط الساحلي الممتد بطول 60 كم تقريبًا من خليج المعاملتين شمال مدينة جونيه إلى وادي الزهراني جنوب صيدا، وتشتمل على النواحي الجبلية المتاخمة للساحل، وهي نواحي إقليم الخروب والشوف والغرب والجرد والمتن وكسروان. وقد شهدت المناطق الجبلية تطورات سياسية مبكرة جدًا عن المدن الساحلية مثل صيدا وبيروت وطرابلس.

وقد كانت التوزيعة السكانية مشابهة لحد قريب حتى الآن، فالمسلمون السنة يتوزعون على إقليم الخروب بينما الشوف والغرب والجرد والمتن موطن للدروز، وشهدت هذه المناطق حركة استيطان مسيحي كثيف من مختلف الطوائف من بداية القرن السابع عشر. وسكن المسلمون الشيعة خصوصًا الاثني عشرية منهم مدينة كسروان، وقد شهدت المنطقة الأخيرة استيطانًا مارونيًا متزايدًا بعد عملية نزوح من مدينة طرابلس، ومع هذا التنوع الكبير داخل سنجق “صيدا-بيروت” فقد كانت الهيمنة السياسية لصالح الدروز. 

ويسلط عبدالرحيم الضوء على فِعل المقاومة العربية عمومًا ولبنان خصوصًا لما اعتبره جميع المؤرخين والجماعات العرقية والدينية (عدا الإسلاميين الذين يرون الخلافة الشرعية مرتكزة في يد العثمانين) أنها فترة احتلال تركي ظلامي عانت منه الأقطار الخاضعة لدولة العثمانية للفساد والانحطاط الشاملين، وقد كُتبت مئات الكتب وآلاف الصفحات عن مقاومة اللبنانين للترك التي امتدت على نحو 400 سنة، لكن، دون تقديم أي دليل يثبت وجودها على حد وصف عبدالرحيم، فالموارنة أكثر الجماعات ادعاءً بأنها قادت هذه المقاومة لم تكن قائدا ولا حتى شريكا فيها من الأساس؛ فما يطلق عليه عبدالرحيم “التمرد الكبير” الذي أدى بدون قصد إلى تأسيس الكيان اللبناني؛ كان الخطوة الأولى لقيام متصرفة جبل لبنان 1861 المتمتعة بالحكم الذاتي والاعتراف والحماية الدولية. 

والتمرد الكبير في نظر عبدالرحيم هو الحلقة الأهم في فهم تاريخ لبنان؛ حيث تم خلق الكيان السياسي والظروف المادية والموضوعية لكل ما سيأتي بعده، ويقصد بالتمرد الصراع الذي نشأ بين الدروز والعثمانيين (1516-1697) وقد تجاهلته الكثير من المصادر المحلية والمارونية.

فعندما فتح العثمانيون الشام؛ قاد 4 أمراء من الدروز أبرزهم ناصر الدين بن الحنش تمردًا عسكريًا ضدهم، وسرعان ما تم سحق الأمراء وأعدم ناصر الدين. في الوهلة الأولى للقراءة التاريخية يظهر الأمر أن الأمراء من بقايا الدولة المملوكية؛ ولكن كانت هناك أبعاد أخرى تتعلق بالاقتصاد، وهو التعاون بين الشام (بيروت تحديدًا) ومدينة البندقية الإيطالية وفقدان السيطرة الدرزية على المناطق الاقتصادية المتاخمة للمدن الساحلية التي باتت في سيطرة العثمانيين. 

فقد شكل ميناء بيروت النقطة الأهم في صراع العثمانيين والدروز ومن خلفهم البنادقة، لذلك كثرت هجمات القراصنة (الفرنجة) للسيطرة على الميناء، وقد ساعدهم الدروز إلى أن تمكن خُرم باشا عام 1523 من تدمير منطقة الشوف الحيطي، وإحراق قرى الدروز، وأخذ مئات المخطوطات الدينية التي صدر من خلالها فتوى بتكفير الدروز. 

لم يفقد الهجوم العثماني الدروز قوتهم؛ بل قتلوا الصوباشي وجنوده الذين عينهم خرم باشا للسيطرة على المناطق الدرزية، وبدأ الدروز بقيادة آل معن بشراء الأسلحة النارية بمعدلات أقلقت عاصمة الخلافة وصدر عام 1574 فرمان لدمشق بضرورة تجريد الدروز من الأسلحة النارية، ولم يتمكن العثمانيون من وقف التمرد الدرزي إلا عام 1585 مع حملة عسكرية ضخمة قادها إبراهيم باشا، وجمع لها الجنود من كافة أراضي الخلافة العثمانية، وهذا دليل على خطورة الوضع الذي وصلت له الأمور في مناطق الدروز.

لم يتوقف التمرد الدرزي طويلًا ليعود مع ظهور قوة إيطالية جديدة منذ العام 1605 وهي توسكانيا التي كانت مدعومة من بابا الكاثوليك في هذا الوقت خصوصًا فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط وفتحت توسكانيا خط تواصل مع الزعيم الدرزي فخر الدين المعني، وتعاون الأخير مع البابا كليمنت الثامن، كما كانت تجمعه علاقات واسعة بالمسيحيين وخصوصًا الموارنة؛ ولهذا تم تزويده بألف بندقية وخمس مدافع.

وفي العام 1609 أرسل البابا بيوس الخامس رسالة إلى فخر الدين أمير الدروز ونيكوميديا وفلسطين وفينيقيا، أثنى فيها على تعامله الجيد مع المسيحيين، وخصوصًا الموارنة، ووعده بدعم غير مشروط ضد العثمانيين لتحرير الشام منهم؛ لكن سرعان ما هاجم العثمانيون فخر الدين 1913، وهُزم وهرب إلى توسكانيا قبل أن يُعفى عنه، ثم يعود لتمرد من جديد عام 1633 وتم إعدامه.

ولم ينتهِ التمرد الطويل إلا بعد وفاة ابن شقيق فخر الدين الأمير أحمد معن 1697 وانقراض السلالة المعنية الدرزية، وفي تلك الأثناء تأسست دولة الشهابيين السُنية التي رأت فيهم الدولة العثمانية حليفًا جيدًا يمكن الاستفادة منهم، مع أن دولة الشهابيين قد ساندها الدروز أول الأمر.

وكان أهم مَن قام بالتأريخ للتمرد الطويل هو البطريرك الماروني إسطفان الدويهي؛ لكنه تجاهل الحملات العسكرية العثمانية على الدروز، وكان دائمًا ما يشير إلى أن القادة الدروز ليسوا السبب في هذه الهجمات، وعمل على طمس الدور الكاثوليكي والأوروبي المساند للدروز ضد العثمانيين آنذاك. فالحديث في العلاقة بين الكرسي الباباوي والدروز لم يكن في مصلحة الطائفة الدرزية ولا المارونية. فالصراع الدرزي العثماني لم يكن أمر محدودًا؛ بل هو أمر أثر في تشكيل لبنان.

خاتمة

هذه الأحداث التاريخية المهمة للدروز والمقاومة التي عرفت بالتمرد الطويل هي ما أدت إلى خلق كيان سياسي للبنان، وإن كان لبنان آل معن شديد التواضع جغرافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا مقابل الفكرة التاريخية عن لبنان الكبير التي رسمها المثقف الماروني بولس نجيم، وقاد فريقها البطريرك الماروني إلياس الحويك، وحاولوا لصقها بآل معن أو بفخر الدين المعني تحديدًا، وهذا ما تنفيه الوثائق والأحداث التاريخية المؤرشفة؛ إلا أن الموارنة خصوصًا قد احتفظوا فيه (لبنان آل معن) بوضعية أكبر من وضعية أهل الذمة في الدولة العثمانية، وهذا ما مهد لهم  لعب دور مهم، ولكنه ليس دور المؤسس في أي وقت، فخلال حكم الدولة الشهابية صار الموارنة يتحكمون في مفاصل الاقتصاد، ويتمتعون بأغلبية عددية، وتم لهم الأمر بعدما تنصر آل شهاب وصاروا من رعايا الكنيسة المارونية منتصف القرن الثامن عشر.

وبهذا تفاوض الموارنة فيما بعد؛ لينتج لبنان المعروف حاليًا، مشتتًا ومنقسمًا ولا يعرف هدوءًا، ولا يمكن تحديد المسارات السياسية والاجتماعية والتاريخية فيه بوضوح وشفافية، حيث تختلط الكثير من أوراق هذا البلد أو يتم إخفاؤها عمدًا لمصالح طائفة دون الأخرى، والإشارة إلى مركزية طائفة في بناء الدولة دون سواها، ومن هنا نفهم لماذا لا يوجد تاريخ واضح ومتفق عليه للبنان. 

الخامس بعد المئة سياسة

عن الكاتب

مصطفى شلش