التربية .. بين إجتهاد الابوان ، وعوامل الحياة الأخرى.

كتب بواسطة معاذ اليحيائي

عندما يقرر الأبوان أن ينجبا طفلاً ليخوض معتركات الحياة لهو أمر يبلغُ من الجمال غايته، لكن الأمر ليس بهذه السهولة فهو يتطلب من كليهما بعض التضحيات والاستعداد نفسيا وجسديا لاستقبال هذا الضيف المهم. 


أن تلد روحاً جديدة على هذا الكوكب،  هو أن توقع على تعهد بصونه ورعايته، وتقّبل التغيرات التي ستطرأ عليك بعد إنجابه، فهو بحاجةٍ لضعف الاهتمام والرعاية التي تحتاجها أنت كأب، وعليك أن تكوني على قدر من الصبر تجاه كل التغييرات التي من الممكن أن تستجدَّ في حياتكِ كأم.

كون الكل متفقاَ أن من أهم الغايات من موضوع الزواج هو إنجاب طفل سَويّ صالح هذا شيء عظيم، لكن ما نراه نُصب أعيننا هو العديد من النماذج التي تثبتُ فشل الآباء في التربية، أي أن المطلوب كان شيئا والنتيجة جاءت عكس ذلك          – مع الأسف- 


لم أجد التربية أو ببساطة ” ما عرفت أربي” هذه الجملة المشهورة التي طالما رنت على مسامع الإنسان ورنت على مسامِع آبائه وأراهن أنها مرت من قبل على مسامع أجداده.


التربية، هذا الركن العظيم الذي يكابد الآباء ما يكابدون من مُر الحياة ليكون ابنهم على قدر من التربية والصَلاح، سيصاب الأبوين بالإحباط الشديد بعدها لو كانت النتيجة أن أبني لم يكن على قدر من الإحترام والتربية الحسنة 


عرف العالم روني أوبير في كتاب التربية العامة أن التربية هي “مجموع التأثيرات والأفعال التي يمارسها بكيفية إرادية كائن إنساني على آخر، غالبا ما يكون راشداً على شاب صغير، والتي تستهدف تكوين مختلف الاستعدادات التي تقوده إلى النضج والكمال.

وهذا يلخص أن منذ اللحظة الأولى من تحول الزوج لأب يبدأ بمحاولات تلقين ابنه أخلاقيات معينة بهدف وصوله إلى مرحلة أن يكون ناضجاً ومكتملاً فكرياً، قادراً على اتخاذ قراره بيده، وأن يحمل الراية من بعده لينشئ عائلة جديدة لتستمر عجلة هذه الحياة.
وهذا المفهوم ليس وليداً لمجتمعات الأمس إنما منذ العصور البدائية، فيقول الكاتب عبدالله عبد الدائم في كتاب التربية عبر التاريخ أن هدف التربية الوحيد هو أن يقلد الناشئ عادات مجتمعه وطراز حياته تقليداً عبودياً خاصاً. أي أن في جوهر التربية تدريبا آليا تدريجيا على معتقدات الزمرة الاجتماعية وعاداتها وأعمالها.


وهناك مصطلح في علم الاجتماع اسمه “اللوح الفارغ ” أو “الصفحة البيضاء” من مضامينه العدة أن الطفل عندما يُخلق يكن خاليا من كل طبيعة ومجرد من أي صفة أخلاقية ومن ثم يتشكل كليا عن طريق التجارب التي يمر بها. 


ما سيرد على ذهن القارئ بعد ما كُتِب أعلاه هو حديث الرسول الكريم وهو “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ” لنستطيع الخروج بعد كل ما سبق أن الأنسان عندما يولد هو أشبه بكراسة رسم بيضاء خالية، قامت الحياة بعدها بتلوينها بمختلف الألوان، وأن الأنسان في هذا العالم كرسمة متفردة تختلف عن الأخرى في مضمونها وتفصيلاتها.


إن التربية في حقيقتها لا تخلو من مشقات الحياة، لأن الوالدين ليسا المربيين فقط إنما هناك بيئة محيطة.. مدرسة مجتمع مسجد تلفاز ووسائل الاتصال الأخرى. إذن فإن هذا يعني أن هناك العديد من القنوات تصب في مجرى واحد، فتشكل شخصية الطفل وكيانه وكينونته.
يزعم بعض الآباء أن تقنيات اليوم هي التي جعلت تربيتهم تضيع هباء منثوراً، ولنفرض أن هذا الزعم صحيح فلماذا وجد المنحرفون والمجرمون والمتسكعون قبل عهد الاتصال في الماضي؟ إذن فسوء التربية لا علاقة له بالعهد الجديد من عدمه وإن هنالك أسبابا أخرى تدخل ضمن ذلك.
وإنه منذ أن خلقت الخليقة كان هناك حَسَن التربية وقليل التربية كذلك، وإن لكل جيل ما يحيط به من عيوب تحول دون كونه جيلا كاملا برمته تماماً مثل المزايا. 
إن المشكلة قد تتبلور في أن الآباء قد رسموا قدرا كبيرٍ من الطموح والأحلام الواجب تحقيقها من قبل أبنائهم وما إن يفشل الابن في تحقيق ما يرمون اليه يبدأون في نعته بالفاشل وقليل التربية وهذا خطأ جسيم.


يجِب العلمِ أن الأبناء ليسوا نسخا من الآباء، الابن هو طبيعة وكيان مختلف ويحيط به مجتمع مختلف عما كان عليه الآباء أو من سبقه من الأجيال، وأن من حقه أن يعيش حياته بأخطائه الخاصة تماماً مثل ما أن من حقه أن يعيش نجاحاته واختياراته.
يقول سقراط ” لا تكرهوا أولادكم على آثاركم ، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم “.

إن الحقيقة العظيمة تكون في أن التربية لا تعتمد على الآباء فقط، إنما الأباء عامل من العوامل أو ركن من الأركان وإن تفكر الأنسان جيدا لوجد أن  أن يام بن نوح عليه السلام هو شخص غير صالح من نبي صالح  ولوجد أيضاً أن نبي الله إبراهيم من أب مشرك . وكثيراً ما نرى هذه النماذج جلية واضحة في مجتمعاتنا فإن الأب الحسن لا يعني بالضرورة أن ابنه متبع لنهجه وفي المقابل ليس بالضرورة أن نجد أن الأب السيء منجب لجيل سيء من بعده. 

وليس بالضرورة أن البيئة المحيطة سبب لصلاح التربية من عدمها إنما هي عنصر مشارك أيضا فامرأة لوط ونوح سيئتان في بيت مسلم وامرأة فرعون حسنة في بيت طاغية.
“ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ”
“وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ “

يقول العالم دور كايم أحد مؤسسي علم الأجتماع في هذا الشأن ” أن التقاليد تصبح قوية إذا بقى الإنسان في ذات المكان الذي تربى فيه ومع نفس الأشخاص الذي يعرفونه فيكون سلوكه متوافقاً معهم، وعند انتقاله إلى بيئة اجتماعية مغايرة يتغير سلوكه ليكون منسجماً مع معارفه الجدد”.

إن الوراثة في الحقيقة تدخل ضمن أول العوامل من مؤثرات التربية، فمن الطبيعي أن تجد أن الابن قد ورث صفات من أبيه وأمه وحتى من الجيل السابق كالأجداد مثلاً في حدة الطبع، تغير المزاج والظلم الغيرة و النظر على ما عند الغير، فقد يكون هذا في العرق أي أن الابن قد يرث صفة خُلقية تماماً كالخَلقية  وقال “تخيَّروا لنُطَفِكم، فانكحوا الأكفاء، وأنكِحوا إليهم” هذا يعني أن اختيار الزوجين لبعضهما البعض هو عامل من العوامل المهمة ، فيجب على الأنسان أن يبصر فاختيار شريكه ويطلق العنان لحرية اختياره ، وأن يبتعد عن كل ما يقيده في هذا الجانب ، أن يكون حر نفسه ضمن المعقول يقول عمرو شريف” إن حرية الاختيار تعتبر إحدى أهم السمات المميزة للجنس البشري”


وحتى علمياً ،فقد أثبت العلماء في العصر الحديث أن الجينات والصفات الوراثية  تدخل في نبات الابن نباتاً حسناً من عَدمه فقد تحدث روبورت بروكس في مقالة تحمل أسم”هل يهم كيف نربي أطفالنا” “Does It Matter How We Raise Our Children”عن أن   شخصية الاطفال ونمطهم السلوكي والعقلي يعتمد اعتمادا كبيرا على الجينات الوراثية لهؤلاء الاطفال وبالتالي فالتأثير الذي يلعبه الاهل في تنشئة أطفالهم مهم ، لكن الأهم منه إختيار الأساس”
 
والبيئة لا تقل شأناً، فهي تدخل في التكوين السلوكي والنفسي والجسدي كذلك، فالبيئة تعتبر الخلية الحية اللتي تساعد الطفل على بناء كيانه فأطفال البادية بطبيعتهم يختلفون عمن ولدوا في المدينة ولا يعني أن هذا أفضل من ذاك … إنما البشر في طبيعتهم كالألوان الفاتحة والقاتمة وكل شخص في طبيعته مختلف عن الآخر، فحتى العوامل الجغرافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية تؤثِّر في تكوين شخصية أفرادها بجوانبها المُختلفة، بما يتلاءم مع كل بيئة ويُناسبها من ظروف.


فعلى سبيل المثال جغرافياً عندما وصف الله الأعراب قال  الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وإجتماعياً.. أمر الله تعالى بمجالسة الطيبين من الناس فهذا يؤثر في نشأتهم  فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ وقال في موقف آخر وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.
لهذا خرجت الاستاذة أ. حليمة لطرش من جامعة سطيف بالجزائر في دراسة عنونتها بـ ”  البيئة والتربية البيئية وأثرها على الموهبة والطفل الموهوب” جاءت نتيجة الدراسة أن “إن التوجه الجديد يرى أن جميع الأطفال مبدعون وموهوبون، لكن المدرسة الآن والبيئة الاجتماعية عامة هي التي تدمر هذه القدرة الطبيعية”

وتأتي الفطرة لتكمل أُسس التربية ، لتكون عاملاً لا يُستهان به. والفطرة مبدئيا لها معان عدة فقيل أنها الخلقة، والسلامة، والتهيؤ للقبول ودينيا يقال أنها الميثاق والعهد المأخوذ على ذرية آدم. ونستدل بهذا إن الفطرة هي تلك الصفات والخصائص التي يتوارثها البشر جيلاً بعد جيل من لدن الإنسان الأول عليه السلام إلى آخر الزمان فقد قال تعالى  “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا”. ويقال أن الفطرة في طبيعتها أو في ضروفها المناسبة ميالة إلى الصفات الخلقية الخّيرة ، متنفرة من الصفات الخلقية الشاذة .


لنستلخص أن التربية هي مزيج بسيط من كل ما ذٌكر أعلاه، فاجتهاد الآباء لا يعني بالضرورة تربية صالحة والبيئة الجيدة لا تعني بالضرورة نقاء مطلقا والفطرة السليمة لا تعني بالتأكيد أبن حسن .

أن يكون أساس التربية وهو المنزل مكان صحي فهو من المقومات التي تجعل التربية صالحة فهناك كم هائل من النماذج الناجحة من هذا النوع ، إذ يحاول الزوج والزوجة أن يوفرا مناخ صحي هادىء لتكون حالة الأبن النفسية وسلوكه في وضع مستقر ، لتندمج معه البيئة التي تحيط بالأبن فكلما كانت تلك البيئة ذات جوء صافٍ قدر الأمكان سينشىء الأبن نشأة معتدلة .ومع العامل الثالث وهو الفطرة الحسنة ، ستوفر المدلولات الثلاثة لجعل الأبن ذا طبع وتربية حسنة . 

لكن ومع توفر هذه المدلولات ، هل سيكون كمُسّلمة أن الأبن صالحاً؟ أعزيت هذا الأمر لخيار رابع مع الأيمان التام بهذه الثلاث مقومات ما أسميته بالقدر الكوني أو التدخل الإلهي هذا الشي  هو ما يجعل أحياناً ابن المجرم عالم وهو من جعل أحياناً أخرى ابن إمام المسجد ظالم، وكأنها رسالة من الله يعرض في محتواها أن المنطق لا يسري على كل الحالات وإن لكل قاعدة شواذ.

الخامس بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

معاذ اليحيائي