ما بعد كورونا: الشيوعية المتوهمة

كتب بواسطة مصطفى شلش

7 مارس 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن أعداد المصابين بالفيروس حول العالم تجاوز مائة ألف مصاب[i]. تشكل أزمة فيروس كورونا وتداعياتها مأزقا عالميا جديدا، لا يتمثل المأزق فقط في سرعة انتشار المرض على جغرافيا شملت أغلب دول العالم، ولكن أيضًا لأن الفيروس قد دفع الحكومات لاتخاذ إجراءات تُعطل دورة الحياة اليومية للمواطينين لمحاولة الحد مِن انتشار عدوى المرض.

وفي ظل الحالة الضبابية بشأن السيطرة على الفيروس، ضرب الإغلاق الإجباري للحدود، والحظر الصحي في المطارات والموانئ، وتعطيل القطاعات الإنتاجية في العديد من البلدان دورة الحياة الاقتصادية العالمية؛ ما أدى إلى تراجعات حادة في مؤشرات الأسواق العالمية عكست حالة من الفزع والذعر الشديدين مِن قبل رؤوس الأموال.

تعرضت أسواق المال وخصوصًا البورصات الآسيوية لأسوأ انهيار للأسهم خلال العشرين عاماً الماضية، وشهدت بورصة هونج كونج أسوأ أيامها منذ الأزمة المالية عام 1998 وانهارت أسهم الشركات الصينية في بورصة هونج كونج بنسبة تجاوزت %12 خلال يومين، وشهد مؤشر فيكاي الياباني أسوأ انهيار له منذ 20 عاما، عندما فقد %5 من قيمته، كما فقد مؤشر مورجان ستانلي لمنطقة آسيا والباسيفيك %6.8 من قيمته، وهبط مؤشر هانج سينج في بورصة هونج كونج بنسبة %8.7.[ii]

وتفاقمت خسائر الأسهم الإماراتية لتصل لأكثر من 155 مليار درهم (42.2 مليار دولار) خلال 3 جلسات تداول، وأنهى مؤشر سوق دبي المالي جلسة تداوله منخفضًا %6.2، كما أغلق مؤشر أبو ظبي على انخفاض بلغت نسبته %6.8 في أكبر خسارة يومية له على الإطلاق، كما شهدت البورصة القطرية حالة من الذعر عندما افتتح مؤشر سوق الدوحة تعاملاته على خسارة بنحو %8 مرة واحدة، ولم يتمكن من تعويض هذه الخسائر طوال الجلسة، مع ظهور بعض طلبات الشراء الحذرة. كما حقق موشر سوق المال السعودي أكبر خسارة في تاريخه، وهبط بنسبة %9.7 مقتربا من الحد الأقصى المسموح به للنزول المحدد بـ %10.[iii]

أما البورصة الأمريكية فقد شهدت إقبالا كبيرا على بيع الأسهم، كما لو أنها على موعد جديد مع يوم الإثنين الأسود، والإثنين الأسود هو يوم الإثنين 19 تشرين الأول 1987 حين انهار داو جونز بمقدار 22.61% خلال يوم واحد[iv].

ويرجح الخبراء أن يتكبد الاقتصاد العالمي جراء تفشي فيروس كورونا المستجد خسائر تفوق 160 مليار دولار لتصبح بذلك أكبر خسارة يسببها وباء في العصر الحديث، وهي تتجاوز بواقع أربعة أضعاف ما سببه فيروس “سارس” الذي اجتاح الصين سنة 2003[v].

لكن هل هذه الخسائر الفادحة والموثقة بالأرقام تدفعنا للحديث عن نشوء نظام عالمي جديد، كما ذهب البعض في محيطنا العربي والعالمي وعلى رأسهم الفيلسوف السلوفيني المُعاصر سلافوي جيجك الذي اعتبر أن تفشي فيروس كورونا ما هو إلا لحظة للقضاء على النظام النيوليبرالي العالمي، والتخلص من سياسات وآليات الحكم القديمة، وإحداث قفزة راديكالية في اتجاه آخر وهو الشيوعية[vi]؟

قراءة في الاقتصاد العالمي

للإجابة على فرضيات التحول في النظام الاقتصادي العالمي، مِن الضروري أن نلجأ إلى قراءة رقمية لوسائل الإعلام التي تبث بشكل دوري يوميات الحرب الدولية ضد فيروس كورونا المستجد، وبالتوازي تمر هذه التغطية للوباء مرورًا سريعًا على الحرب الاقتصادية حول أسعار النفط بين كل مِن روسيا والولايات المتحدة الأمريكية عبر وكلائها في منظمة أوبك، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية[vii]، فقد سجل النفط أكبر انخفاض يومي له منذ عام 2014، حيث انخفض مؤشر برنت القياسي للنفط الخام للعقود الآجلة بنسبة 10% بعد انهيار الاتفاق بين أوبك وروسيا. كما تبعت العقود الآجلة للنفط الخام هذا التراجع مع انخفاض حاد آخر بنسبة 30% لتسجل بذلك أكبر انخفاض منذ حرب الخليج في عام 1991.وتراجع مؤشر S&P 500  (مؤشر أسهم يضم أسهم أكبر 500 شركة مالية أمريكية) بنسبة 7.6%، في حين خسر مؤشر داو جونز 2013 نقطة مسجلاً أسوأ أداء له في يوم واحد منذ عام 2008. تدهور السوق الأمريكي بسرعة كبيرة ما أدىوقف التداول بالبورصة مؤقتاً للمرة الأولى منذ عام 1997.[viii]

وما سبق دفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة الأساسية 0.75 نقطة مئوية دفعة واحدة، في خطوة غير عادية لمواجهة انهيارات أسواق المال. كما قرر المجلس خفض سعر الخصم 0.75 نقطة مئوية إلي %4.[ix]

بلا شك، تبدو الأرقام مفزعة؛ ولكن ما تمر به الأسواق المالية العالمية خلال الفترة الحالية من تراجعات حادة، وخسائر كبيرة ما هي إلا تعبير عن حالة فزع أصابت رؤوس الأموال لسببين هما الخوف من المستقبل بسبب فيروس كورونا المستجد، واندلاع حرب حول تحديد أسعار النفض وخفض الإنتاج من عدمه؛ بل هناك مَن يشير إلى سبب آخر مثل وكالة “بلومبيرغ” أن هذا التراجع يعود إلى تراجع نمو الاستهلاك في الصين بنسبة 5.5%، خلال الربع الحالي من العام.

بل وأكثر مِن ذلك يشير بعض الاقتصاديين[x] إلى أن هذه المؤشرات لا تعبر عن حدوث أزمة ولكنها مجرد تباطؤ في حركة التجارة، وخفض توقعات النمو لم يحدث حتى الآن على أرض الواقع، وما يزال العالم في انتظار نتائج الربع الأول من العام 2020 الذي ينتهي بنهاية شهر مارس/آذار، للتأكد من حدوث تأثير فعلي على الاقتصاد. ولا يوجد سبب اقتصادي لحدوث أزمة عالمية مثل حدوث زيادة في الديون المتعثرة أو غيرها، فالأزمة المالية عادة ما تسبقها أحداث اقتصادية تعد تمهيدًا قويًا لوقوعها، مثلما حدث في أزمة 2008 التي سبقها إفلاس بنك ليمان براذرز، وبيع بنوك أخرى، وبدء أزمة ائتمان.

الدلالة الرقمية للمؤشرات الاقتصادية تشير إلى تأثر الإنتاج العالمي خلال شهري فبراير ومارس، ولكن قد يتم تعويض هذا الإنتاج في حالة السيطرة على آثار فيروس كورونا نهاية  في وقت قريب، والتوصل إلى اتفاق ضمني بين روسيا ومنظمة أوبك النفطية، وهذا عبر تقديم محفزات للمصانع في الصين واليابان مثل توفير قروض بدون فوائد، إذ سيؤدي ضخ الأموال إلى زيادة الإنتاج وتعويض النقص، وبالنتيجة عودة الأسواق إلى طبيعتها؛ بل وأكثر من ذلك، تعد التراجعات الأخيرة في الأسواق العالمية أمرًا إيجابيًا، مع أنها خسائر فادحة، لكنها بمثابة حركة تصحيح للأسواق العالمية بعدما وصلت أسعار الأسهم إلى مستويات مرتفعة جدًا، ولذلك فإن ما يحدث هو أمر مفيد لهذه الأسواق فيما بعد.

وفي ظل الأوضاع الحالية، هناك عامل قوي يحمي منظومة الاقتصاد العالمي من حدوث أي أزمة مالية حادة، هو عنصر صلابة القطاعي الإنتاجي الحقيقي في العديد من البلدان التي اجتاحها فيروس كورونا المستجد؛ بل واستفادت من تهاوي أسعار النفط لتوفير احتياجاتها من الطاقة. أما القطاع التمويلي فلم تشهد أي دولة إلى الآن حالات إفلاس ضخمة أو بنوك تعاني من ضعف رؤوس أموالها، وومن ثم فإن هذا التباطؤ الحالي ما زال في نطاق محدود، ومحصور في الأصول المالية، كما أن البنوك المركزية في الدول الصناعية الكبرى قد تعلمت من درس الأزمة الإقتصادية (2007-2008) وأصبحت على أهبة الاستعداد لتدخل في حال أحجم القطاع المالي عن إقراض الشركات والأفراد، لكي تحول دون السقوط من جديد في دائرة مفرغة من الركود الاستهلاكي، وخسارة الوظائف، وتراكم الديون.

وقد أشرنا إلى التدخل السريع من مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لخفض أسعار الفائدة بهدف حماية الاقتصاد من أي تبعات أو هزات عنيفة غير مرغوبة، وبالمثل نشير إلى خفض الصين كلفة الإقراض الرئيسة وخفض تكاليف تمويل الأنشطة التجارية من أجل إنعاش الاقتصاد.

من التشويش إلى الاستسهال

أدى التشويش والخلط في قراءة المؤشرات الاقتصادية، إلى انتقال بعض المتفائلين على -الصعيد المحلي والدولي- بتحقيق حُلم اشتراكي إلى الاستسهال؛ متناسين عدة حقائق حول النظام النيوليبرالي؛ فصحيح أن النظام الاقتصادي القائم دوري المشاكل والأزمات؛ ولكنه يستطيع أيضًا أن يستمر في العمل عبر توفير مجالات تراكمية جديدة لمواجهة قانون الانخفاض الميلي لنسبة الأرباح الذي يعد أحد أنماط النظام الرأسمالي الرئيسة؛ فقد تمكن النظام الحالي بتحييد أي نموذج اقتصادي بديل بما فيها الصين الشيوعية التي صارت منخرطة في النظام الرأسمالي ودول الاتحاد السوفيتي السابق، وعلى رأسها روسيا، كما تم  في المركز الغربي توسيع دائرة العمل عبر ضم المهن الحرة مثل: الأطباء ومكاتب المحاة ومكاتب المحاسبة، والعمل المنزلي مثل: مدبري المنزل والخادمات والطباخين لدورة الإنتاج الرأسمالي، كما مدت الشركات العابرة للقارات خطوطا لبضائعها في الدول المستعمَرة سابقًا، وتوسعت في استغلال طبقتها العاملة، وتحويل اقتصاد هذه الدول إلى اقتصاديات تابعة استهلاكية، كما فُتح سوق لا يتشبع لاستهلاك السلاح عبر تأجيج النزعات العسكرية، وكما استفاد النظام الرأسمالي، خصوصًا دول المركز الغربي والولايات المتحدة، خصوصًا من الثورة العلمية التقنية التي أتاحت حقلًا جديدًا لتراكم رأس المال وخلق فرص غير محدودة حاليًا للاستثمار.

وعلى مستوى دول الهامش كانت وما زالت قوى اليسار ضعيفة ومشتتة؛ فعدا التجربة التاريخية للحزب الشيوعي للهند الصينية الذي تأسس عام 1930، الذي ولدت من رحمه التنظيمات الشيوعية في فييتنام وكمبوديا ولاوس، التي تمكنت خلال صراعها ضد الأميركيين وحلفائهم مِن الربط بين النضال التحرري للتخلص مِن الاستعمار، وتوحيد الأرض، والنضال ضد الإقطاع من أجل الثورة الزراعية، ترك شيوعيو العالم الثالث قيادة النضال ضد الاستعمار للبرجوازية الصغيرة أو ما تسمى البرجوازية الوطنية، التي بالرغم من بعض إيجابيات مشروعها إلا أنها قوّت الحركات الأصولية الطائفية التي ترفع شعار الدين.

وشكّل صعود القوى الأصولية -الإسلامية في منطقتنا كنموذج، أو اليمين المسيحي المتطرف في الغرب- أزمة عميقة لكل حركات التحرر الوطني واستسلامها للسيطرة الإمبريالية، وعرقلة خطيرة أمام البديل الاشتراكي في بلدان العالم العربي الإسلامي. فالأصولية لم تشكل بديلًا حقيقيًا للقيادات البرجوازية لحركات التحرر في العالم العربي إنما هي تعبير عن تعمق مأزق نضال شعوب المنطقة من أجل التحرر الوطني والبناء الديمقراطي والوحدة.

وقد ساند الغرب وصانعو القرار فيه الأغلبية الساحقة من قوى الإسلام السياسي تحت شعارات مُختلفة؛ فاليسار الفرنسي رأى أن الأصولية الإسلامية تشكل طبيعة الشرق، ومن ثم أعجب العشرات منهم بالثورة الإسلامية الراديكالية في إيران، وساند الغرب صعود الإسلاميين في تونس ومصر بعد ثورات الربيع العربي، وتحولت قضايا المنطقة من صراع ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية المحلية ومن أجل التحرر الوطني والديمقراطية والوحدة إلى صراع بين “شرق المسلم” و “غرب المسيحي”، وصراع من أجل أسلمة أو مسحنة المجتمعات[xi]، ففي الغرب صعد اليمين المتطرف المسيحي من خطابه المُعادي ضد الأقليات والأديان الآخرى، وفازت الأحزاب الفاشية في الانتخابات الإسبانية والهولندية والنمساوية، ووصلت ماري لوبان أحد أهم رموز التيار العنصري الغربي لجولة النهائية في الإنتخابات الفرنسية، ووصل كل مِن دونالد ترامب وبوريس جونسون المثيرين للجدل لسدة الحكم في كل من أمريكا وبريطانيا على الترتيب، وهذا بدلًا مِن أن يكون الصراع من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وصراع بين المستغِلين والمستغَلين.

وبالرغم من دور البعض في التيارات الماركسية بمختلف تنوعاتها في نقد الإصلاحية والقيادات البرجوازية إلا أنهم فشلوا في تكوين أي بدائل لضعف البُعد المعرفي للبيئة المحلية، ما جعل التيارات اليسارية إما منفصلة عن الجماهير، أو لديها ذات متضخمة وتتقوقع في أفكار دغمائية خلف قراءة استسهالية لنصوص الماركسية.

وبالطبع لا يمكن التقليل من أثر الفكر الإمبريالي الغربي الذي اخترق التيارات اليسارية وتفه من أفكار الصراع الطبقي، وقلل من شأن التطور التاريخي، وظهرت مانشيتات فلسفية تتحدث عن نهاية التاريخ، وتم العصف والتقليل من دور الطبقات العاملة والفلاحية في المجتمعات الطرفية، والعمل على خصخصة كل القطاعات الحكومية، وتقليص مساحات الدعم المالي المقدم لصحة والتعليم ورفع كُلفة الإنفاق على التسليح والمخابرات وأجهزة القهر.

قِصر نظر وكسل في الأطروحات

لكن بالرغم من الأسباب السابقة من صعود للأصولية وضعف في القراءة الفكرية للماركسيين وممارسات الخصوم العدوانية ضدهم؛ إلا أنها ليست أعذارًا كافية لتيارات اليسار العربي والغربي التي تتسرع في قولبة الأزمة العالمية لصالح أحلامها، فقد  تجاهل الجميع الخبرة الطويلة للنيوليبراليين الجدد في إدارة الأزمات لصالحهم، فميلتون فريدمان (1912-2006) أحد أهم منظري النيوليبرالية، قد صنع بدقة فائقة تكتيك الرأسمالية المعاصرة؛ فهو يرى أن الأزمات فقط، حقيقية أو متصورة، تنتج تغيرًا حقيقيًا، فعند وقوع كارثة تُعتمد الإجراءات التي يتم اتخاذها بناء على الأفكار المتاحة، إذ يقوم بعض الناس بتخزين سلع معلبة ومياه استعدادًا لكوارث كبرى، بينما يجب أن يخزن أتباع النيوليبرالية أفكار السوق الحرة. وبوقوع الأزمة، يجب حتمًا ضرورة التحرك سريعًا، لفرض تغيير دائم قبل عودة المجتمع الذي اجتاحته الأزمة إلى شدة وطأة ظروف ما بعد الكارثة، وهو استنتاج من الفكر المكيافيلي حول وجوب إيقاع الأضرار كلها مرة واحدة[xii].

لعل فكرة المخزون الفكري الذي أشار لها فريدمان هي ما تنقص تيارات اليسار المختلفة سواء كانت شديدة الراديكالية أو برجوازية صغيرة -كما يحلو لبعضهم وصفها-، فهزيمة حزب العمال اليساري في بريطانيا مع حضوره الواسع الذي عمل عليه زعيمه جيرمي كوربن[xiii] لم يكن بسبب مؤامرة أمريكية أو دولية على الحزب وزعيمه، ولكن لفقدان الحزب لبرنامج حقيقي يحقق رغبات الناخب البريطاني؛ ما جعل الحزب العمالي يخسر حتى في حواضنه الشعبية التقليدية داخل البلاد، وبالقياس على هذا المثال يمكن النظر إلى غالبية التجارب اليسارية المعاصرة مع اختلاف دولتها، والحضارة المنبثقة منها سنجدها بلا مخزون فكري، تعيد وتأول نصوص الماضي الماركسية، التي هي شديدة الأهمية، ولكن للبناء عليها وليس لوضعها في مقامات التقديس والاستسهال أمام كل أزمة؛ سواء أكانت كورونا أو انهيار أسعار النفط، لكي يخرج اليسار نبوءات ماركس الجاهزة لانهيار الرأسمالية؛ فقد توقع الماركسيون ثورة في إنجلترا وألمانيا لتحدث في روسيا والصين، هذا وإن دل على شيء يدل على قدرة الفكر الماركسي على التكييف، وفي الوقت ذاته على تحجر الماركسيين في مواقفهم، وحتى جيجك نفسه الذي يتوقع انبثاق شيوعية من الفراغ كتب بخط يده في كتابه بداية كمأساة وأخرى كمهزلة: “أي توقع يساري ساذج أن الأزمة الاقتصادية والمالية ستفتح فضاء لليسار الراديكالي هو بلا شك توقع قصير النظر بشكل خطير، فالأثر الأولي الفوري للأزمة لن يكون مزيدا من سياسات تحررية؛ بل صعود الشعبوية العنصرية، والمزيد من الحروب، وتصاعد الفقر، وتزايد الطبقية” (ص31)

هذا بجانب لغة الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، وتبدو التنظيرات الماركسية لم تخرج بعد مِن تفاؤلها المفرط، إن لم أقل الحلم السهل بتحقيق شيوعية سريعة وفورية، أو قد تأثر الماركسيون أمثال جيجك بفكرة التيك واي،  فالماركسية ليست وصفة سحرية؛ بل معالجة لقضايا متعددة وبمستويات مختلفة وعبر مراحل زمنية ومتنوعة. ولم تتشكل ما نسميه بالماركسية دفعة واحدة، بل تمت وتحددت عبر خبرة طويلة من المعرفة الفلسفية والعلمية والممارسات النضالية والعملية.

وتكمن الأهمية القصوى لقراءة فكر ماركس؛ لكن دون أن نُسجن في نصوصه وكتاباته ونرى العالم المعاصر من مواقفه؛ بل على الماركسي أن يستغل هذه الكتابات لرموز الفكر الماركسي عمومًا (ماركس، إنجلز، لينين، ستالين، ماو،… ) كأدوات لفهم الواقع، وقراءة مستبصرة للسياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي نعيش نحن فيه وليس ما عاش فيه ماركس وأصدقاؤه.

وبهذا تكون دراسة المخزون الفكري لماركس لا تشكل انسدادا معرفيا واستسهالا تنظيريا، فماركسية ماركس هي نتاج تفاعل أوضاع تاريخية واجتماعية وفكرية محددة أخذت إطار النظرية، وارتفعت من مستوى القراءة الوصفية للواقع الآني في عصره، إلى التحديد العلمي والفلسفي والتوجيه العملي المستخلص من هذا الواقع الذي يصلح أن يكون رؤية شاملة، وفاعلية مؤثرة في حركة الواقع، وفي تغييره تغييرًا جذريا ذا طابع إنساني مستقبلي شامل. هذا معنى أن تكون الماركسية نظرية، أي باختصار أنها نسق متجانس مترابط موحد من الأفكار التي تسعى لتفسير المشاكل الأساسية التي تواجهها الإنسانية وتتضمن منهجا لحلها أو لحل جانب منها[xiv].

خاتمة

كورونا وانهيار أسعار النفط ليسا نهاية للرأسمالية؛ بل هما محك حقيقيّ لقوى اليسار، لكي تدرك أن عليها أولًا تأسيس أممية جديدة للعمال، والشعوب لها هدف رئيس، وهو الربط بين جميع المناضلين المقتنعين بانعدام مستقبل النظام الرأسمالي الإمبريالي القائم. وهذه مسؤولية ثقيلة وتتطلب أعواماً لتعطي نتائج ملموسة.[xv]  واستهداف خلق منظمة (أممية جديدة) وليس مجرد حركة، ويقتضي الذهاب أبعد من تصور منتدى لنقاشات[xvi]، كما يقتضى الظرف الراهن لقوى اليسار أن تعالج أوجه القصور لدى الحركات الأفقية التي ما زالت في معاداة مع أي منظومة هرمية بحجة أن الأخيرة ضد الديمقراطية، كما يجب إدماج أفكار جديدة كالهيمنة والكتلة التاريخية والاستفادة من الخبرات والمحكات الآسيوية خصوصًا في إحداث نقلة نوعية في المجتمعات الطرفية للعالم الثالث.

هذا إلى جانب الوقوف على هشاشة الخطاب الحقوقي الاجتماعي الذي يتضمن مفاهيم فضفاضة مثل المواطنة والديمقراطية، فالدساتير وحدها لا يمكنها إنشاء نظام وإدارته، لذا فإن إعادة النظر في خطاب التحرر الوطني والوحدة وتجاوز الخطابات الطائفية والأصولية صارت ضرورة مُلحة، ولعل التراث اليساري الغربي والعربي به العديد من أصحاب المشاريع الرائدة مثل مشروع الإيطالي أنطونيو غرامشي، واللبناني مهدي عامل.

وإعادة الاعتبار للمشاريع الفكرية الوطنية سيقلل من مساحة التشرذم الفكري على الساحة الدولية، فما زال العالم -مهما خُدعنا بالتسميات- محصور بين سرديتين كبيرتين يعبران عن نماذج فكرية للأغنياء وللفقراء لم يتم تجاوزهما بعد، فالبنى الفكرية ما زالت متشبعة إما بخطابات خارج التاريخ كالخطاب الأصولي الديني (أي دين) والخطابات القومية والقُطرية، والخطابات الأممية والمعولمة التي تصنع التاريخ وتنتج عن الواقع.


[i] https://news.un.org/ar/story/2020/03/1050801

[ii] https://almalnews.com/بورصات-العالم-تنهار%E2%80%AE-%E2%80%ACوأمريكا-تخفض-ا/

[iii] https://almalnews.com/بورصات-العالم-تنهار%E2%80%AE-%E2%80%ACوأمريكا-تخفض-ا/

[iv] https://oilprice.com/Energy/Energy-General/Coronavirus-vs-Oil-War-Which-Is-Worse-For-Markets.html

[v] https://www.skynewsarabia.com/business/1317885-بلومبيرغ-خسائر-فادحة-تلوح-أمام-الاقتصاد-العالمي-بسبب-كورونا

[vi] https://www.mc-doualiya.com/articles/20200227-جيجك-والفيروس-الإيديولوجي-كورونا-كفرصة-للتحرّر-والديمقراطية-ومناهضة-الاستهلاك

[vii] https://www.ft.com/content/ce35945a-62dc-11ea-b3f3-fe4680ea68b5

[viii] https://almalnews.com/بورصات-العالم-تنهار%E2%80%AE-%E2%80%ACوأمريكا-تخفض-ا/

[ix] https://almalnews.com/بورصات-العالم-تنهار%E2%80%AE-%E2%80%ACوأمريكا-تخفض-ا/

[x] https://www.masrawy.com/news/news_economy/details/2020/3/9/1739420/تهاوي-الأسواق-وانهيار-النفط-هل-العالم-على-شفا-أزمة-مالية-واقتصادية-

[xi] http://ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=576335

[xii] https://studies.aljazeera.net/ar/bookrevision/2014/01/20141149153464298.html

[xiii] https://www.independentarabia.com/node/93591/الأخبار/دوليات/شخصية-كوربين-سبب-خسارة-حزبه-الكارثية-في-الانتخابات-البريطانية

[xiv] http://www.ppp.ps/ar_page.php?id=99e7a2y10086306Y99e7a2

[xv] http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=616968

[xvi] http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=616968

الخامس بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

مصطفى شلش