تضمن كتاب “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود – ترجمة سعيد بنكراد” للفيلسوفة الفرنسية إلزا غودار وصفًا للجيل الذي ولد بعد سنة 1995 بأنه جيل سيبراني غارق في قلب تطورات تكنولوجيا المعلومات والتواصل، إنه جيل الافتراضي. هذا الجيل مقبل على متع الحياة بشتى أصنافها، جيل لم يعرف الحاجة أو الحرمان، ولذلك فهو منفتح على الحياة بجميع تلاوينها، ويسكنه الليبيدو حتى النخاع، ولذلك فإن كل سلوكاته يمكن إحالتها على الإيروس، لأنها كلها مُتع غير منتهية.
يبدو وصف غودار بحاجة لعملية تعميم أشمل، وعدم حصره بمرحلة سِنية، فقد رصدت أحد مقالات صحيفة الواشنطن بوست[i] طريقة تعاطي الناس مع تفشي وباء فيروس كورونا المستجد حول العالم، ولخصتها في الآتي: ” بينما وباء الفيروس التاجي (كورونا المستجد) يجعل العالم ينهار ببطء، فإن الناس يطلقون النكات على Twitter و TikTok و WhatsApp”.
صارت كلمة “عاجل” قبل عناوين الأخبار تثير الذعر على نطاق العالم، فغالبية البلدان أغلقت حدودها، وتوقفت حركة الطيران، وعُطلت المدارس والجامعات، والأشغال العامة، والفعاليات الرياضية والثقافية، والاجتماعات السياسية والاقتصادية، وفي بعض الأحيان فُرض حظر تجوال على المواطنين، تبدو هذه حالة استثنائية يعيشها إنسان هذا العصر، وخلقت هذه الحالة هوة شاسعة من التساؤلات حول المستقبل، وفي ظل العجز التام إن لم يكن الفشل لدى المسؤولين عن الملف الصحي في إدارة الأزمة حتى الآن، أو تقديم تطمينات حقيقية، لجأ المواطنون للتشويش على تساؤلاتهم وتجاهلها عبر: الضحك، والدعابة، وإطلاق النُكات.
نحن متوترين، وقلقين، نحتاج إلى أن نكون معًا، لكن تقتضي الضرورة أن نبتعد مسافة كافية عن الآخر لتجنب فرص إصابتنا بعدوى كورونا، فما الذي يعنيه لنا الضحك في هذه الأوقات العصيبة؟
الضحك للموت الوشيك
الضحك في اللحظة الراهنة يعني ببساطة تجاهل موت وشيك، فالحكومات أصدرت إعلانات كوميدية لكي تنوه عن أهمية النظافة، وضرورة اتباع التعليمات اللازمة للوقاية من الفيروس، والالتزام بعدم الخروج من المنازل إلا للضرورة القصوى. كما تفننت وسائل الإعلام في جذب انتباه الناس لها لكي تقلل من حاجتهم في التواصل المباشر مع الآخرين، لحصار خطر العدوى، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قد قامت شبكة Netflix بتخصيص برنامج ترفيهي كامل بمناسبة الإجازة الإجبارية للفيروس، بل أكثر من هذا قامت شبكات الأفلام الإباحية بتقديم شهر مجانًا للمناطق التي تعد بؤرًا لانتشار المرض كمحاولة لجعل الناس يبقون في منازلهم أطول فترة ممكنة.
الكثير وخصوصًا الأجيال الشابة أكثر ميلًا للحديث عن العُزلة، ويبدو هذا جليًا مِن فيض الاقتباسات الأدبية والفلسفية العدمية على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن مع أول اختبار حقيقي لهذه العزلة يجزع الكثير منها، ويرفضون أن يكونوا منفصلين عن بعضهم بعضًا، إن الإنسان مع تختلاف مراحله السِنية يميل إلى بناء علاقات تواصل مستمر مع شركاء مباشرين، إن السعادة البشرية ومع كل الأحاديث عن هيمنة الحضارة المادية ما زالت تخضع لفكرة التكامل البشري، أي أن يتمكن أحدهم من حُضن الآخر دون تحذيرات وتعقيم.
الضحك، والنُكتة، والميمز على وسائل التواصل الاجتماعي في ظل الأزمة الراهنة تعزز قدرة الأشخاص على التأقلم، فالضحك يخفف من حدة الرعب، ويساعد في السيطرة على الحالة المزاجية السيئة. ويشير سيجموند فرويد في كتابه ” the joke and its relation to the unconscious- غير مُترجم للعربية[ii]” إلى أن الضحك هو إشارة جسدية لإطلاق الطاقة العصبية أو العاطفة المكبوتة، أي أن الضحك يكون أحيانًا تعبيرًا بديلا عن القلق المكبوت مِن الموت مثلًا. ويذهب فرويد أبعد مِن هذا إلى أن الضحك والنكتة يُشبعان غريزة العدوان لدى الإنسان، التي يكبتها داخله ولا يستطيع إخراجها علنًا فتظهر على شكل سُخرية، أي إن الناس يعبرون عن سخطهم من الإجراءات الحالية، والترهل الحكومي، وفوضى القرارات في التعامل مع حالة طبية طارئة بالسخرية الحادة المتواصلة.
يمكن الإشارة إلى نظرية فرويد للضحك على أنها “متعة ارتياح” لتخفيف التوتر المكبوت، هذا التوتر في المجتمعات الذي يجب التعامل معه على محمل الجِد، فقيمة الضحك والنكتة تكمن في منح الأفراد إحساسًا بالسيطرة، والتحكم في مُجريات الأمور، حتى وإن كان في قرارة نفسه يُدرك عكس ذلك. تحاول الناس أن تضحك على فيروس كورونا المستجد لكي تشعر دائمًا أنها مبتعدة عنه، وأن الفيروس لا يحاصرها مِن كل مكان، هذا ما يقدمه فرويد تحت اسم نظرية “الارتياح” أن الضحك يعمل كفتحة لتثريب الضغط الناتج عن البخار، حتى لا ينفجر الوعاء.
تمدد النكتة
نعيش في عالم صار فيه الضبط الاجتماعي والميكروسلطة تحت تصرفاتنا بإحكام، ولهذا يُعد الضحك وإطلاق النكات أمرًا ليس مُعتادا؛ بل إن الصوابية السياسية تمتد في مجالات الدعابة لكي تحدّ من توجيه أي دعابة تقلل من شأن عِرق أو طائفة أو دين. ومع ذلك؛ وفي ظل تفشي الفيروس وانشغال الجميع بمتابعة تطورات الحالة الصحية للعالم؛ كان هناك متنفس لفيض من الدعابات التي لا تخضع لآلية المراقبة الاجتماعية، وإن لم تخلُ من المراقبة الذاتية -أحيانًا-.
فقد انهالت السخرية على الصين في اللحظات الأولى لانتشار المرض، حتى وصلت لتصنع موجة عُنصرية ضد الآسيويين، ثم انتقلت السخرية في الشرق الأوسط من إيران أحد أكبر بؤر الإصابة بفيروس كورونا، ثم حصل رئيس الولايات المتحدة الامريكية دونالد ترامب على نصيبه من السخرية حال الإعلان عن عدم إصابته بكورونا، وتناقل الكثيرون دعابة مفادها “شفاء كورونا من الإصابة بترامب”، وتستمر موجات السخرية والضحك مِن إيطاليا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا، وهكذا، يحاول سكان العالم أن يقولوا إننا ما زلنا خارج الجزء المحتضر، نحن لسنا في بؤرة الخطر بَعد.
وفي الوقت الذي تطلق فيه الدعابات، تُطلق فيه حملات الدعم والإغاثة والتبرع والتطوع في الخدمة المدنية، تقريبًا مِن نفس الأشخاص، فالكوميديا تستهدف ذواتنا لا الآخر؛ فلم يعد أحد مُستثنى من الوباء، لكن ما زال هناك كيانات يشعر الناس تجاهها بالغضب مثل الحكومات، والمؤسسات الأممية، والشركات العابرة للقارات، التي يرى الكثيرون أن دورها بائس ولا تقوم بما يجب فعله.
تتمدد النُكتة لكي تُناقش مشكلات أخرى وتتحول لنقد لاذع لطبيعة العمل الصحفي في تغطية الأخبار، والسخرية من قلة الضمير الأخلاقي حتى في ظل المهنية الصحفية، فالحديث عن أن مرض كورونا المستجد يقتل كبار السن ولا داعي للهلع، يعصف بقيم التضامن المجتمعي، كما توسعت الدعابات من الموت بالفيروس التاجي أو الموت جراء حرب عالمية ثالثة بين أمريكا وروسيا، أو حرب إقليمية بين أمريكا وإيران. وتم إطلاق نكات عن بعض المشكلات الأسرية والوضع الاجتماعي في بعض البلدان وربطها بالوباء المنتشر، فقد رصد مقال واشنطن بوست نكتة يتم تداولها في إيران عبر WhatsApp حيث تقول سيدة: “إذا لم يقتلني فيروس كورونا المستجد، فإن البقاء مع زوجي في المنزل لمدة ثلاثة أسابيع سيقتلني”[iii].
فلسفية المُضحك
ليست الدعابة دائمًا جيدة، فكما أشرت قد تستهدف النكتة مرضى الإيدز والسرطانات، وتسخر من كبار السن، وتضطهد أصحاب الميول الجنسية المُختلفة، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن نضع النكتة في نطاق تفسير عقلاني، كما يشير الناقد الأدبي تيري إيجلتون. فقد نعطي سبب لماذا نضحك ولماذا لا نضحك، وأن نشير لدعابة بوصفها جيدة وأخرى لا، لكن ليس في مقدورنا أن نُفسر الضحك، فقط كل ما يتم من قراءات ومفاهيم هي دوران حول الفُكاهة.
لكن بجراءة يحاول تيري إيجلتون في كتابه الجديد “فلسفة الفكاهة[iv] – 2019″ أن ينفي فكرة دارجة حول “أن تفسير الفُكاهة يعني قتلها”، فعبر اعتبار الفكاهة “نصًّا” لغويا مُلقى أو مكتوبا يمكن شرح جوهرها، وهذا عبر تصادم هزلي بين الميتافيزيقا والدعابة. لكن لم يخبرنا إيجلتون بماذا تعني الدعابة؟ أن معترجا فكريا سيبقى غير محسوم.
لهذا ستجد الناس الحساسة صعوبة في التعاطي مع الأمواج المتلاطمة من السخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام حول فيروس كورونا المستجد، فمنذ أن درس المنظر الروسي ميخائيل بختين الحضارة في أوروبا القديمة والعصور الوسطى نجد أن هناك عداء شديد للفكاهة مترسخا في أذهان الحضارة الغربية التي صارت فيما بعد هي الحضارة المركزية للعالم، ومع هذا؛ كانت دائمًا هناك لحظات للفكاهة والتنديس والتفوه بالبذيء والضحك بدون أسباب على كل شيء مقدس أو مُدنس.
لكن بالرغم من الإهانات التي قد تشعر بها بعض الأعراق هذه الفترة حول العالم جراء الدعابات؛ إلا أن الفكاهة تبقى شكلًا خياليًا من التمرد على القيم، أي إنها لا تكسر هذه الحدود القيمية سواء تمت مراقبة البرامج الفكاهية ووسائل التواصل مجتمعيًا أو ذاتيًا أم لا، فالدعابة تملك صمام أمانها الذاتي كونها تفتقد لأي طاقة تخريبية، على حد تعبير إيجلتون.
تبدو علاقاتنا في الشرق الأوسط مع الدعابة مشابهة إلى حد كبير الفترة الزمنية في أوروبا قبل عصر التنوير، إذ كانت الفلسفة الغربية غير مبالية إلى حد كبير أو معادية للفكاهة. فقد ربط أفلاطون الضحك بفقدان السيطرة على النفس، وبينما دافع أرسطو عن الضحك بوصفه فضيلة بين رذيلتي الملل والتفاهة، بينما الفيلسوف الرواقي إبيكتيتوس أشتهر بأنه لم يضحك على الإطلاق. بينما لم تنبثق النظريات الفلسفية للدعابة إلا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وشارك كلٌّ من توماس هوبز، وكانط، وشوبنهاور في التعبير عن آرائهم في الفكاهة، بينما وضع الفيلسوف الأسكتلندي فرانسيس هاتشيسون نظرية كاملة حول الفكاهة.
ومن ثم تبدو الفكاهة بشكل عام، لدى إيجلتون، ما هي إلا الجمع بين صور فكرية تتعارض مع أفكار مضافة أخرى، على سبيل المثال حدوث تباين بين أفكار فلسفية أو معرفية أو أخلاقية مثل االكرامة والقداسة والكمال وأفكار دنيئة تتمحور حول الإباحية، والقذارة، والألفاظ النابية، تنتج عنها روح هزلية.
أعادت حالة الإغلاق الإجبارية للعالم على وقع تفشي وباء كورونا المستجد الأهمية الفلسفية للمُضحك، وربطت بين تاريخ الطب والفلسفة وتاريخ الفكاهة بعد أن أهملت لفترة طويلة، وظهرت بشكل عارض في التنوير الاسكتلندي في كتابات ديفيد هيوم وآدم سميث حيث عبرا عن الفكاهة بوصفها مشاعر مكونة لصميم المجتمع المدني. وأن الفكاهة هي قنطرة لنقل تعاطفنا مع بعضنا بعضًا، هو ما يجعل الضحك سببًا ممكنًا لكي نتعايش معًا في سلام نسبي.
قدم التنوير الإسكتلندي الدعابة بوصفها متعة بريئة مشتركة؛ بل وذهب بعضهم، طبقًا لإيجلتون، إلى حد نمذجة الحس الأخلاقي على حس الفكاهة، أي اعتبار تقدير الفضيلة مثل تقدير النكتة، فكلاهما مسألة حساسية إنسانية.
ابتسامة أخيرة
في وقت الأزمات يصير الإنسان مولعًا بسؤال “لماذا؟”، في ظل هذه الظروف جاء السؤال حول لماذا الضحك؟ وقد يكون سؤالا مخادعا يخفي قلقنا، ويعبر عن حاجتنا للوقوف على أرض صلبة، تبرر صعوبة الوضع الذي نواجه عبر تفشي فيروس قاتل حولنا في الأجواء. ولهذا قد يشكل الضحك مدخلا لإعادة التفكير في الكون، وإعادة ترتيب لمجتمعاتنا الخارجي بشكل معقول، والتعامل مع ذواتنا بحتمية كانطية قاطعة حيث تنبع قيم أخلاقية مجرة تفتح لنا آفاقا جديدة للحرية، والشعور بالأمان.
إن التناقض الحالي بين الواقع المرير، والفكاهة داخل الواقع الافتراضي لوسائل التواصل الاجتماعي، تصنع حالة من اللذة، تُسخف من المواجهة بين حاجاتنا الإنسانية المُلحة لعودة الحياة لطبيعتها وبين غير المعقول القائم حولنا، إن مأزقنا الحالي ليس كوميديًا، ولكن الدعابة تشكل راحة مؤقتة من الوضع الاستبدادي للعالم، كما يوضح إيجلتون.
إن شرح النكتة، وإخضاعها الآن لصوابية سياسية، أو لمعرفة سببها، يشكل محكا فكريا ميئوسا منه، لعدة أسباب أهمها أنه ليس هناك مُتسع لتفكير الفلسفي في ظل حالة من الضغط العصبي على العقل الجمعي للأفراد المُحيطين بنا ما سينتج أفكار فلسفية مشوشة، وسبب آخر هو أننا بحاجة ماسة لكي نضحك فلم يعد من المبالغة تعتبار المرض ملازمًا للإنسانية في عمومها انطلاقًا مِن تجربة شقائنا الذاتي الحالية، وأن الدعابة الناتجة مِن العذاب الشخصي المنبثق مِن الألم تُشكل نهج فكري لرؤية العالم.
[i] https://www.washingtonpost.com/arts-entertainment/2020/03/13/coronavirus-comedy-late-night-and-twitter/
[ii] https://www.goodreads.com/book/show/97756. The_Joke_and_Its_Relation_to_the_Unconscious?from_search=true&qid=gYHg9sGX7q&rank=1
[iii] https://www.washingtonpost.com/arts-entertainment/2020/03/13/coronavirus-comedy-late-night-and-twitter/