مسقط: العودة إلى المكان

كتب بواسطة أمل السعيدي

“ففي وقفته المحايدة تعرف أن المكان وحده هو الذي يعطيك أن ترى الغياب” هذا ما كتبه بسام حجار عام ١٩٩٢م، لابد أن نشعر بالمكان كلما تفقدناه ولم نحضر فيه، وعندما أنظر لمسقط الآن في هذه اللحظات التي نشهد فيها الإجراءات التي فرضتها الحكومة بالتزامن مع انتشار فيروس كورونا كوفيد ١٩، أسأل نفسي، هل تغيّر الوجه الذي نعرفه عن هذه المدينة، وهل نغيب بالفعل عنها، وإن كنتُ مؤمنة أن الغياب هو نشاط فعلي، لا يقل أهمية عن الحضور، مثلما الصمت في مقطوعة موسيقية، فماذا نفعل في الأوقات التي نغيب فيها. كيف نتفاعل باعتبارنا مجموعة بشرية مع الحضور الجغرافي الطاغي لمدينة مثل مسقط؟ وهل تتغير هذه المدينة بالنظر لكل المدن التي ترزح تحت وطأة تفشي كوفيد ١٩؟ تحتفظ المدن بأحلامها، أو بلغة الميتافيزيقيين “روحها” حتى تحت الحروب والكوارث، يتهلل الناس بطبيعة المدينة الراسخة وبما تفرضه على مسارات المستجدات التي تطرأ عليها، أكانت إيجابية أو سلبية؛ لكن ثمة مدن لم تكتشف بعد، إذ لم يكتب عنها، لم يكتب الناس يومياتهم فيها؛ بل ولم يساهموا في إضفاء فوضويتهم الخاصة عليها، لذلك أحاول في هذه المقالة تتبع مسارات مسقط، كيف تظهر وتختفي في المتخيل، والحاضر الوجداني لي بصفتي عمانية. 

 وعندما نقول المكان، لماذا يتبادر إلى الذهن وعلى الفور أننا نقصد، القرية والمدينة بما يمثلانه من اختلاف، في حين أن دولاباً فارغاً قد يكون فضاءً لقصة ذات مغزى كما حدث في قصة ثورة للكاتب البولندي سلافومير مروجك، يعود ذلك إلى هزيمة كبيرة، أمام القدرة على الانسجام مع المكان الأول، حيث يبدو ذلك الإلغاء الذي رافق الطفولة، وربما مرحلة الأسئلة الأولى والطبيعة التي نميل فيها هنا إلى الانكفاء، جعلت من فعل المكوث، دون فعاليته؛ إذ لا توجد مراوحة نحو القدرة على تفصيل المكان وجعله قماشة ملموسة يحدث عليها أن نوجد. المكان هو الغرفة، أو ربما البيت، وعندما نقول البيت، فنحن بالتأكيد لا نقصد المكان حيث نقضي معظم الوقت؛ بل المكان الذي يمنحنا تعريفات نحتاجها حول ما يعنيه أن نكون في بيت ما، كأنما يتم تقليبنا في دوامة من الوعي بالمحسوس والحسي معاً. هنالك كلمة سر مثالية، إلا أنها تغيب عن نظرتنا للمكان في عُمان، “التوزيع”، أن يكون هنالك نوع من العدالة التي نمارسها في الشعور بإحاطتنا بمكان ما، والنظر إليه دون تجريد، لا يصح أن نقول “نادي رياضي”، دون أن نشير على الفور بأنه نادٍ نمارس فيه نوعاً محدداً من الرياضات التي نتعبُ فيها أو نحبها، وأن نبدأ بإثارة كل خصوصية ذلك الحيز المكاني، لامسين لا ما يُعرف عنه، بل أمتاره هو بالذات، والأحلام التي قد توجد فيه، أو تتخلق عبر التفكير فيه. هل هنالك بالفعل فارق بين المدينة والقرية؟ كم عدد الأميال، وما الذي يجعل قرانا مقفلة إلى النهاية؟ دون أن تكون ممسوسة بالحداثة، أو بالتغريب مثلما يحدث في مسقط، ما الذي يجعل الكاتبة هدى حمد على سبيل المثال، تقرر قتل بطلة روايتها أسامينا في الصفحات الأولى من أحدث رواياتها الصادرة ٢٠١٩ في بئر مزرعة القرية، البطلة التي تطرفت في المدينية، وكانت مدربة في نادٍ رياضي، وراقصة، ما الأساس المديني الذي تقف عليه هذه الشخصية، ولماذا نستمر في قول أنها “عادت”. مع أنها تعيش لفترة طويلة من الزمن في العاصمة. عندما زارتني صديقتي من السعودية قبل سنتين، وفي أيام العطلة كنتُ أبرر خلو مسقط، بأن الناس، عادوا لقراهم، هذا النوع من الحكم هل ينتمي لشعورنا المخفي، بأن مسقط ليست مكاناً لنا، أو أنها لا تعتمد سلوك المدن الاعتيادية، إذ لا تفرض شروطها الصارمة، فلا تحضر من ثم بوصفها مكانًا نعيه تماماً، ويتمثلنا؟ مكان يمنحنا ببساطة، القدرة على أن نذهب منه ونعود إليه بحرية؟ أم هو مكان للتسكع حتى تبدو الحياة بكليتها ظرفاً آنياً، وعندما نقول الحياة هنا وبما أنها مرتبطة بمسقط، فنحن نقصد بلا شك: أعمالنا، حياتنا الاجتماعية، وعزلتنا. 

وهذا المثلث القائم على هذه العوامل، يحتاج إلى اقتراب فاحص، فلو جئنا على سبيل المثال، لدراسة المؤثرات المتبادلة بين موضوع العمل، وطبيعته ومدى أهميته بالفعل، وصناعة مناخ معين للمكان عبره، أو درسنا العكس، أي التأثير الذي يمارسه المكان في الدفع بالعمل، جون بيرجر في كتابه عن بيكاسو وفي أثناء تحليله للمجتمع الإسباني الذي نشأ فيه هذا الفنان، تحدث عن نوع من الجهالة الإقليمية التي تسببت بها الدولة، عندما عاش الإسبانيون في كنفها في القرن السادس عشر، فازدادت المناصب الحكومية، والأجور الكبيرة، وأدى ذلك بطبيعة الحال، إلى نشوء طبقة متوسطة تجهل العلاقة المباشرة بين الإنتاج ورأس المال، الأمر الذي يعني غياب المبادرة والجد والإبداع والفضول العلمي؛ بل إن هذا النوع من السلطة التي تمكنت الدولة من فرضها، عبر هذا النوع من “الرعاية” جعل من الحتمي أن تنمو هذه الطبقة في كنفها وأن تتبعها دون استقلال، الأمر الذي خوّل مؤسسات توجهها الدولة، لتكريس السبل التقليدية والمناهج المتعارف عليها على الصعيدين الديني والقومي. [1] وفي ظل ذلك، يصبح الركود هو السمة البدهية في توجيه بنى المكان، وطرقه، وخريطته، التي لا يدفع بها قدماً، بغياب الفضول والمبادرة. ولعل ذلك يظهر أكثر ما يظهر، أقصد إحكام السيطرة على من يحرك هذه المدينة التي بين أيدينا، في المجتمع العماني عبر انعدام الحركات الاجتماعية التي كتب عنها الباحث علي الرواحي أنها تلك التي تتمتع بنسبة حريات عالية ودرجة كبيرة من التمثيل الانتخابي، الأمر الذي قد يجعلها تجترح التحولات التاريخية وتصبح عاملاً من عوامل الدفع بالمستويات المختلفة للأمام.[2] ليس ذلك فحسب؛ بل إن الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية تستطيع أن تمنح نوعًا من الزمن المرصود للمكان، ذلك الذي يمكن الحديث عن تغييراته التي تزامنت مع ظهور هذه الحركات أو تبني أجندة بعينها، كل هذا هو بعد من أبعاد المكان، الذي يجعل للذهاب للعمل قيمة أكثر من مجرد عجلة مهدرة لا تقود شيئاً وتكرس قيماً كالاستهلاك والاستسلام، وغياب الخيارات. 

في ظل ذلك كله، ربما نحاول على الدوام إن لم نستطع التعامل مع الواقع بشروطه الجديدة، وفي ظل تحكم أدوات الدولة بالمنافذ التي ستغير من العلاقات داخل هذه المدينة المحتجزة، أن نعود للماضي وأن نساهم في تغييره بطريقة ما، وإن بدا ذلك غير قابل للملاحظة بصورة كبيرة، بطبيعة الحال إن الأوضاع الاقتصادية التي نعيشها في عمان، شملت بترقيتها مختلف جوانب الحياة في كل المناطق، وساهم هذا بدوره فيما عرفه حليم بركات بـ ” مدننة القرية”[3]أي ردم الفجوات بينها وبين المدينة إلا أن هذا ساهم بخلق فجوات أخرى من قبيل التفاوت في مجالات التنمية ومستويات العيش والظلم الاجتماعي والحرمان النسبي، لقد دفُعنا دفعاً للنظر إلى هذه النتائج والتعامل معها وجودياً ومادياً. هنالك إرث من الحرمان الذي يبدو أن من يتسببون فيه يتملكون المدينة أو شبح المدينة كما نتخيله من على مسافة من لم يختبر العيش فيها بعد أو زارها لمرات محدودة، ألا يبدو بعودتنا إذن في كل مرة إلى القرية أننا نغذي حضورها الذي تم تهميشه فتم تهميشنا معه بالضرورة؟ 

أما بالنسبة للحياة الاجتماعية فهي انعكاس مستمر بالضرورة للحالة السياسية التي سبق وأن وضحتها في الفقرة السابقة، الحيلولة دون وجود حراكات سياسية واجتماعية أدت إلى وجود حالة من الصمت، الذي أطلق عليه الصمت المؤُسَّس، أي القائم على إرادة من قبل مؤسسات الدولة ذات العلاقة، وهو ممنهج عبر الرقابة التي تفرض باستمرار على محاولة التمايز عبر الكتابة أو الإعلام أو ممارسة أي نشاط جديد ومفارق للطبيعة التي تقدم بها المؤسسة هذا المجتمع، الكاتب المصري علاء خالد في مقال له بعنوان رحلة إلى الجنوب يقول عن هذا النوع من الصمت الذي يظهر في المكان ” المشكلة هنا ليست في الهدوء، ولكن في تحمل هذا الهدوء بدون ضجر، وإلا سيؤدي إلى تأمل في تفاصيل التفاصيل، وبدون هدف سوى تزجية الوقت، أو التأمل في نقطة فراغ داخلية، معكوسة من الخارج ربما يملؤها الحدس أو التصوف أو يملؤها سرد كلي لهذه النفس دون تفاصيل. على عكس المدينة التي ستتأمل في تفاصيلها الخارجية لكثرتها وامتزاجها بالعمل، وبدور متغير يومياً إلى حد ما” وأنا أتأمل هذا القول، أسأل لأي درجة تبدو مسقط مدينة بالفعل؟ وهل هذا الهدوء يدفعنا بشكل ما لاسترجاع الماضي؟ الأمر الذي نحتاج إليه بلا شك، لكنه إن لم يتضارع مع مواكبة الحداثة وإشكالاتها وأسئلتها ربما يساهم في فرض نوع من التغريب علينا كناس نعيش في هذا المكان، ويشكلنا بلا نهاية، ربما إلى الدرجة التي يصبح فيها من العصي علينا أن نعيد نحن تشكيله. 


[1] بيكاسو – جون بيرجر ، المنظمة العربية للترجمة – ص ٥٠-٥١ 

[2] ماركس في مسقط – بحوث حول البنية المادية وتوزيع الثرواث وتاريخية القوانين – دار جداول ص ٦٢ 

[3]المجتمع العربي في القرن العشرين – بحث في تغير الأحوال والعلاقات-  حليم بركات ص ٢٣٣ – مركز دراسات الوحدة العربية

أدب الخامس بعد المئة

عن الكاتب

أمل السعيدي