ضج الإعلام مؤخرا باستنكار التصريحات التي دارت في حوار تلفزيوني بين طبيبين فرنسيين، وفحوى التصريحات – التي وُصفت بالعنصرية – تقترح تجربة لقاح ضد فيروس كورونا المستجد في أفريقيا. هذا المقال لا يهدف لتفسير طرح الطبيبين، ولا يهدف إلى تحليل استجابة مستخدمي الشبكات الاجتماعية؛ بل يعالج مسألة أخلاقيةِ إجراء التجارب على البشر، والحدود الأخلاقية التي يمارس ضمنها هذا النوع من الأبحاث. وكيف يمكن أن تُحمى الفئات الخاصة (ذوو الأصول الأفريقية، الأطفال، أصحاب ذوو الأمراض المزمنة) من الاستغلال في سبيل البحث العلمي.
الحالات الثلاث التي يتناولها المقال ستبدو غير قابلة للتصديق؛ حالات ثلاث عن العلم المجنون، عن علماء يساومون العطف بالحقيقة، عن علماء يفقدون في سعيهم المحموم نحو المعرفة حسَّهم الأخلاقي، أو ما يتعارف عليه بأنه أخلاقي. لكن علينا أن نتذكر أن حالات كهذه هي التي أنجبت اللوائح التنظيمية التي يعمل بها الباحثون اليوم، هي ما أنقذت الإنسانية في النهاية، ولنصل – أحيانا – لابد من ضحايا.
مرضى يحقنون بخلايا سرطانية
في 2004 وفي الذكرى الأربعين لفضيحة حقن بشر بخلايا سرطانية حية، نشرت The New England Journal of Medicine أحداث الفضيحة التي جرت ملابساتها في 1964، في سعيها للخروج بدروس مستفادة من الحادثة، ودراسة الحالة بعدما يقارب النصف قرن من حدوثها. نُفذ البحث بحقن 22 مشاركا في التجربة بخلايا سرطانية حية، لدراسة ما إذا كان المشاركون قادرين على تكوين مناعة ضد المرض. خرجت القضية إلى العلن عندما قدم ثلاثة من الأطباء (كان قد عُرض على أحدهم أن يكون جزءًا من التجربة لكنه رفض) استقالتهم بعد أن علموا أن هذا البحث يجري وقتها في المستشفى، بعدها قام أحد أعضاء مجلس الإدارة برفع قضية ضد الباحثين الذين يجرونها.
كانت القضايا الموجهة للباحثين هي “الخداع والاحتيال”. إذ تحصل الباحثون على موافقة “لفظية” ودون الإشارة؛ لأن الخلايا التي يحقنون بها المشاركين هي خلايا سرطانية؛ لأن لفظة “سرطان” – حسب رأي الباحثين – ستبث الرعب في نفوس المشاركين؛ مع أن التجربة لا تشكل خطرا بالضرورة، فقد اعتقد الباحثون أن الحقن بالخلايا السرطانية لا يؤدي إلى تطوير مرض سرطاني. تجدر الإشارة إلى أن عينة التجربة تكونت من أشخاص يعانون أمراضا مزمنة، كما أن “الموافقة الخطية المسبقة” لم تكن وقتها عُرفا في الوسط البحثي.
عند عرض القضية على مجلس الحكام the Board of Regents كان رأيهم أن رياح التغيير قد هبت في مجال البحث العلمي، وأن المعايير الطبية القديمة قد عفى عليها الزمن. وأن أخلاقيات مهنة الطب ليست ذات علاقة بالقضية، فالباحثون – ولو ارتدوا المعاطف البيضاء – فهم يمارسون دورهم خارج إطار علاقة الطبيب بالمريض أثناء البحث.
هذه القضية جديرة بالتأمل لأنها أثارت نوعا جديدا من الأسئلة. أسئلة طارئة لا تجيب عليها أعراف ذلك الوقت. هل يحق للباحث – مثلا – إخفاء أي قدر من المعلومات حتى لو كان ذلك لمصلحة عينة البحث (لطمأنتهم وعدم إثارة هلعهم مثلا)؟ كيف يُقدم الطبيب النتائج المختبرية لمرضاه؟ عادة ما يحاول الأطباء التخفيف من وقع المآسي على مرضاهم، إنهم يلجأون إلى المقدمات الطويلة، ولتزويق الأخبار السيئة. تخيلوا معي شخصا يفيق للتو من غيبوبة طويلة، هل ينقل الأطباء إليه – فور إفاقته – خبر أن ساقيه قد تضررت في الحادث وأنه لن يمشي مجددا؟ أم أن قدرا من “إخفاء المعلومات” مبرر في هذه الحالة؟ وإلى متى؟
السؤال الآخر: متى يُعد عنصر البحث (الفرد المشارك بالبحث) مُؤهلا لاتخاذ قرار المشاركة من عدمها (يدعي منتقدو هذا البحث أن عناصر البحث في هذه القضية يفتقرون إلى الاستقرار البدني والعقلي الذي يؤهلهم للموافقة)؟ لكن ألن يعني هذا أن العلم إذا ما قرر استبعاد بعض الفئات فإنه سيخسر مصدرا للمعرفة، كان يمكن أن يكون مفيدا لاحقا، ربما يكون فارقا. ثم إنه باستبعاد الفئة التي نصفها “بالمفتقرة للاستقرار البدني والعقلي” ألن يكون في ذلك شيئا من العنصرية، ألن يجدر بعينة البحث أن تُمثل مجتمع الدراسة قدر الإمكان؟ إن استبعاد هؤلاء يحرمهم من منافع كامنة لكانوا انتفعوا بها لو شاركوا.
ثم هل يُساءل الأشخاص المضطلعون في التجربة باعتبارهم أطباء أم باعتبارهم باحثين (فاعتبارهم باحثين، يُحلهم من القسم الطبي، أو من الالتزام بآداب مهنة الطب)؟ وسؤال آخر حول دور الناشرين، إذ إن نتائج هذا البحث نُشرت لاحقا دون الإشارة إلى الظروف الملابسة لاستخدام عينة البحث.
يقول ليرنر – في دراسته للقضية: “يسهل علينا اليوم – بالنظر إلى المعايير الصارمة للحصول على الموافقة المسبقة – أن نُدين البحث الذي أُجري في مستشفى JCDH، ونصِف ما جرى بالعمل الشائن. لكن الهدف من دراسة التاريخ، لا محاكمة الماضي بمعايير اليوم، بل محاكمة ما حدث بمعايير ذلك الوقت. وفي ضوء ذلك، فهذه القصة صاعقة – في المقام الأول – ليس لأن مجموعة من الباحثين المتحمسين أقنعوا أنفسهم أنه من المقبول حقن خلايا سرطانية في أجساد المرضى دون علمهم، بل لأجل الأطباء اليافعين الذين رفضوا المشاركة في البحث، واستقالوا احتجاجا على الخرق الأخلاقي، واستخدام البشر كوسيلة تبررها الغاية” إذ أن هؤلاء استشعروا أن هناك خطأ ما؛ أن الباحثين – وإن كانت نواياهم حسنة – فقد تجاوزا الحد؛ وأن السعي للصالح العام لا يُبرر سلوكا كهذا. لكن التغيير نحو التشدد في أخذ الموافقة المسبقة لن يحدث إلا بعد تجربة توسكيجي Tuskegee syphilis experiment التي تعمد فيها الباحثون عدم تقديم العلاج لمرضى الزُهري السود بين عامي 1932 و1972.
مرضى الزهري السود يُحرمون من العلاج
هدف البحث إلى دراسة التطور الطبيعي لمرض الزهري، استخدم الباحثون عينة مكونة من السود الساكنين بولاية الاباما. كان الاتفاق هو تقديم الرعاية الطبية للمرضى المصابين بالمرض، ووجبات الطعام، والتكفل بتكاليف الدفن. ورغم اكتشاف علاج المرض في عام 1947 (البنسلين)، إلا أن الباحثين امتنعوا عن تقديمه للمرضى بهدف مواصلة بحثهم، بل إنهم منعوا المشاركين من الوصول إلى برامج العلاج المتاحة، أدى عدم العلاج أيضا إلى نقله لزوجاتهم، وولادة أطفال مصابين بالمرض. تسربت معلومات عن الدراسة إلى الصحافة، وأصبحت هذه القصة قضية رأي عام. تُعد التجربة من أسوأ التجارب سمعة في تاريخ أمريكا. وأدت إلى تغيير اللوائح المتعلقة بإجراء التجارب على البشر.
يبدو أن من السهل اتخاذ موقف أخلاقي من هذه القضية – بعيون اليوم على الأقل -. لم يستفد المشاركون في هذه التجربة بأي شكل من نتائجها، على العكس تماما، لقد استمر الباحثون في إلحاق الضرر بعدم تقديم العلاج، ومنعهم من الالتجاء إلى مؤسسات أخرى لعلاجه. يمكن أن نسأل أنفسنا: متى يُعد فردٌ ما مؤهلا لتقديم الموافقة، عوز هؤلاء دافع لمشاركتهم، انتفاء الحاجة يُحرر لكن ليس بالإمكان ضمان انتفاء حاجة المشاركة في الأبحاث الطبية، إذ لابد من تجربة العلاجات دائما، تجربتها على أفراد يُمثل العلاج الموعود لهم آخر الحلول.
ويلوبروك: حقن الأطفال بفايروس التهاب الكبد
ويلوبروك ستات سكول Willowbrook State School بنيويورك هي مؤسسة تعنى بالأطفال ذوي الإعاقة الذهنية. اهتم فريق بحثي – يرأسه ساول كروغمان Saul Krugman و جون بي جايلز joan P. Giles – بدراسة التطور الطبيعي لمرض التهاب الكبد، طرق العدوى، والتغيرات التي تصيب الجسم بمرور الوقت، وكيفية علاجه. عند بدء الدراسة لم يكن معلوما بعد ما هي أنواع الفيروسات التي تتسبب في التهاب الكبد، وما هي اختلافات المرض لدى من يصابون به عن طريق نقل الدم، مقارنة بمن يصابون به بالعدوى. كان المرض وقتها يُعد مرضا مزمنا، والأطفال في المؤسسة يصابون به خلال 6 إلى 12 الأشهر الأولى من دخولهم – حسب ادعاء الطبيبين -. للحصول على معلومات أدق حول تطور المرض تعمّد الباحثون نقله إلى الأطفال. برر الطبيبان هذا الفعل بالقول إن الإصابة بالمرض حتمية، وإن الحقن بالفيروس في وقت مبكر يمنح المرضى فرصة تكوين مناعة ضد المرض، وإن هذه التجربة تصب في مصلحة الأطفال المشاركين، إذ إنهم سيحصلون على أفضل عناية طبية، وإن العزل سيحميهم حتى من أمراض أخرى متشفية. سعى الباحثان إلى الحصول على موافقة الآباء لإجراء البحث، وفي الحالات التي امتنع فيها الآباء عن منح الموافقة، استبعد الباحثون الطفل من المشاركة في التجربة، كما منحوهم خيار الانسحاب منها في أي وقت. أشار الباحثان أيضا إلى أن تجربتهم حصلت على الموافقات الرسمية، وأنها ملتزمة بأنظمة إجراء التجارب على البشر.
يقول بول اوفيت Paul Offit واصفا التجربة “لقد راقب كروغمان جلود الأطفال تصفر، وراقب أكبادهم تتضخم، راقبهم وهم يستفرغون، ويرفضون الطعام”. الجدل هنا هو هل كانت هذه التجربة نافعة بأي شكل لهؤلاء الأطفال؟ وهل حجة القائمين عليها – بأن منافع الدراسة ستشمل الجنس البشري بأسره، وستنقذ آلاف الأرواح – كافية؟ هل يجاوز إجراء التجارب على المعاقين ذهنيا؟ هل يجاوز إجراء التجارب على الأطفال عموما (كونهم غير مؤهلين “قانونيا على الأقل” لتوقيع الموافقة السابقة)؟ كثيرون أيضا شككوا بالطريقة التي تحصل فيها الباحثون على موافقة أولياء الأمر، وأن الابتزاز العاطفي – أي حصول الأطفال على أفضل عناية طبية إذا ما شاركوا – له دور في موافقتهم. بالنسبة للوالدين أيضا، ما الذي يمنعهم من المشاركة إن كانت الإصابة بالمرض حتمية، وإن كانت المشاركة توفر فرصة أفضل للطفل؟
ملاحظات أخيرة
من اللافت أن مهنة هؤلاء الباحثين لم تتأثر تقريبا بالتجارب “المخزية” التي قاموا بها، على العكس لقد حصلوا على الإشادة والتقدير في الأوساط العلمية، رغم الجدل الأخلاقي الذي أطلقته أبحاثهم. من اللافت أيضا أن كشف حالتين على الأقل – الأولى والثانية – مرتبطة بأطباء شباب. مما يدفع المرء للتأمل في معاني ذلك. لا أريد القفز إلى استنتاجات من قبيل أن لدى اليافعين حسا أخلاقيا أعلى، لكن يمكن القول إن الشباب يأتون بمعايير جديدة، وقبولهم ورفضهم ينسجم غالبا مع قيم العصر الجديد. إن الانخراط لسنوات في مهنة ما قد يُعمي، قد يُولّد نوعا من البلادة الذهنية، أو الميل إلى عدم مساءلة الأشياء. لكن من يأتون بعيون “طازجة” يمكنهم الحكم لا بالمعايير المتفق عليها في مجتمع علمي ما، بل بمعايير العصر. ثم كيف يتم التعامل مع الأسئلة الطارئة، لمن نحتكم في ظل عدم وجود تنظيمات يُلجأ إليها للتقدير والمعايرة والفصل. يمكن أن نلتجئ للحس السليم، لكن هذا الحس المُشكل بتأثيرات اجتماعية والمنحوت بالقوى الثقافية، وتعرض الفرد منا لتجارب خاصة – لا يمكن التعويل عليه ليس لتنوعه فقط بل لميوعته أيضا لكونه متأثرا ومتحولا بطبيعته. ليس أمامنا إذا في مواجهة الأسئلة الطارئة إلى أن نقول للأطراف هاتوا حججكم ودعوا العقل الجمعي يحكم. محاكمات كهذه تعيد تشكيل الحس السليم، وتضع معايير سيُطيح بها حِس مستجد بتجدد الأسئلة.
المصادر:
Lerner, Barron (2004), Sins of Omission — Cancer Research without Informed Consent, The New England Journal of Medicine, August 12, 2004, VOL. 351 NO. 7
Rothman, David (1982). “Were Tuskegee and Willowbrook ‘Studies in Nature’?”. The Hastings Center Report. 12: 5–7. JSTOR 3561798
Munson, Ronald (2014), “Intervention and Reflection: Basic Issues in Bioethics”, Chapter 2: “Research ethics and Informed Consent” Pages 81-82
Wikipedia, “Willowbrook State School”, viewed in the 6th of April 2020, https://en.wikipedia.org/wiki/Willowbrook_State_School