شكلت الانتفاضات الشعبية في المنطقة العربية مساحة للتساؤل حول السرديات التعريفية للعديد من القوى السياسية الفاعلة على الأرض، وكانت أبرز الجماعات السياسية التي تم تناولها بالبحث والدراسة هي جماعة الإخوان المسلمين، فالجماعة تعد الفائز الأكبر من الإطاحة بالأنظمة العسكرية المُترهلة في العديد من البلدان العربية بداية من تونس إلى اليمن، إلا أن دور الجماعة الإسلاموية في سوريا، وتحديدًا مع تفجر الانتفاضة الشعبية في 2011 أنتج قراءة مختلفة نسبيًا لتاريخ الإخوان وعلاقتها على مستويي الشعب والسلطة السورية.
وبعد قرابة 9 سنوات مِن حرب دولية طاحنة شهدتها الأراضي السورية، يظل البحث الأكاديمي حاضرًا لقراءة تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، ففي آخر عام 2019 قدمت دارا كوندويت الباحثة الزائرة في جامعة كامبريدج كتاب ” The Muslim Brotherhood in Syria” للوقوف على منهجية العمل لدى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
الإخوان في التاريخ السوري
تناولت دارا الجماعة مِن محورين، الأول محور تاريخي، ويشير إلى الصدام المسلح العنيف بين الجماعة والنظام السوري في حماة 1982، الذي شكّل أقصى تعبير عن وجود الجماعة على الأرض السورية، إلا أن ظهور الذراع المسلح للجماعة في القضاء على وجودها تقريبًا، وتفتت خطابها الدعوي والسياسي، كما تقول دارا. كما أن الأمر له جذور مُمتدة عبر التاريخ منذ لحظة تأسيس الجماعة في سوريا بين 1945 و 1946 فقد افتقدت الجماعة إلى التماسك البنيوي بين أفرادها، وافتقدت الإيديولوجيا الإخوانية الخاصة بهم إلى جاذبيتها بين أواسط الطبقة الوسطى والفلاحين السوريين، وعلى الرغم مِن هذا حاول الإخوان لعب دور سياسي في سوريا بين عامي 1947 و 1963، ومع الانقلاب العسكري 1963 وصعود القوى البعثية والناصرية دخل الصدام مع الجماعة مرحلة جديدة توّجت ذروة العنف بأحداث حماة.
فشلت الجماعة في حماة، ما شكّل ضغطًا على قياداتها في توفير الإجابات اللازمة للقاعدة الجماهيرية الضعيفة بالأساس عن هذا الإخفاق السياسيّ والعسكري ما جعلهم يلجؤون إلى إعادة تفسير الصدام المسلح بوصفه خيارًا تكتيكيًا وليس خيارًا إيديولوجيًا. وقد حاولت الجماعة استغلال الحدث كمظلومية تعيد تقديم نفسها مِن جديد للشعب السوري بوصفه فصيلًا قادرًا على الحل، ولكن تم إبعاده.
ولم تُظهر جماعة الإخوان أي ميل نحو العنف منذ حماة، وأعطت لأعضائها السوريين مساحة صغيرة للمناورة لضمان الوجود على الساحة السياسية السورية، وتطورت البرغماتية الإخوانية في سوريا في تخلي الجماعة عن العلاقات التقليدية التي رغبت دائمًا في تكوينها مع التجار في الريف والحضر، وحقوق الملكية الخاصة، والنيوليبرالية، والدستور الإسلامي. كما لجأ إخوان سوريا إلى تدويل مواقع اتخاذ القرار السياسي، وربطه بأفرع الجماعة بالعراق والأردن، مع الإبقاء على التواصل الحذر مع الخلايا النائمة للجماعة بالداخل السوري، وقد ساعدت البيئة المُعادية للجماعة منذ نشأتها على إضفاء مرونة سياسية وفكرية أدت إلى تكوين سِمات فردية كالحيطة والحذر والتخفي للشخص المنضم للجماعة، وهذا مِن أجل الحفاظ على مكانها بين شرائح المجتمع في ظل زخم الحركات اليسارية والشيوعية، وصعود نجم الأفكار الوهابية.
الإيديولوجيا الإخوانية في الساحة السورية
ركزت دارا في المحور الثاني مِن دراستها لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا على غياب الخطاب الأيديولجي التقليدي لتيارات الإسلاموية، فقد انتهجت الجماعة سياسة اعتمدت على البراغماتية، والفردانية، والمرونة في الخطاب الفكري. وقد تشكل هذا الخطاب الفكري من خليط بين الأفكار الوهابية السلفية والصوفية، فقيادات الجماعة في سوريا أرادوا أن يقدموا أنفسهم كحزب سياسي محافظ يريد المشاركة في الحكم وليس ابتلاع الدولة السورية وتغيير سياستها العامة، فالجماعة لم تنتهج الخطاب التقليدي مثل تطبيق الشريعة الإسلامية؛ بل رفعت شعاري الديمقراطية، واللاعنف، وهذا ما دفع دارا إلى الحديث عن ضرورة إعادة النظر في تعريف الإسلامويين والإخوان المسلمين في سوريا تحديدًا.
أرادت الجماعة أن تتحول لحزب سياسيّ، إلا أنها بقيت كجماعة أو حزب بلا مصداقية لدى الشارع السوري المنتفض، فالبراغماتية السياسية للجماعة شككت في قدراتها على لعب دور المعارضة السياسية للنظام، بل إن الجماعة كانت دائمًا على استعداد لتقديم تنازلات سياسية، فعلى سبيل المثال، أصدرت الجماعة في 2001 ما سمي «ميثاق الشرف الوطني»، لتلحقه بمشروع سياسي لمستقبل سوريا عام 2004 وهذا من أجل التعاون مع النظام السوري في بناء حياة ديمقراطية، وبناء دولة مدنية. ثم انضمام الجماعة عام 2005 لإعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، لكن سرعان ما انقلبوا على التغيير الديمقراطي، وتحالفوا مع عبدالحليم خدام الممثل للنظام آنذاك، وصولًا إلى إعلان الجماعة تجميد نشاطها السياسي المُعارض خلال الحرب على غزة 2008-2009، وهذه السياسة البراغماتية لم تكن تتماشى مع مطالب الشارع المنتفض الذي أراد الإطاحة بالنظام بالكامل. وهذا يفسر حضور الجماعة الضعيف على مستوى القاعدة الجماهيرية في انتفاضة مارس 2011.
في ظل حرب طاحنة تكاثرت فيها الجماعات الإسلاموية العسكرية التي صارت على قوائم الإرهاب مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وجبهة النصرة وجيش الإسلام وكتائب بمسميات مختلفة لا تحصى ولا تعد، أرادت الجماعة أن ترسي لنفسها منهجًا مُختلفًا في التعامل مع البيئة الدولية أكثر من البيئة الداخلية، فمع مواصلتها في الدعاية أنها تمثل الخيار الديمقراطي وتدعم اللاعنف إلا أنها اعتمدت بشكل أساسي على النصوص الراديكالية التقليدية للمؤسس حسن البنا والمؤسس الآخر لفرع الجماعة في سوريا مصطفى السباعي، ما جعل الجماعة تسقط في الماضي ولا يمكنها تقديم أي حلول للأزمة السورية خلال أحداثها المتسارعة منذ اندلاع انتفاضة 2011.
وتشير دارا أن الفكر الإيديولوجي للجماعة في سوريا لا يشكل ثقلا للجماعة بل التاريخ السياسي المُعاد صياغته عن القمع وصناعة المظلومية، وهذا التاريخ الذي ارتكنت إليه الجماعة ما لبث أن أثبت فشله، فالذاكرة والقمع والخوف من الماضي والقيادة اللامركزية والهياكل التنظيمية المصابة بالعطب أدت إلى شلل داخلي في صفوف الجماعة، كما شكل فقدان البُعد الوطني وارتماء الجماعة في أحضان الدول الأجنبية، والبعد حد الانفصال عن القاعدة الشعبية في سوريا لعدم تبلور مستقبل سياسي حقيقي للإخوان في سوريا.
الإخوان.. الرقص على حبال كل العصور
وبالرغم من افتقاد الإخوان في سوريا إلى قاعدة دعم جماهيرية في الداخل نتيجة سنوات القمع والسمعة السيئة ورداءة الخطاب الإيديولوجي؛ إلا أن الجماعة قرّرت اللجوء للحلفاء على الساحة الدولية ولعب دور النخبة، ما أدى خطابها هذا إلى تنفير الشباب المنتفض من الاستماع لصفوف الجماعة أو الانضمام لها، كما تشير دارا، واكتفت الجماعة بأن تكون بوابة لدول مثل السعودية وقطر وتركيا لعبور للمساعدات الإنسانية، التي سرعان ما تحولت إلى سلاح ومقاتلين.
وبخصوص عسكرة الانتفاضة السورية سجلت دارا حيثيات اجتماع تم في المملكة العربية السعودية أواخر العام 2011 أقرت فيه الجماعة رفضها لتكوين ميليشيات أو تسليح أعضائها، وتبدو الظلال الثقيلة لفشل الجماعة العسكري في حماة كان يحكم قرارها، لكن سرعان ما تغيّر هذا القرار في منتصف 2012 إذ مارست الجماعة ما تجيده وقامت بمناورة في عملية إدارة الأعضاء؛ حيث أقرّت نهجًا لا مركزيًا سمح لأفراد الجماعة الانضواء بحرية إلى الجماعات والميليشيات المسلحة في سوريا مع ضمان الموافقة الضمنية من القادة في الجماعة مع إخلاء المسؤولية عن هؤلاء حتى لا تنجر الجماعة لقوائم المنظمات الإرهابية. أو كما تشير دارا، مثل النهج اللامركزي في الإدارة طمس معالم العلاقة بين الأفراد المقاتلين والجماعة. ولم تكتفِ بهذا؛ بل موّلت هؤلاء المقاتلين عبر المساعدات الإنسانية، وحشدت عشرات الأعضاء لتقديم خدمات تعليمية وصحية يمكن نشر الإيديولوجيا التابعة لهم مِن خلالها.
كتاب دارا عن الإخوان المسلمين لا يشكل اجترارًا لتاريخ الجماعة، ولا يعد نقدًا ولا مدحًا لهم بشكل كلاسيكي، ولم يتطرق إلى الخطاب الطائفي الصادر عن الجماعة في موقعها الرسمي على الإنترنت، بل عملت دارا دراسة عن أهمية الحاضنة الداخلية السورية، التي تلعب دورًا كبيرًا في تحديد قيمة أي كيان مُعارض وثقله. فالإخوان، وبالرغم من قوة الجماعة في بلدان الجوار لسوريا، إلا أنهم لم يحظوا بأهمية يمكن الارتكان إليها في ظل الأزمة السورية منذ 2011، وهذا يعد دليلًا أن المعارضة ليست فقط فرصة سياسية ولا هيكلا تنظيميا سريا، بقدر ما تشكل العملية السياسية فعلًا تخطيطيًا وتحديثًا مستمرًا لأدبيات السلطة وطرق الحكم ونمط الاقتصاد، وهذا ما افتقدته جماعة الإخوان في سوريا.