وردت كلمة “الجزية” في آية واحدة في سورة التوبة: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة:29 وقد استقر الفقه من قديم على فرضها على من دعاهم بأهل الذمة من الكتابيين ممن يعيشون في كنف الذين آمنوا.
-1-
(قَاتِلُواْ) من الفعل (قتل)، وهو يعني تأثير قوة شديدة على نطاق معين فيتداعى، لذلك يشمل كافة أشكال إيقاع الأذى المادي أو المعنوي، وأقصى درجاته إزهاق النفس:
- (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) عبس:17-21
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ، يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) الذاريات:10-14
(قتل الإنسان/قتل الخراصون) في سياق الآيات تدل على مدى ضغط آيات الله الكونية على ذهن الإنسان والخراصين، يعقبه تشكل جديد نتيجة قوة البراهين الضاغطة.
والتشكل الجديد يكون إما بمزيد من الإنكار والصد أو بمراجعة المواقف السابقة أو بحصول تدافع ما، والقتل في هذه الآيات ليس إزهاق النفس.
والمعنى الذي ذكرته للفعل (قتل) ورد في العديد من شواهد الجمع اللغوي، فقد ورد:
قال ابن الأنباري: قاتل الله فلاناً، أي عاداه، قتّل أي ذلل، من قولهم فلان مقتّل ومضرس وقال الليث: المقتّل من الدواب الذي ذل ومرن على العمل. وقلب مقتّل وهو الذي قتل عشقاً. وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه قال في قول امرئ القيس: بسهميك في أعشار قلب مقتّل، قال: المقتّل المعود المضرى بذلك الفعل، كالناقة المقتّلة المذللة لعمل من الأعمال.
وقال الليث: تقتّلت الجارية للفتى في مشيتها. وتقتل الرجل لحاجته إذا تأتىلها، والرجل يتقتل للمرأة: يتضرع لها (محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة، مادة “قتل”).
وعليه فإن كلمة “قاتلوا” في الآية: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ…) التوبة:29 تشمل كافة أشكال الضغط على هذه الفئة المعتدية، سواء كان:
- ضغطا بالحجة والبرهان
- أو ضغطاً اجتماعيا بعدم مخالطتهم
- أو ضغطا اقتصادياً بتحجيم العلاقات الاقتصادية معهم وفرض عقوبات اقتصادية عليهم.
وهذا كله مشروط بحصول اعتداء من الطرف الآخر بأي شكل من الأشكال: اقتصادي أو اجتماعي أو عسكري أو ثقافي، أما الابتداء بالاعتداء دون سبب فمنهي عنه لأنه ظلم وطغيان (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة:190 وهذه قاعدة عامة في كل أمر بالقتال في القرآن.
-2-
(قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ…) التوبة:29
اتفق الفقه على أخذ الجزية من اليهود والنصارى، واختلف في أخذها من الصابئين والمجوس والمشركين، واختلف كذلك في العديد من تفاصيلها، والذي يعنينا من ذلك كله أن الفقه أجرى الجزية على معتنقي هذه الملل بعيشهم في كنف الذين آمنوا في السلم والحرب. والفقه المعاصر الذي تتبناه الحركات الدينية كالإخوان والسلفية والمدارس المذهبية التي تدير المعاهد والكليات والمدارس والحوزات في المنطقة العربية؛ كلها بلا استثناء تعتمد سقف القرنين الثاني والثالث الهجريين الذي تشكل باجتهادات جيل الصحابة والتابعين، ومما روي عنهم في ذلك:
1. مصنف ابن أبي شيبة (32641)؛ سأل إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ابْنَ عباس: مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؟ قَالَ: الْعَفْوُ.
2. تفسير ابن أبي حاتم (10272)؛ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ، قَالَ: جِزْيَةُ الأَرْضِ وَالَرَّقَبَةِ، جِزْيَةُ الأَرْضِ وَالرَّقَبَةِ قَالَ جَعْفَرُ: أَحْسِبُهُ قَالَ ثَلاثًا.
3. تفسير ابن أبي حاتم (10030)؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ “مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ” يَعْنِي: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
4. مصنف ابن أبي شيبة (32641)؛ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ غَيْرَهُ، وَكَانَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ، وَكَانَ بَعْدَهُ جِهَادٌ آخَرُ عَلَى هَذِهِ الطُّغْمَةِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ”قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ” إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ الْحَسَنُ : مَا سِوَاهُمَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ.
5. مصنف ابن أبي شيبة (32634)؛ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكُمُ الْمُسْلِمُ، لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ.
6. مصنف ابن أبي شيبة (32637)؛ عن مُجَاهِدٍ قَالَ: يُقَاتَلُ أَهْلُ الْأَدْيَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ.
من مجمل هذه الآراء المنسوبة إلى بعض الصحابة والتابعين يتضح أنها ترتكز على أفكار رئيسة هي:
– أن القتال محصور في الحرب التي تزهق فيها النفس.
– أن القتال الحربي يكون ابتداء من الذين آمنوا ضد الذين أوتوا الكتاب لاختلاف الدين والمعتقد، وتفرض الجزية عليهم إن أبوا الإسلام.
– تفرض الجزية على الذين أوتوا الكتاب على استمرار حتى وإن صاروا مواطنين في الدولة التي يحكمها الذين آمنوا.
ولا أرى صحة هذه الأفكار، وأعدها معبرة عن ثقافة زمنية/إقليمية تغلب قيم الحرب وجباية الأموال على أية اعتبارات أخرى، وهذا لا إشكال فيه لأن الأفكار البشرية متعلقة بطبائع الاجتماع وما يسود فيه من قيم ومحددات، ومن الخطأ الفادح أن نحمل الدين تبعة آرائنا وتفسيراتنا الزمنية التي تحتاج إلى تطوير وتحديث مستمر بكشف المآلات المتجددة لآيات الله في الكتاب (الكون والقرآن).
-3-
(قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ…) التوبة:29
يشترط في الفئة التي تقاتَل حتى تعطي الجزية أن يكون قد صدر منها اعتداء يبرر القتال، فلا بد أن يكون القتال مشروعاً لا اعتداء فيه من الذين آمنوا، وكذلك فإن كلمة “قاتلوا” في الآية بدلالتها اللسانية في القرآن والجمع اللغوي تشمل كافة صور وأشكال الضغط الذي يمارس على الطرف الآخر وليس محصوراً في القتال الحربي كما تصور الفقه قديماً وحديثاً.
والفئة المعتدية التي تعطي الجزية في الآية لها أربعة أوصاف لا بد أن تتحقق جميعاً:
- لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ سواء كان ذلك إنكاراً منهم لوجود الله واليوم الآخر؛ أو التشكيك في وجودهما.
- لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ وذلك باستباحتها، كاستباحة الفواحش ما ظهر منها وما بطن أو الإثم أو البغي بغير الحق.
- لا يدينون دين الحق
- من الذين أوتوا الكتاب؛ فكل البنود السابقة يشترط أن تصدر ممن لهم صلة ما بدين سماوي، وكلمة “الكتاب” بالتعريف تعني حقائق الكون وتعاليم الرسالة في سياق واحد، والكتب السماوية جميعاً في أصلها رسالة منحوتة من كتاب الكون، فالذين أوتوا الكتاب لهم صلة بالرسالة بدرجة ما، والآية لم تحصرهم باليهود والنصارى، والصحيح أي من له صلة إيمانية أو إيمانية بتعاليم الكتب السماوية أو تعاليم الأنبياء والرسل هو من الذين أوتوا الكتاب.
وجدير بالذكر أن الكتاببين في القرآن ليسوا صنفاً واحداً، فهناك:
- “أهل الكتاب”
- ومنهم “الذين آتيناهم الكتاب”
- و”الذين أوتوا الكتاب”
فمن أهل الكتاب من يؤمن بالله واليوم الآخر (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) آل عمران: 199، ومن الذين أوتوا الكتاب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، فمن الخطأ البين تعميم آية (التوبة:29) لدمغ الكتابيين بعدم الإيمان بالله واليوم الآخر لاختلاف بعض التفسيرات العقدية المتعلقة بها، والتي غالباً ما تكون محل بحث فئة رجال الدين دون بقية الناس، وجدير بالذكر أن من له صلة اجتماعية أو إيمانية بالقرآن وبرسالة الرسول محمد يدخلون في أصناف الكتابيين.
وخلاصة تعريف الفئة المعتدية التي تعطي الجزية هي فئة من الذين أوتوا الكتاب لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، وقد يتساءل البعض كيف يجتمع في فئة أنها من الذين أوتوا الكتاب ولا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟.
الجواب أن هذا حاصل في أحوال الناس، فتجد منهم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ومع ذلك يَبقون على صلة ما بالكتاب أو التعاليم الرسالية، فتجدهم يصلون في بعض المناسبات أو يلتزمون ببعض التعاليم كالتي تتعلق بالمحارم من النساء أو ينسبون أنفسهم اجتماعياً إلى تعاليم الكتاب، فايتاء الكتاب لهم كان بحكم الانتماء الاجتماعي لكنهم خرجوا عن أصولهم الاجتماعية الموروثة ولم يعودوا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
-4-
(… حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة:29 الجزية من الجزاء، وهو جزاء يوقع على الفئة المعتدية من الذين أوتوا الكتاب ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، والجزية ليست محصورة في إعطاء النقود، بل يجوز أن تكون أي شكل من أشكال الجزاء، فقد تكون عينية أو خدمات، فليس للجزية شكل أو حد معين لورودها مطلقة في الآية.
ومن أمثلة الجزية على الفئة المعتدية (دول أو أفراد):
- دفع غرامة مالية
- تقديم خدمات للمجتمع
- استعمال مطاراتها العسكرية في أغراض معينة مدة من الزمن
- تقديم منح دراسية أو تدريبية للطلبة في الجامعات والكليات والمعاهد
- تقديم تسهيلات تجارية مدة من الزمن
(وَهُمْ صَاغِرُونَ) ذهب الجمع اللغوي إلى أن (الصَغار) يعني الذل، وقيل الصَّغَارُ مَصدر الصَّغِير فِي القَدْر. والقاسم المشترك بين (الصَغار) و(الصِغار) أنهما يعودان إلى الجذر (صغر)، وهو دال على معنى الممانعة المتكررة التي تنشيء مقدراً غير محدد:
- فالصغير كثير الممانعة والصد بما ينشيء أوضاعاً غير متوقعة.
- واسم الفاعل “صاغر” هو الممانع الذي تنشيء ممانعته أوضاعاً غير متوقعة،كالرضوخ أو الرغبة في الانتقام أو رغبة في تقييم الوضع.
وفي حال من يؤتي الجزية فهو يعطيها مرغماً بما يؤدي إلى نشأة أوضاع عديدة غير متوقعة، فمعنى “الذل” الذي افترضه الجمع اللغوي هو نتيجة للصَغار وليس هو ذات الصَغار، والصواب ما قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى: (كُل مَنْ أَطَاعَ لِمَنْ قَهَرَهُ فَأَعْطَاهُا عَنْ غَيْرِ طِيبَةِ نَفْس، فَقَدْ أَعْطَاهَا عَنْ يَدٍ).
وقد ذهب قطاع في الفقه إلى أن الجزية تستوفى بإهانة وإذلال معطيها، ومما ورد في ذلك:
- تفسير ابن أبي حاتم (10038 )؛ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” قَالَ: وَيُلْكَزُونَ.
- (وقوله “بالذل والقهر والهوان” تفسير لقوله تعالى “وهم صاغرون” أي يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس وأن يثلل ويؤخذ بتلابيبه ويقال له: أد الجزية، وإن كان يؤديها. ويزخ في قفاه…) أحمد بن سعيد الشماخي، حاشية على مقدمة التوحيد وشروحها، ص114.
3. (المراد بالصغار الأخذ باللحى والضرب في اللهازم، فيكلف الذمي أن يوفي الجزية بنفسه، ويطأطىء رأسه، ويصب ما معه في الكِفة، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته) عبد الملك الجويني، نهاية المطلب في دراسة المطلب،ج18 المسالة رقم ( 11443).
وهذا الرأي منتقد لأن الصَغار هو ممانعة وصد معطي الجزية وما ينشأ عن ذلك من أوضاع، ولا يعبر عن مضمون الذل والإهانة، وحتى مع الرأي القائل بأن الذل مرادف للصغار فإن ذات إعطاء الجزية ذل، وهذا ما قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى: بأن (كُل مَنْ أَطَاعَ لِمَنْ قَهَرَهُ فَأَعْطَاهُا عَنْ غَيْرِ طِيبَةِ نَفْس، فَقَدْ أَعْطَاهَا عَنْ يَدٍ)، وانتقد أبو اسحاق اطفيش هذا التوجه بالقول إن هذا العمل لا يستند إلى دليل، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل هذا بأحد من أهل الذمة، بل هذا القول نقيض قوله عليه الصلاة والسلام “من آذى ذمياً فقد آذاني” وتأديه الجزية هو نفس الصغار الوارد في الآية، والإسلام أعظم من أن يحض أهله على هذه الأعمال المنافية للعظمة والعدل.
والخلاصة أن القول بلكز أو ضرب معطي الجزية هو تعد وتجاوز ولا يليق بالذين آمنوا أن تصدر منهم هذه الممارسات؛ فهم مأمورون بالعدل ومنهيون عن الظلم والاعتداء.
-5-
في هذه الفقرة سوف أضرب أمثلة على إعطاء الجزية:
- المثال الأول: قامت حكومة (بلد سكانه من الذين أوتوا الكتاب ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر…الخ) بطرد مواطني بلد من الذين آمنوا، دون ذنب اقترفوه.
في هذه الحالة يقاتلون بما يلائم الاعتداء الحاصل، كأن تفرض عليها عقوبات اقتصادية وسياسية، وفي حال تراجعت عن قرارها الخاطيء جاز فرض جزية عليها، كأن يقدموا لسكان البلد المعتدى عليه منحاً دراسية وتدريبية مجانية في جامعاتهم وكلياتهم مدة من الزمن.
- المثال الثاني: قامت مؤسسة (إدارتها لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولها صلة ما بالكتب السماوية…الخ) لها فروع في عدد من دول العالم بالتحريض المستمر على العنف في بلد من الذين آمنوا؛في هذه الحالة تقاتل هذه المؤسسة بما يلائم كأن تقاطع ولا يتعامل معها ويضغط بشدة على مصادر تمويلها ودعمها. وفي حال رضوخها وتوقفها عن سياسة التحريض على العنف جاز فرض جزية عليها: غرامة مالية أو تقديم خدمات أنفع للمجتمع.
ومما يجب التنبيه إليه في فرض الجزية على الفئة المعتدية بأوصافها في الآية:
- الجزية ليست مؤبدة؛ إذ إنها جزاء مرتبط بالملاءمة الاجتماعية والأمر بالعدل والنهي عن الظلم، فأي اعتداء يصدر من الفئة المعتدية بأوصافها المقررة شرعاً له جزاء ملائم، أما أبدية الجزاء فيتنافى مع الملاءمة الاجتماعية والعدل بل هو ظلم بين، وليس في الآية أي إلزام بتأبيد الجزية.
- الجزية مشروعة وليست واجبة؛ فهي تدور في فرضها ونوعها ومقدارها للملاءمة الاجتماعية، وللسلطة التنفيذية في الدولة سلطة تقديرية في فرضها من عدمه مراعاة للمصالح العليا، فهي متعلقة بمصلحة الدولة ومن حق السلطة الشرعية تقرير مدى الملاءمة من عدمها.
وهذا التوجه عُرف من قديم، فقطاع من الفقه أسقط الجزية عن النساء والصبيان والرقيق والزمنى والرهبان والشيخ الفاني، ولا دليل من القرآن يسقط الجزية عن هذه الأصناف طالما كانوا من المعتدين، لكن الفقه ذهب إلى ذلك لاعتبارات إنسانية ولكون الجزية مشروعة لمصلحة المعتدى عليه وليست واجبة، وعليه يسطيع تنظيمها بحزمة من التشريعات الملائمة اجتماعياً.
-6-
بقيام الدول الحديثة في المنطقة العربية؛ خلت التشريعات من فرض جزية على المواطنين المنتمين إلى الديانات ذات الأصول الكتابية من أهل البلد، ولم يثر نقاش فقهي في العصر الحديث حول هذه المسألة إلا بصعود التيارات السلفية بكافة أشكالها، التي نادت بتطبيق التراث الفقهي القديم وعدته الممثل الحصري للشريعة.
وهذا النقاش أدى إلى انتقادات حادة للتيارات السلفية، التي اتهمت بتهديد الوحدة الوطنية للمجتمعات ومحاولة إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء.
السلفيون رفضوا هذه الاتهامات وحصنوا آراءهم بدعاوى إجماع جيل الصحابة والتابعين على فرض الجزية على الكتابيين من أهل البلد.
وعندما أسس تنظيم “داعش” السلفي دولته في العراق وسوريا في السنوات الماضية أعلن فرض الجزية على المسيحيين، وهو أول تشريع للجزية في العصر الحديث في المنطقة العربية، وقد أثار ذلك موجة من السخط والانتقاد العنيف لداعش التي انتقلت بالتراث الفقهي القديم إلى التطبيق.
وقد حاول راشد الغنوشي-أحد كبار مفكري الإخوان في كتابه (حقوق المواطنة، حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي) إيجاد مخرج من ورطة الرؤية السلفية للجزية التي باتت عبئاً على دعاة تطبيق التراث الفقهي القديم والتي يستغلها خصومهم في تشويه صورتهم أمام الرأي العام.
وهذا المخرج كان بالقول إن الجزية شرعت على المواطنين الكتابيين لأجل حمايتهم والتمتع بخدمات الدولة،وذلك بخلاف الرؤية الفقهية القديمة التي استندت إلى أنها مشروعة لأجل كفرهم.
وهذا الرأي لم يحل أي إشكال من إشكالات الجزية في الرؤية السلفية:
- لم يخرج الغنوشي عن نطاق السلفية في إيتاء الجزية دون اشتراط اعتداء من الطرف المعطي لها.
- رأى الغنوشي الجزية على المواطن المختلف في الدين،بينما تحدثت الآية عن جزية تؤتى بعد قتال بين طرفين، ولم تتناول الآية موضوع مواطني الدولة المختلفين في الدين، الذين لا شأن لهم بأي قتال حربي أو غير حربي.
- الآية لا تتحدث عن أهل الكتاب جميعاً، وإنما تتحدث عن صنف معين هم الذين أوتوا الكتاب ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، وهذا الوصف لا ينطبق على جميع الكتابيين،ومن الخطأ تعميم تلك الأوصاف على جميع أصناف الكتابيين.
- أما موضوع الحماية الذي ابتكره الغنوشي أو غيره فلا يقدم ولا يؤخر، فمن وظائف الدولة حماية مواطنيها من الأخطار المحدقة بهم، أياً كانت دياناتهم.
وبالتالي فإن رأي الغنوشي الذي يروج له منذ حوالي أربعين سنة لا يخرج عن نطاق محاولة تجميل صورة منتج فقد صلاحيته الزمنية.
والصواب الذي تطمئن له النفس؛ أن المواطنين من الذين لهم صلة بالكتاب (مسيحيين، يهود، صابئة…الخ) لا تفرض عليهم أي جزية طالما لم يصدر منهم اعتداء، إذ الجزية تشرع باشتراطات معينة لا تنطبق على المواطن المختلف في الدين الذي يعيش آمناً في بلد يحكمه الذين آمنوا.