مقابلة مع إرنست يونغر

كتب بواسطة أحمد الزناتي

إرنست يونغر ( 29 مارس 1895 – 17 فبراير 1998) هو  واحد من آلهة الأدب في القرن العشرين، لكنه إله مُحتجب بتعبير  العهد القديم. عاصر  يونغر  الذي مات وقد ناف على المئة، خمسةَ عصور من تاريخ ألمانيا، منذ الإمبراطورية إلى جمهورية فايمار وقيام وانهيار الرايخ الثالث، ثم الجمهورية الثانية التي قسّمتْ ألمانيا، ثم سنوات ما بعد سقوط جدار برلين. شارك يونغر في الحرب العالمية الأولى ضابطًا وجُرح عدّة مرات، ونال وسام الشرف في نهاية الحرب العالمية الأولى. تقار ب يونغِر  [شعوريًا لا تنظيميًا] لفترة وجيزة  مع الاشتراكين القوميين بعد انتخابهم، لكنه ما لبث بعد فترة وجيزة أن انفصل عنهم واتخذ مسارًا فكريًا مستقلًا فيما بعد، وبعد صدور روايته الشهيرة “الجرف المرمري، وهي الرواية التي وُصفت بالمناهضة للقوميين، حاولت قيادات الحزب سجنه، إلا أنّ قائد الحزب أدولف هتلر كفّ أيديهم عن إيذائه، وقال لهم: “اتركوا إرنست يونغر  في هدوء”، وكان وزير الدعاية يوزيف جوبِيلز  معجبًا بذكاء يونغر، ويضعه موضع تقدير واحترام، وتمنّى لو  أمال رأسه، ليكون المفكّر  الأول للحزب إلى جانب ألفريد روزينبيرغ، إلا أن يونغر   رفض رفضًا قاطعًا. 

في أثناء الحرب العالمية الثانية خَدم يونغر  في باريس، وتعرّف إلى بيكاسو والكاتب الفرنسي الكبير لويس فيرديناند سيلين والكاتب المسرحي جان كوكتو، وجمعته صداقة بالضباط الذين تآمروا لاغتيال أدولف هتلر، لكنه لم يُعدم، فاكتفوا بتسريحه من الخدمة العسكرية. وفي سنة 1949 نشر يونغر مذكراته تحت عنوان “تأملات” (بترجمة الحرفية: إشعاعات) لتبدأ بعدها رحلة طويلة مع الكتابة نشر  خلالها ما يربو عن مئة كتاب ما بين رواية ومذكرات وكتب رحلات ورسائل ويوميات.

رغم ذلك لم يبتعد يونغر عن إيمانه بالروح العسكرية وتقديسه لفكرة الدولة القومية القوية، وربطت يونغر أواصر صداقة قويّة بالفيلسوف الألماني الأشهر مارتن هايديغير، وكذلك بالمفكّر والفقيه الدستوري الكبير  كارل شميت الذي تبادل معه عددًا ضخمًا من الرسائل الثرية. 

على المستوى السياسي ما يزال يونغر شخصية مثيرة للجدل، فالشيوعيون يرونَه أرستقراطيًا متعاليًا وفـاشـيًا متخفيًا وراء قناع التهذّب، والليبراليون يرونَه محتقرًا للديمقراطية، واليمين القومي يرونَ في بعض أعماله الأدبية احتفاءً ببعض القيم الاشتراكية كالعدالة الاجتماعية، إلخ، ومن ثم لم يحظ يونغر  بحُب الأوساط الفكرية الألمانية لا في جمهورية فايمار  ولا في الرايخ الثالث ولا حتى في جمهورية ألمانيا الاتحادية، لكن قادة الدولة الألمانية في العقدين الأخيرين السابقين على وفاته أعادا إليه حقّه، حيث كرّمه المستشار  الألماني الأسبق هيلموت كول، ودعاه إلى حفل عشاء في صحبة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران.

في 27 أكتوبر 1982 قام الأديب الأرجنتيني الأشهر خورخي لويس بورخيس بزيارة إرنست يونغر في منزله المنعزل في قرية “فيلفنغين” النائية، قليلة السكان في مقاطعة بادن فورتيمبيرغ. 

في السطور القادمة نقدّم ترجمة للحوار القصير  الذي أُجرِي مع يونغر في حضور بورخيس.

المحاور:

أودّ أن أوجّه عناية السيد يونغر  إلى أن الغرض الأساسي من هذه المقابلة هـو  أن يتعرّف مستمعو القارة اللاتينية من السيد يونغر  إلى شيء عن رؤيته لأدب أميركا اللاتينية المعاصر.

يونغر: أعتقد أنّ هذا سؤال مفاجئ، لأنني لا أملك وقتًا للوقوف على الأدب المعاصر المكتوب بالإسبانية، ولا أخصّ الأدب الإسباني وحده، لأنني لستُ مُلمًا بالأدب المعالمي المعاصر  على وجه العموم، مع استثناءات بعينها في الأدبين الإنجليزي والفرنسي، أما الأدب الإسباني، وتحديدًا أدب أميركا اللاتينية فلا عهد لي به إلا فيما ندر، أسثثني منه “بورخيس”، وإنه لمن دواعي السرور والفخر  أن تتاح لي فرصة استضافة السيد بورخيس هنا في فلفينغن، فما أندر  أن يظهر  شاعر حقيقي، وهو السبب الذي دفعني إلى أن أوجّه إليه تحيّة حارة، وقد استمتعنا بمحادثة شيّقة للغاية، تداخلت فيها الألسنة ما بين إسبانية وألمانية وفرنسية وإنجليزية وإنجليزية قديمة، [1]لكني أعتقد أننا تفاهمنا جيدًا

المحاور:

يُفهم من كلامك أنك غير مُلم بأدب أميركا اللاتينية، لكن بعيدًا عن “بورخيس”، اسم مثل “نيرودا”..ما أهمية شاعر مثل نيرودا من وجهة نظرك؟

يونغر:

ردًا على الشقّ الأول من سؤالك، فلستُ مُلمًا بالأدب العالمي المعاصر  بوجه عام بما في ذلك الأدب الألماني، حيث تنتهي قراءاتي في سنة 1888 وهي سنة وفاة نيتشه، بالطبع مع بعض الاستثناءات الحصرية. أما بخصوص سؤالك عن نيرودا فأراه شاعرًا عظيمًا. توافرت لديّ الفرصة للوقوف على أعماله، حينما ذهبتُ لرؤية نسور الكوندور في الإنديز [2]، حيث وصفتُ في روايتي “Eumeswil”[3] شخصًا بلا قلب، كنتُ أودّ أن أتعرف من كثب على سلوك مخلوق بهذه الصفات في منطقة جبال الإنديز، ومن المؤسف اليوم أن نسمع اليوم تناقص أعداده، ومن ثم وقعتُ في هوى أعمال نيرودا لأنه اتخذَ من نسر الكوندور رمزًا .. ثيمة.. أو شعارًا، لذلك أقول إنني أعرف نيرودا جيدًا وأقدّره.

المحاور:

يمكننا القول إنك كنتُ تطارد النسر مطاردةً خفية…

يونغر:

نعم.. فهذا الطائر  حجمه هائل، يعيش على جيف الحيوانات النافقة، كما أنني سمعتُ ذات مرة من نيرودا ومن غيره أن نسور الكوندور تتغذى على جثث مخلوقات البحر الضخمة، فمثلًا حين تجرف المياه حوتًا ينقضُ عليه نسر الكوندور، وبالمثل أيضًا الدولة الحديثة أو فكرة الليفاثيان[4]، فحينما تتفكك أوصال  الدولة ينقضُ عليها ساسـة قذرون، وثمة أوجه شبه عديدة بينهم وبين الكوندور. 

المحاور:

في سنوات شبابي قرأتُ لكم عملين مترجمين إلى اللغة الإسبانية، وهما “عاصفة الرصاص” و “الجرف المرمري”.. ماذا عن استقبال أعمالك خارج ألمانيا؟

يونغر:

تقول إنك قرأتَ كتاب “عاصفة الرصاص”، وكانت هذه أول تُرجمة تُنجز لعملٍ من أعمالي، والتي نُشرتْ تحديدًا في سنة 1922 في الأرجنتين في دورة ضباط الصفّ بالجيش الأرجنتيني، أما فيما يتصل بالترجمات فلستُ مطلعًا على الأمر بصورة كاملة.. أعمالي مُترجمة في إسبانيا والبرتغال.. مجموعة كبيرة.. لكن ليس في مقدوري أن أحددها لك الآن، ففي مثل هذه السنّ المتقدمة تزداد ترجمات، وأعمالي جارٍ أرشفتها، ولا سيما إن لم يكن في وسع المرء قراءتها.. أشعر  بأسف شديد لأنني لم أتعلّم اللغة الإسبانية، فطالما وددتُ قراءة “الكيخوته” وأشعار  “دي كيفيدو”  و”بورخيس” في لغتها الأصلية، لكن فات أوان التعلّم الآن.. وكما قلت ثمة ترجمات كثيرة لأعمالي لا أستطيع أن أحصيها لكَ الآن. 

المحاور

لمحتُ على رفوف مكتبتك منذ قليل كتابًا رائعًا وضخمًا حول “غـويا”[5]….ما علاقتك بالفن الإسباني؟ 

يونغر

غويا هو الفنان الإسباني الأشدّ تأثيرًا في تكويني، تضم مكتبتي كتبًا كثيرة عنه، كما أنني سافرت خصيصًا إلى باريس لحضور معرض كبير نُظّم عنه قبل عدة سنوات.. ترك غـويا تأثيرًا هائلًا في تكويني.  

المحاور:

..أكروبولوس..[6] بعيدًا عن ويلات الحرب..تعيش هنا في عُزلة تامة عن العالم..بقعة ساحرة نزورها هنا..نحسدكَ على عيشكَ في هذا المكان..إلى أي حدّ ساهمت الطبيعة في تكوين هذه القلعة؟

يونغر:

هذه قرية صغيرة  يناهز عدد سكانها ثلاثمئة نسمة، أعيش في ضيعة مملوكة للبارون فون شتاوفينبيرغ، مُحوطة بالغابات من كافة النواحي،  بعض الغابات مملكوك لآل فون شتاوفينبيرغ، وحينما أخرج للتمشية نادرًا ما يصادفني إنسان، وهو ما أراه أمرًا صحيًا للغاية، فيما سوى ذلك فهناك مدن كبرى بالقرب منا مثل باريس وغيرها، وأقصى جهد أبذله حينما أسافر بالسيارة إلى مطار شتوتغارت.. في عالم اليوم الحديث فالإقامة في المدن الصغيرة أو القرى أكثر راحةً من الإقامة بالمدن الكبرى، فضلًا عن الإزعاج الذي تسبّبه ضوضاء المدن الكبرى.

المحاور:

لديّ سؤال أخير وقعتُ عليه بالصدفة في كتاب مراسلات بين “يوزيف روت”[7] وكلاوس مان [8]..في سنة 1924 كتب يوزيف روت إلى كلاوس مان قائلًا:” يجانبك الصواب حين تقول إن يونغر ذو  تأثير ملموس داخل ألمانيا الرايخ الثالث، فمع كل ما يُمكن أن يُقال عنه من وجهي نظري، فهو ما يزال موضع احترام على المستوى الإنساني في نظر الناس في ألمانيا، وأبعد ما يكون عن يُنظر إليك نظرة متشككة”. 

يونغر:

لم أسمع هذه الاقتباس من قبل…لكنها عبارة مُجامِلة.

أذكر أنني رأيتُ يوزيف روت ذات مرة في مأدبة غداء أقامها الكاتب الروماني فاليريو ماركو، الذي كان يعمل سكرتيرًا للحزب الشيوعي، تمشيّنا في ساحة “الكورفورتسين دام” في برلين، وبروح طافحة بالكآبة أخذ روت يحكي لي قرابة نصف ساعة عن الكوارث التي يراها آتيةً مستقبلًا، لم آخذ الأمور بشكل مأساوي آنذاك، لكن للأسف تحقّق كلامه على نحو أسوأ مما قال. كنا مختلفيْـن سياسيًا بطبيعة الحال، ولكن ما المانع من تجاذب أطراف الحديث مع آخرين يحملون آراءً سياسية مُخالفة. 


[1] كان  الأديب الأرجنتيني الكبير بورخيس يُتقن إلى جوار الإسبانية، الألمانية والإنجليزية والإنجليزية القديمة (المترجم).

[2]  كوندو ر الإنديز: نوع نادر من نسور قارة أميركا الجنوبية، تعد أكبر طيور العالم على الإطلاق، وتقطن سفوح جبال الإنديز، يُتخذ رمزًا وطنيًا في كثير من دول أميركا اللاتينية، ويُعدّ الأكثر شيوعًا على طوابعها التذكارية، وصورة نسر الكوندور موسومة على علم تشيلي مسقط رأس بابلو نيرودا،  وقد كتب عنه نيرودا في الديوان الشامل وأشار إليه في كتاب التساؤلات (المترجم).

[3]  رواية خيالية نشرها يونغر سنة 1973 تدور أحداثها في مكان بدولة المغرب حول ديكتاتور يطلق على نفسه اسم “الكوندوري”، وربما سبقَ يونغر في هذه الرواية الكاتب الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز في رسم ملامح  الحاكم الطاغية في روايته خريف البطريرك المنشورة سنة 1975 (المترجم). 

[4]  اللفياثان كائن خرافي له رأس تنين وجسد أفعى،  يستعمله ” توماس هوبز” ليصور سلطة الحاكم أو الدولة التي يستبدل بها الناس ضمن عقد اجتماعي جديد. والإشارة هنا إلى كتاب “اللفياثان” الذي ألَّفه “توماس هوبز” سنة 1651 ، وهو من الكتب المؤسِّسة لنظرية فلسفة الدولة، ولعله الأكثر تأثيرًا في السياسة بعد كتاب الأمير لمكيافيلي (المترجم). 

[5]  فرانثيسكو غويا (1746-1828): رسّام ومصّور جداريات إسباني شهير (المترجم). 

 6 أكروبولوس: هضبة صخرية وسط آثينا ومعناها المدينة المرتفعة، والإشارة هنا إلى عزلة يونغر مثل آلهة الأوليمب الإغريقية (المترجم).

[7]  يوزيف روت: 1894-1923: كاتب وصحفي نمساوي يهودي (المترجم). 

[8]  كلاوس مان (1906-1949)، روائي وقصاص ألماني، الابن الأكبر لأديب نوبل توماس مان، كان مناهضًا لحكم الاشتراكيين القوميين مثل أبيه، ومات منتحرًا (المترجم).

الثامن بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي