الممثل..

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

إلى روح الراحل سعود الدرمكي

والكوكبة الأولى

واللاحقين إلى آخرهم..

أين يكون الفن في روح الفنان؟ 

كل فنان يسخر جزءًا من حياته للفن، إن لم يكن حياته برمتها، وكل فنان حقيقي يعمل بوجدانه كله، ويسخّر خياله وفكره وروحه لإنجاز فنه، وفيما يعمل الفنانون بأيديهم فإن الممثل بينهم وحده من يصنع الفن بجسده كله، أصابته لوثة الفن الكاملة وهرطقاته المنقذة من الضلال، فآمن حتى سخر جسده كله. هو الممثل يقول لغيره من الفنانين اعملوا وأنا سأبث الروح بجسدي فيما تكتبون. فيصل الفن ويتجسد بكيان الممثل، ويصبح للموسيقى بحضور الممثل وقع حقيقي أبلغ، وللوحات والتماثيل ضوء جديد، كأنما يزيح الممثل بأصابعه ستارة الغشاوة عن كل فن فتبدو الأعمال جلية بنور الفن.

هذا الممثل، هذا الإنسان الذي كالناس، وضع جسده كله على مذبح الفن. ها هو يؤدي بجسده وينهك جسده في الحقل الفني ليضيء أمثولة الفن، يصعد الممثل بما يمثله، على خشبة المسرح أو أمام الشاشة، يعطي من روحه وجسده، فيتدفق هناك، مجسدًا شخصًا غير شخصه، يؤجر روحه الثمينة للفن لتجسد روحًا أخرى في الأمثولة، المثال، التمثيلية، يمارس السحر بقوة الفن، يعطي للجسد الإنساني حضورًا مضاعفًا في أرواح أخرى، لمسة جمال خالدة.

لحظة فن سماوية تصعد، بكل من يرى و يحضر، إلى سحر جديد، ذلك السحر الذي يجعل النظارة يتسمرون في مقاعدهم، يندمجون، تلمسهم تلك اللحظة البارعة التي يتقنها الممثل، بجسده، بأصابعه، بوجهه، بماكياجه، بتقافزه وحركاته والتفاتاته، ويغمرهم ما يرونه، تلامس أفئدتهم متعة غامضة وهم حاضرون، ينظرون لما يعرفون بيقين عقولهم أنه تمثيل، لكن في ذلك التمثيل، ذلك الكذب الصادق، ذلك الصدق الكاذب، ينبعث شيء غامض في أرواحهم، تسيل داخلهم مياه، من تلك المشاهد، من الصوت المتلبس، وذلك السحر الغامض هو الفن، هو اللمسة الماورائية، طبقة غيب كونية يفتحها الممثل بجسده فتغمر الناس.

يولد الممثل في ألعاب طفولته الأولى، يدقق الممثل في تجليات الأروح والأجساد ويمثلها في قلبه، في تلك المماثلة القلبية يولّد الممثل فنه، ثم تأتي اللحظة الحاسمة، لحظة العرض الصبيانية المرتجلة، لحظة التمثيل، فيغمر نفسه بذلك المثال القلبي من قمة رأسه حتى أخمص قدمية، كل غمزة في وجهه، كل نأمة، حتى فمه وعيناه تجسد ذلك المثال، ثم هناك ينظر من حوله، في العيون المصوبة نحوه، وهو غارق في الفن، فيرى لمعة أثر الفن في وجوه الناس.

يعلمنا الممثل أن الفن شيء يولد في الروح والقلب، عميقًا في مذبح الفن، وحين يحدث ذلك تتحقق الأمثولة في الممثل، تتجسد أمثولة الفن، تنسكب تلك المعرفة الصامتة، التي لا يشبع منها أحد، المعرفة التي لا تقال لكنها تدرك بالروح، نرى الحياة في ضوء الفن، فنراها حياة جديدة، نرى مثالنا في مرآة الفن، نرى أنفسنا، ما لا نستطيع رؤيته وإدراكه في المرآة العادية، وجوهنا وهي بعيدة عنا، حياتنا وهي مركزة في جسد الفنان الذي يجسدها، نرى الممثل فندرك المثال.

يشغف الفنان بفنه، يصيبه العجب، وللساحر أن ينسحر، بل الساحر هو أول مسحور، فهناك سحر فني كبير ولا شك، الفنان الذي يطوف بجسده أحوال الناس، بوظائفهم بأعمالهم بنفسياتهم ومشاعرهم، يجعلها طوع اللحظة الفنية في جسده، فكأن الممثل ساحر يتجسد فيه الناس، يختار شخصيته ويتلبسها، يصعد بها إلى المثال الفني، ليس التقليد المتقن وحده، بل أكثر من ذلك، التصعيد الفني لشخصيته، تكثيفها وتركيزها وعرضها من الأعماق، يجسد الممثل داخل طبقات الشخصية الباطنية ويمشي بها أمامنا، يعرضها من داخلها، من الأعماق الغامضة التي لا تصلها حتى الشخصية نفسها ولا تدركها، يظهرها الفنان بروح الفن. ذلك هو الممثل، وتلك هي اللحظة الساحرة لحظة المثال الحي.

لا يختار الممثل في بلداننا أدواره التمثيلية فذلك ترف صناعة لا يمكنه ادعاؤها، لذلك لا نستطيع أن نلوم الممثل على ما يعرض عليه، وبالتالي ما يعرضه، لأن موهبته تظل تتحرق وتشتعل داخله بانتظار أي شيء، مهما كان العمل سطحيًّا في مجمله، فلا اختيار للممثل إلا في حالات أندر من الندرة، لأن ذلك شأن منظومة متكاملة لا دخل للممثل فيها إلا في حدود ضيقة، تفرض عليه فرضًا أن يقبل أي وكل ما يعرض عليه، وتنحصر مسؤوليته في أن يؤدي ذلك الدور المناط به: التمثيل.

يتحرق الممثل بلا شك من هيام الناس بممثلي هوليود، ومن مقارنتهم التي لا تنفك بينه وبين الآخرين المحمولين على أطباق الذهب وفي أفواههم ملاعقه، بلا شك يؤسيه ذلك، لكن لنتأمل جيدًا في هذا الممثل المحلي، لأن هذا الممثل استطاع، في هذه الحدود الضيقة الحرجة، أن يلفت أنظارنا، ومكننا من أن نميز النجم من غيره، بسيطرته على الشخصية التي يؤديها، بحضوره الكاسح، وبالإلهام الذي يتدفق من أدائه، فذلك هو الفن، الفن الذي يولد ولو في أسوأ الظروف، فحتى ضعيف الموهبة يستطيع أن يقدم شيئًا ما وأن يسد الفراغ متى ما تهيأت كل الظروف، وكم من ممثلين مشهورين في هوليود لا يصلون لذرة من مستوى نجوم التمثيل المحلي، فأن تبدع في ظل انعدام الأسباب وانعدام الظروف فذلك هو الإبداع الحقيقي، وهو ما نسميه الفن الأصيل، الذي لا يعرف الاستسلام أمام أي وكل العقبات.

أن يولد الفن حيث كل شيء ضده فتلك هي قوة الفن، أن يحضر الفن ويبرز حيث لا ينتظره أحد ولا يعتني به أحد ولا يكترث به أحد، في وسط فني مشوش ومتناقض، وحيث يسعى كل طامع ومحتال وعديم موهبة وعدو للفن أن يسترزق منه، بل وحيث يُحارب الفن ويُعادى، ويُستهجن ويُستسخف، ويُسب ويُشتم، وينسب زورًا إلى انعدام الأخلاق وقلة الأدب، فيغلب الفن والفنان كل ذلك ويأتي بنجومه ونجماته ومعجزاته فذلك هو الفن الحقيقي الذي يستحق أن نقف له بكل احترام وتوقير..

الثامن بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد