وجع الفراغ

كتب بواسطة بدر الشيدي

كورونا الرقم.. الكلمات.. الحجر !


ربما لأن عزلتنا 

تفيض عن الليل

لذلك تركنا الباب مفتوحا 

فلم ندخل 

ثم سمعنا صراخنا 

من بعيد.

زاهر الغافري 

لم أكن أدري وأعلم بأن العزلة تفيض عن الليل كما وصفها زاهر الغافري، لم أكن أعلم ذلك، ولم أفكر قط في تفكيك طلاسم مفردة العزلة، ولا إلى ماذا تعني. فقط في زمن الكورونا أصبح للكلمات معاني تتجسد بين ناظري. هل هي فعلا عزلة تفيض فقط عن الليل؟ أو هي عزلة تتمدد وتجثم على كل الأوقات، لا الليل يختزنها ولا النهار يسعها. هل هي نكاية بالوقت ؟.   

عندما تكون العزلة إجبارية ومفروضة علينا، أعتقد ربما معناها يختلف عن تلك العزلة الاختيارية التي غالبا ما يلجا إليها الكتاب والمثقفون ويخرجون منها بكتاب أو قصيدة أو نص أو حكمة جميلة. وقبل ذلك هي عزلة لجأ إليها الأنبياء والرسل إذا أرادوا التفكر والتأمل في خلق الله وما حوله. فليس أدل لنا نحن من عزلة النبي محمد صلى الله عليه  وخلوته في غار حراء. لكن أن تكون العزلة إجبارية وضرورية، بل وترافقها تحذيرات من فك العزلة والخروج إلى الفضاء الرحب، وإلا لك الويل والثبور.  

التدقيق والملاحظة والاكتشاف وإعادة النظر، كلها كلمات كانت تعبُر في حياتنا مسرعة أو فقط كلمات زائرة نستخدمها عندما نتعمد التدقيق في بعض الأشياء. نفعل ذلك بشكل وظيفي ولغرض معين ولأهداف نسعى إلى تحقيقها. كلمات تعبر مسرعة شاء لها القدر أن تتوقف وتستقر لا نعرف إلى متى. نهرع للقواميس لتنجدنا ونفك طلاسمها، نحن من الفئة التي لا تدقق في الكلمات. جائحة كلمة لا نسمع بها إلا قليلا جدا، ربما نصادفها في كتاب أو في صفحة عابرة. 

لكن الآن والوقت تغير ، بل الوقت تمدد وأصبحت ساعاته تتمدد دون أن تلوح نهاية لها. كل الأشياء متشابهة لا جديد ينبئ ولا متغير آت. 

في زمن الكورونا ليس كل شيء على حاله. تبدلت أشياء وتحولت ، حتى الوقت الذي كانت لحظته قاطعة كالسيف، لم يعد قاطعا، بل متمددا ومتراخيا إلى ما لا نهاية. الوقت أصبح كائنًا رخوياً لزجاً لا يبرح ولا يريد أن يغادر.

 في البيت، وأنت ليس لك إلا أن تبقى هكذا بين كثير من الأشياء،  محبوسا بين جدران سئمت من الدوران حولها ومجابهتها، حتى إنك لا تستطيع تجاهلها فهي في كل مكان، تجدها أمامك وخلفك ومن أعلى وفي الأسفل. الأشياء الكثيرة التي تُحيط بك، هي الأخرى موجودة هنا منذ فترات طويلة، وقد مرّ عليها الزمان وتمدد، وبسط آلته وسلطانه، ولم يبرح هذا المكان. أنت وحدك الذي يشعر بهذا التماهي بين الوقت والاشياء، ليس أمامك إلا أن تكون معهم، تمتزج في ثنايا الوقت وتتمادى مع سلطانه. 

في الأشياء أصبحت ملازمة تعيشها في زمن الكورونا.. وأنت تتجول في المنزل، تصطدم بأشياء كثيرة ، أشياء كنت لا تعيرها أدنى اهتمام، أو بالأحرى قد لا تلاحظها، تمر عليها مرور الكرام. هذه المرة وأنت في البيت وكأنك هناك أشياء تعيد اكتشافها من جديد. تعيد اكتشاف بواطن الجمال والمتعة في كثير من الأشياء. في المكتبة تكتشف عناوين لكتب تتأملها جيداً .. وتعيد لك ذاكرتك المزدحمة.. تتذكر ذلك الكتاب من أين أتى وكيف، تتذكر الطريقة التي حصلت عليه، إعارة من صديق.. شراء من مكتبة. تتذكر أين المكتبة وتفاصيلها، وحتى الدرج الذي انتزعت منه هذا الكتاب الذي كان راقدا مع نظرائه.. في كشك على شارع عام أو في يد بائع متجول في شارع مزدحم. تعود لك الذاكرة الجميلة، تعود إليك محملة بأطياف من الوجوه والأسماء الأمكنة. وجوه الكثير من الأصدقاء، بعضهم رحلوا عن عالمنا وبعضهم تقطعت بهم طرق الحياة وذابوا في نهرها المتدفق.  في البيت تكتشف فجأة بأنك ومنذ سنوات لم تجلس تلك الجلسة الفاحصة المتأنية. تكتشف فجأة كم كانت الحياة جميلة ومزدهرة، كم هو الفضاء المتسع الذي تشاهده الآن من نافذة البيت أو على شاشة التلفاز، وتتمنى لو كنت بين تلك الفضاءات تهيم على وجهك، تمشي دون دليل. أو تسير دون هدى.  

بكلمات باذخة فخمة يصف بعض الأصدقاء العزلة الكورونية بأنها منتهى المتعة، هي فرصة للقراءة والمطالعة، ومنهم من يصفها كأنها حلم طال انتظاره. فالذي سفكت عمره الوظيفة ومسحته، يجدها فعلا فرصة لالتقاط أنفاسه والانطلاق من جديد، أو هكذا كان يعتقد. لكن الأدهى هو عندما أصبحت العزلة أشبه بالاعتقال في المنزل وبين الجدران. ليس أمامك شيء غير الملل والتكرار والترديد للأشياء. ما تفعله اليوم هو في الحقيقة ما فعلته أمس وما ستفعله غداً، وربما ما ستفعله بعد شهر، وما أدراك ربما ستفعله بعد شهرين، ليس هناك أفق يلوح في البعيد، وليس هناك ضوء في نهاية النفق. 

تفتقد بعض الأشياء، في الحقيقة ليست بعض؛ وإنما كل الأشياء تشتاقها؛ حتى تلك المزعجة التي ولَّفتها ترافق يومك، لا تجدها الآن. في الموالح حيث أسكن، أفتقد مثلا صوت الطائرات الذي يزلزل فضاء البيوت، عندما يعبر سماء البيت في خط سيره، لا تكاد السماء تهدأ لحظة إلا ويستبيحها أزيز الطائرات. الآن لا شيء. سماء صامتة لا تنبئ عن حركة. أخرج من النافذة فألقي نظرة على الشارع، ولا أشاهد شيئا يتحرك فيه، أزعم بأنه مهجور منذ فترة طويلة، أو الناس قد نسوا أن يعبروه في هذه الأيام. حتى القطط لا تشاهدها، وهي التي كانت تملأ هذا الأفق، أهو توافق أم  تواطؤ بين كائنين، كورونا اللامرئي الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس وبين القطط التي لا تهدأ ولا تستكين وكأنها حراس المدن.  

ما يخفف عنك وطأة العزلة هو إدراكك بأنك لست وحدك. كل العالم من فقيره وغنيه، دول عظمى ودول فقيرة، كلها في هذا الهمّ سواسية، لا تفرقة، كلهم في “الهوى سوى” كما يقال. في هذا الوقت كل العالم يقبع خلف الأبواب المغلقة، كلهم بالداخل لا يبرحون مكانهم إلا للضرورة القصوى. في بعض الأحيان أو للضرورة القصوى يتحتم عليك أن تخرج ولو لفترة وجيزة. ماذا تشاهد؟ في الخارج، لا تشاهد وجوها إلا مكممة بكمامات لا تظهر منها إلا العيون، لا تشاهد إلا نصف وجه. أنت وحدك لا تطيق ذلك الكمام على وجهك.

 تعتريني الدهشة في السرعة التي تحول فيها الناس وتخلوا عن عادات وتقاليد راسخة في حياتهم وملاصقة لكينونتهم. لا سلام إلا من بعيد، ولا عناق ولا زيارات . التباعد الاجتماعي أو المجتمعي. لا أدري أهو تباعد اجتماعي أو مجتمعي أو تباعد جسدي؟ 

لا ريب أن ندخل كلنا في تزاحم المصطلحات والكلمات. حجر وعزلة، تباعد مجتمعي وتباعد اجتماعي ، فيروس أو بكتيريا، وقت الذروة، أو منحنى تصاعدي، دواء، مصل أو حقنة، مؤامرة مدبرة وفيروس مصطنع من تركيبات مخبرية وتلاعب جيني، مناعة القطيع أو المناعة المجتمعية. لا شيء وأضح، كل شيء ضبابي. في الجانب الآخر تخرج عليك منظمة الصحة العالمية ومديرها العام كل مرة بتصريحات متناقضة، ليس لها أول ولا تالي. 

تستعيد الذكريات القريبة جدا، فيأخذك الأسى والحنين. ما أصعب ألا تكون الآن في المكان الذي تعوّدت أن تكون فيه، ومع الأشخاص الذين يشتركون معك، إن كان على مقعد في مقهى أو في مكتب مع زملاء العمل أو كنت جالسا على ضفاف شاطئ تتأمل زرقة المياه. لكن يعتريك الحزن أكثر عندما تحدق حولك ولا ترى غير الملل يبسط جناحه على المكان ويقبض عليه. عندما تريد أن تخرج تذكر بأن تخرج مدججا بعبوات من المطهرات ومتسلحا بمزيد من الكمامات والقفازات. 

هل هو وباء أو جائحة معولمة أو على حد وصف أحد العلماء ” أمراض العولمة” لا حدود لانتشارها؟  هذه الجوائح لا تفرق بين أحد، تتمدد وتنتشر بشكل سريع للغاية، لا تحدها حدود ولا حواجز ولا تعترف بشيء من هذا القبيل. يفتك ويضرب بشكل عشوائي، يفتك دون هوادة. 

في المقابل ماذا فعل العالم حيال ذلك، هل كان التضامن والتآزر هو العنوان ، أم التنافس بين دوله. سمعنا كثيرًا عن اختطاف أدوية ومواد صحية من مطارات كانت متجهة إلى مقصدها وغُيّر مسارها. 

هناك مقولة لمارتن لوثر كينج يقول فيها ( لقد قدمنا على مراكب مختلفة، لكننا اليوم جميعاً على نفس السفينة). هكذا هو العالم متساوٍ أمام هذا الوباء الجائحة، لا مجال إلا للتعاون والتنسيق فيما بينه، لا مجال للمهاترات وغيرها، الآن فقط يجب أن يدرك صناع القرارات من ساسة وغيرهم أن التعاون هو طريق النجاة الوحيد. 

تكتشف فجأة، ربما مواهب مدفونة فيك تنتظر الوقت المناسب لإخراجها إلى حيّز الواقع، ربما وظيفة أو هواية أخرى عليك أن تستدعيها من غياهب النسيان. عندما تكتشف نفسك وأنت في المطبخ ، تلك سعادة لا تشعر بلذتها إلا وأنت واقف على آلة الطهي وعندما تخرج تلك الخلطة العجيبة، كم تكون سعيدا عندما يهمس من حولك مادحا ما قمت به. تكتشف أيضا كم هي ممتعة عملية ترتيب الأشياء ووضعها في مكانها، ليس ممتعة فقط بل هي جميلة، وتشكل لوحة غاية في الجمال. تكتشف أيضا أن كل شيء جميل ، كل ما حولك جميل، فقط كيف تنظر له. هناك نقطة أو منطقة جميلة لا يمكن أن تراها هكذا على عجل، كل الأشياء تقول لك ها أنا ذا، يكفي أن تعيد النظر إليها بعين أخرى ومزاج آخر، ساعتها فقط تعيد اكتشاف بواطن الأشياء وما تخفية من جمال.  تتفكر في معنى الجمال، فتدرك أن كل ما حولك جميل.

أتذكر في بداية الحجر المنزلي أو العزلة. دخلت مكتبتي المكتظة بالكتب. تجدها في الرفوف وعلى الأرض وعلى أسطح الطاولات، كلها مرمية ومغبرة. قلت في نفسي فرصة سانحة أن أعيد ترتيب هذا المكان. فتذكرت مبدأ اليابانية ماري كوندو صاحبة كتاب ( سحر الترتيب) عندما قالت إذا أردت أن ترتيب شيء والقضاء على الفوضى إلى الأبد؛ فباشر في الرمي، ثم نظم مساحتك بطريقة شاملة، إذا اعتمدت هذه الاستراتيجية، فلن تعود أبداً إلى الفوضى). إذن عليّ أن أباشر في الرمي. في لحظة درامية رميت الكتب كلها على الأرض، شيء مذهل. لكني فعلت. وجلست بينها. وقفت أنظر إليها وهي مرميّة، خطر في بالي نيرون عندما وقف ينظر بمتعة للنيران وهي تلتهم روما. لكني بالطبع غير مستمتع وأنا أرى كتبي مرميّة على الأرض. ماذا اكتشفت؟ رأيتني أغوص في لجج أحد الكتب وأبحر في صفحاته. نسيت الترتيب وسحره وبقيت الكتب مرمية على الأرض. تحولت نظرية سحر الترتيب إلى نظرية الفوضى الخلاقة.  

أعود إلى صديقي الشاعر زاهر الغافري الذي أدرك  تأثير العزلة مبكراً فآثر أن يترك الباب مفتوحا وتوجس من الإغلاق ومما قد تفعله العزلة والانغلاق.  سأترك مثله الباب مفتوحا، أريد أن أسمع صراخا في الخارج .. أريد أن أسمع وقع أقدام .. أريد أن أسمع أغاني الحياة.  

أدب التاسع بعد المئة

عن الكاتب

بدر الشيدي