كتابة المشهد الطبيعي

كتب بواسطة أميرة الشحية
كل شيءٍ يمسونه يصبح زمناً، ويصبح فعلاً، يصبح انتظاراً وأملاً وحتى موتهم يصبح شيئاً ما له قيمة”.من حوارات الخلود: بين ديونيسو وديميترا.

كان صباحاً ماطراً، في طريق عودتي من دبا إلى مسقط دفعني الفضول للانعطاف يميناً نحو لافتةٍ منزويةٍ كتب عليها، “مدحاء”، ومع كوني من سكان مسندم، إلا أنها كانت زيارتي الأولى لها. لمدحاء انطباع قرى جبال الحجر الهادئة، محفوفةً برائحة مزارع النخيل وأشجار الموز والمانجو. أطفال يستحمون في برك الماء التي خلفها المطر، ويلوحون بأيديهم لكل مقبل.

انتهت الجولة السريعة إلى سدٍ في نهاية الولاية. هناك رأيت لافتةً بنيةً ترتفع فوق مياه السد، وخطر ببالي أن يكون هنالك موقعٌ أثريٌ، غير أني التقطت صوراً لي وأكملت طريقي إلى مسقط .وبقيت صورة مدحاء الأرض البكر، بمشهدها الطبيعي الحميم في ذاكرتي.

عدت بعد أسبوع إلى مدحاء لألتقي بالعم محمد سالم، أو كما تنطق باللهجة الدارجة لأهالي مسندم “حَمْ سِيْلَم”،رجلٌ بهيئة ذاكرةٍ حيّةٍ. قادني إلى مكانٍ يدعى “أحداث”، وهي أرضٌ زراعيةٌ مطلةٌ على وادي الغونة. أرضٌ منقوشةٌ تتموضع في مشهدٍ طبيعي مهيب، حوت ما يقارب المئة لوحة صخرية لنقوش ثعابين وأشكال مجردة وكتابات.

قضيت ثلاثة صباحاتٍ في أحداث، مكانٌ أشبه ما يكون بمتحفٍ مفتوحٍ لا سقف له ولا جدران. أينما التفت كانت عيني تقع على وثيقةٍ ما، يقول العم محمد بأن من صنعها مسافرون، وأن هذا الوادي كان معبراً واستراحةً، نقشوا ذكرياتهم على صخوره الحمراء. وجدت أسماءً وأياماً بلا نقاط، نقوشاً أقدم لوعول وثعابين وعقارب. 

يشبه علماء الآثار المشهد الطبيعي بلوحٍ يتم كشطه وتكوين مبانيه وطرقاته وقصصه، تمثل هذه المعالم نصاً غارقاً في القدم، وكل جيل يعيد استخدام هذا اللوح ويمحو آثار من سبقه، وعلى عالم الآثار فك نصوصه. اقتبس كروفورد مصطلح البالمست* لوصف المشهد الطبيعي الريفي الإنجليزي، بوصفه وثيقة قديمةً جداً ومعقدة لقصة الإنسان والمكان  (Crawford, 1953).

لم أكن لأصدق عيني وأنا أتتبع شكل ملعبٍ لكرة القدم، كان شباب القرية قد شكلوه فوق موقع أحداث، بل وبحجارة مبانيه العتيقة!

إن كل البدايات الفنية -على اختلاف منابعها- وتوزعها زمانياً، ومكانياً تنتمي إلى القلب العميق للبشرية. لم تكن ولادة الفن توقيعاً حصرياً لنوعٍ معينٍ من البشر، وإنما هو عمل للجنس البشري بشكلٍ عام، وأحد أقدم صور الفن هو: نقش الصخور.

قبل آلاف السنين، هرب البشر من صورهم الصغيرة الفردية، وانتشروا في المشهد الطبيعي، وتركوا بصماتهم الدائمة هناك من خلال الرموز التي انتشرت على الصخور، لم يسيطروا على العالم بعد؛ لكنهم قاموا بتشريفه بروحهم، وأنسنته، وقولبته في صورتهم، وهي اللحظة التي انتقل فيها الفن الصخري من عتمة الكهوف إلى الفضاء المفتوح. يربط علماء الآثار هذا التملك، والحيازة للأرض ببدايات ظهور الزراعة. 

على مدى العقود الأخيرة، ومع التحول إلى علم الآثار ما بعد الحديث، اتجهت دراسات الفن الصخري بشكل متزايد نحو التفسيرات الاجتماعية والفكرية، كيف رأى البشر المشهد الطبيعي، وشعروا به وشكلوه من حولهم ؟! متى تحولت الفضاءات إلى أماكن ذات معنى؟

 الفن الصخريّ الذي يظهر على النتوءات الصخرية للمشهد الطبيعي يضفي الشرعية على حقوق المجموعة في الأرض ومواردها؛ إذ استخدمه الإنسان القديم بوصفه طريقة لتقسيم الفضاءات الاجتماعية، وفرض سلطته على المكان وموارده.

يعد المشهد الطبيعي منتجاً ثقافياً قبل أن يكون منتجاً طبيعياً فقط. يبنى على الخيال منعكساً على الصخر، والحجر، والماء. لكن ما إن تبدأ فكرةٌ، أو أسطورةٌ، أو رؤيةُ في مكان مادي فإنها تصبح جزءاً من المشهد وقصته. يطلق علماء الآثار على المشهد الطبيعي المبني على فكرةٍ، أو معتقدٍ اسم “المشهد الطبيعي المفاهيمي” (Schama, 1995).

يعيدني ذلك إلى محطة القطار التي رسمتها “وردة” الشخصية التي تمثلها فيروز في مسرحية “المحطة” التي عرضت على مسرح البيكاديللي عام 1973،  حين أقبلت على حقل بطاطا باحثةً عن محطتها المنشودة، لم يصدقها الأهالي، لكنها استمرت بالغناء حتى تشكلت صورة المحطة الحلم في أذهان الأهالي. استغل التجار هذا الحلم فرفعوا سعر الأراضي، وأقاموا عيد المحطة، بيعت التذاكر، وشيدت المباني بانتظار قدوم القطار، وبين الكفر والإيمان بقدومه تأرجح الأهالي، بين قتل الفكرة وبين رغبتهم في محطة تنقلهم إلى أحلامهم. تغني وردة: “إيماني ساطع يا بحر الليل\ إيمان الشمس المدى والليل”. كان يقين الجبل والصخر والنهر الذي لا ينضب، تنتهي المسرحية بصوت القطار قادماً، لكن وردة التي اخترعت القصة ولم تصدقها لم تشتر التذكرة وبقيت في حقل البطاطا بينما غادر الجميع.

أما الكاتبة الأمريكية ذات الأصل الإيراني آذر نفيسي فتصور جمهورية الخيال في كتابها الصادر عام 2016، منذ كانت طفلة، حيث تذكر أن اختيارها أمريكا كبلاد ومستقر قد يكون عائداً لكونها قد أقامت في قصصها وآدابها في طفولتها. إن للأدب تلك القدرة الخفية في التسلل إلى خيالنا ورسم صورٍ للأمكنة والفضاءات.

تشير الدراسات الأيقونية لمنحوتات حضارة المايا القديمة أن مقل العين البارزة تعني أن فعل الرؤية أثر بالفعل في العالم وحوله، بعبارة أخرى، لم يكن الناس متلقين سلبيين – فقد اعتقدوا أن ما رأوه أثر فيما فعلوه ، وكيفشعروا، وكيف تفاعلوا مع العالم من حولهم. هذا ما تشير إليه الكتابة الهيروغليفية التي تم فك تشفيرها. إن “الرؤية الشاملة” تمنح المكانة والسلطة العالية. الرؤية الشاملة هي المعرفة. فحكام المايا دائما ما أطلوا على شعبهم من مكان مرتفع ويمكن رؤيته بسهولة.

ما يزال عليّ أن أخبركم أن خطوط الرؤية بين اللوحات المنقوشة على قمم التلال في المحيط والمعبد الكبير في وسط المدينة كانت بمثابة تذكيرٍ مرئي للأشخاص الذين يعيشون في محيط سلطة الحاكم، وكذلك روابطهم والتزاماتهم تجاه وسط المدينة (Richards-Rissetto, 2017). 

بالعودة للفن الصخري الأسترالي يقترح تاكون بأن إسباغ أهمية على مكان ما له علاقة بحقيقة أن معالم المشهد الطبيعي تحفز بعض ردود الأفعال المشتركة لدى الإنسان كالقوة، والجمال، القداسة والرهبة. السكان الأصليون في استراليا يربطون مواقع الفن الصخري بالمعارف الدينية، فالمجتمعات تستخدم هذه الأماكن لممارسة بعض التجارب والأنشطة بوصفها جزءًا من نظام الطبيعة وفوضاها، وردود الأفعال هذه قد تظهر عبر مختلف الثقافات (Tacon, 1990). قد يتجلى هذا المكان الطبيعي في صخرةٍ شاخصةٍ وسط أرض جرداء أو معبرٍ موحش، قمة جبل تعانق صفحة السماء. الكهف، الرحم الذي ضم خوف الإنسان الأول. كان نقش الصخور في أحيان كثيرة مباركةً ووسيلةً  للسيطرة على العالم الطبيعي. حيث ينظر للأرض بوصفها كيانًا لا يمكن ضمان ثماره على الدوام، فكانت الحاجة لاسترضاء مثل هذه القوة للحفاظ على خصوبتها. تشير دراسات أخرى إلى أن بعض مواقع الفن الصخري في أمريكا اختيرت بسبب ميزة الصخور في ترديد الصوت، ما ضاعف الحالة الروحانية الناتجة عن الطقوس التي يؤديها الشامان**.

أخذني العم محمد في جولة داخل بيته الذي يعيش فيه وحيدا بين عشرات الصخور المنقوشة، وعرض عليّ دفتراً وثّق فيه مجموعة من النقوش التي اختفت بعد أن بني المطار الجديد في مدحاء. وقبل أن أغادره أسر لي بأن هنالك صخرة هائلةً في بطن السد، ولكنه لا يعلم إن كانت قد أزيلت بفعل إنشاء السد. خرجت من بيته مسرعةً قبل المغيب، وهناك وجدت الصخرة التي كانت غارقةً في ذاك اليوم الماطر، ووجدت قصة معركة. القصة القديمة التي سيهتم معلمي بتأريخها بينما كل ما أريد البحث عنه هو الفنان الذي رواها.

 تقع الصخرة المنقوشة من أوجهها الثلاثة عند ملتقى أربعة أودية، وتتوسط السد الذي بني مؤخراً، ومن المعروف في علم الآثار أن الإنسان اختار معابر الأودية طرقًا، كل وادٍ معبر، واللوحة الصخرية المنقوشة تروي قصة ما لهؤلاء العابرين. شكلت حولها فضاء عاماً يجمع مسافرين نحو وجهات مختلفة. الزمن يحول مسارات الماء إلى معابر للسفر، يجري الزمن، وكذلك البشر، وتبقى ذاكرة المكان.

لقد برعنا كأطفال في تشكيل فضاءاتنا الخاصة، وفي صناعة الطرق الخلفية، يروي زوجي -كل مرة- عن ساحة الأشخر المسورة، والمجاورة لبيتهم ، التي كان يقضي وقته باللعب فيها وحيداً. كانت ملاذه في كل مرةٍ يخطئ فيها ويهرب من العقاب. تحولت ساحة الأشخر اليوم إلى مستودعٍ تجاري كبير، لكن القصة بقيت. 

لا يوجد شيء يشبه الفن؛ يفرض الفن نفسه على الفنان كما تفعل الطبيعة على الإنسان، ثم يقوم هو الآخر بخلق أنظمة، وقواعد فنية على مستوى الوعي الجمالي. يمكن القول بأن الوعي الجمالي قد بدأ مبكراً لدى الإنسان من خلال محاولة السيطرة على المادة في الطبيعة، وتطويعها، لنحت الذاكرة، تخليد اللحظة وامتلاك الحلم.

* البالمست: كلمة مأخوذة من اليونانية، وتعني: “كُشط مرة أخرى”. كانت تطلق في العصور الوسطى على الألواح التي استخدمها التجار لتوثيق معاملاتهم. إن وجه الشبه بين البالمست والمشهد الطبيعي هو ميزة هذه الألواح في تحمل تواتر النصوص؛ فالنص القديم لا يمحى تماماً، وتبقى بعض آثاره.

** الشامان: الشخص الوسيط بين البشر والآلهة في الديانات الشامانية.

Bibliography

Crawford, O. (1953). Archaeology in the field.

Richards-Rissetto, H. (2017). What can GIS + 3D mean for landscape archaeology? Journal of Archaeological Science, 10–21.

Schama, S. (1995). Landscape and Memory. London: Fontana Press.

Tacon, P. (1990). The Power of place: Cross- cultural responses to natural and cultural landscapes of stones and earth. In J. Vastokas, Perspectives of Canadican Landscape:Native Traditions (pp. 11- 43). New York: New York Uni.

أدب التاسع بعد المئة

عن الكاتب

أميرة الشحية