قراءة نقدية لـ”العلمانية في ميزان الشرع” على قناة الاستقامة

كتب بواسطة سعود الزدجالي

ضيف الحلقة: أفلح بن أحمد الخليلي

         يهدف هذا المقال إلى تحليل المحتوى الذي قدمه برنامج “الفقه في الدين” ضمن برامج قناة الاستقامة الدينية؛ بعنوان “العلمانية في ميزان الشرع” وكان ضيف البرنامج أفلح الخليلي أمين فتوى بمكتب الإفتاء في سلطنة عمان، وقبل الحديث عن المحتوى الذي طرحه ضيف البرنامج خلال ما يقارب الساعة أود الإشارة إلى بعض الأمور:

         أولا: طرحتُ سابقا أن الانتماء الديني المذهبي يستلزم الإيمانَ بمجموع المعتقدات ذات البعد الهُوياني الشكلي؛ فلكي تكون منتميا دينيا ومذهبيا يستدعي أن تتضمن ذاتُك الشروط الضرورية والكافية لتحقيق الانتماء، وأهم تلك الشروط تجنُّب التساؤل، أو تجنب إنجاز العُدة المنهجية- المنطقية والتزام لغة التداول الخاصة بالدائرة؛ حتى يظل الإيمانُ الشكليُّ الموروث ساكنا يضمن للدين الجمعي انتماء الفرد إليه، وتاليا فإن ما ينتجه العقلُ الدينيُّ لا يناسب إلا الأفرادَ المنتمين إلى هذه الدائرة؛ لاستهلاكه في نسخ رتيبة ومكرورة، فهو إنتاج يكرر نفسه؛ على أن مجموع الأفراد المنتمين إلى الدائرة يريد لذاته البقاء بوصفه كتلة أمام الإشكالات؛ وتلك إستراتيجية تستلزم إتقان مناهج علمية ومنطقية في مجابهة الآخر المختلف المتمثل في القارئ المختلف، والناقد المختلف؛ ولكنّ هذه المناهج سلاحٌ ذو حدين لا يضمن للفرد بقاءه في الدائرة التقليدية وإنما يتعرض الوعي الجمعي الديني للخطر بخروج الفرد من دائرتها إن هو أتقنها؛ بحيث إنه بعد امتلاكه لعُدة التفكير والنقد قد ينقلب على معتقدات الجماعة ذاتها وقد أُعدّ افتراضا للدفاع عنها؛ مما يجعلها عرضة للتآكل الذاتي أو النقدي، وهو أمر يقترب من مفهوم سلب السلب المادي؛ بحيث لا سبيل للبقاء إلا باجترار المكرر وتدويره؛ ولذلك كله يقدم التيار الديني الرتيبَ والمشوهَ في مجال الفكر والثقافة والفلسفة والمناهج والسياسة، والذي ينبني على افتراضات الاستعداء كما حدث في البرنامج المشار إليه.

         ثانيا: قناة الاستقامة تواجه في توجُّهاتها الأيديولوجية إشكالاتٍ تتعلق بمِهنية إنتاج المحتوى وجودته؛ فهي تعتقد أو لعلها لا تستطيع أن تفصل بين جودة الإنتاج البرامجي والمهني والرسالة الأيديولوجية التي تبرز من شعار “الاستقامة” بحمولته التاريخية والدينية والمذهبية؛ مما يجعلها تعتقد أنه لا يمكن تقديم المحتوى الأيديولوجي إلا عبر طاقم إعلامي يتمثل في “الملتزم دينيا التزاما شكليا” دون وعي أنه لا علاقة له بالإعلام من مخرجين ومقدمي برامج متخصصين؛ لذا نلاحظ أن مقدم البرنامج لا يمتلك أدنى درجات الإتقان لعمله لا من الناحية الفنية ولا من الناحية المنهجية والمعرفية؛ فيقدم لبرنامجه بمقدمة مرتبكة تحمل في مضامينها الأحكام المسبقة التي يحملها ضيفه عن العلمانية، ولا يتعدى دوره بعد ذلك من الجلوس أمامه بوصفه مريدا أمام شيخه يحسن التلقي في مجال فلسفي وتاريخي وسياسي لا علاقة لكليهما به؛ ولا يتعدى دور الضيف من حفظ بعض الأفكار واستظهارها في البرنامج ودونما تنظيم منهجي يحترم عقل المتلقي إلى درجة أن الأسئلة البسيطة تربك حديثه.

         ثالثا: يشي عنوان البرنامج “العلمانية في ميزان الشرع” بمزعمة تتضمن اعتقادا بأن الضيف يمتلك “ميزانا شرعيا” بما لمفردة الميزان من حمولة دلالية واجتماعية في أوساط التداول، وهو ميزان خاص إسلامي ينتمي إلى الشرع؛ فما يقدمه في البرنامج يخرج من كفتي هذا الميزان الشرعي ومعياره، ويدفع بالمتلقي إلى ضرورة الوثوق به وقبوله؛ لأن الميزان هو ذلك الاتفاق المعياري في مجتمع ما يرضخ له الجميع؛ مما يضع الضيف في إشكالية منطقية ومغالطة، وتخليط بين الدين بوصفه نصا، والدين بوصفه فهما لذلك النصّ؛ فضلا عن فهم موضوع الحكم ذاته (= العلمانية)؛ لا سيما وأن التمايز المبدئي بين الميزان والموزون في درجة معيارية الأول واتضاح الثاني تصورا ضروري للتوصل إلى نتائج الوزن في العملية التي يحتكم فيها الضيف إلى “فهمه الشخصي” مماهيا بينه وبين الشرع، وهو بحد ذاته إشكال منهجي؛ لأن الضيف يوهم المتلقي بأن بيده الميزانَ الشرعي وما هو إلا وهم، وتندرج هذه النظرة ضمن الاستيلاء على النص واحتكار حيازته بتحويل فهمه إلى نصٍّ يوازي النصَّ الأول ويتماهى به وهذا جوهر الكهنوت الديني والنطق باسم الله؛ من حيث إن كلّ سلوك علمي أو سياسي أو أخلاقي يستدخله الفقيه أو الواعظ ويفحصه ضمن هذه السلطة الدلالية التي يحتكرها (بلقزيز، 2018، ص. 177) فذاته الفاهمة للنص تتحول إلى ذات متعالية رائزة لأفعال الآخرين وأفكارهم.

محتوى البرنامج:

         يمكن إيجاز المحتوى الذي قدمه أفلح الخليلي ضيفُ البرنامج في أمرين: أولهما أن العَلمانية بزعمه تعني اقتصار النظر على “العالم” (= المادي) في إدارة دفة السياسة والحكم والقضاء والمصالح والعلم والإدارة وجميع مجالات الحياة؛ بمعنى أنهم لا يستقون تصوراتهم إلا من العالم، وهم يقصدون بالعالم “المفهوم المادي” الذي يُقصي الجانب الديني بتعبيراته؛ وثانيهما: أن العِلمانية (بكسر العين) نوعٌ من الترويج لها من قبل دعاتها باعتبار قيامها على “العلم”؛ مما يجعل منطوقها إشكاليا إزاء المفهوم وفقا للهاجس الذي تهجَّس به شيخُ البرنامج؛ من حيث إنها لم تقم باستقصاء الدين؛ وعليه فإن النتيجة تتمثل في “إقصاء الأخلاق” مماهاة بينه وبين العلمانية بحيث تستلزم الثانيةُ الأول(= الإقصاء)، ولأن الأخلاق لا تعيش عند غياب الدين.

         وبين هذه الأمرين توصَّل البرنامجُ إلى نتيجتين هما: أن العلمانية بطبيعة قلبها النابض المتمثل في “فصل الدين عن الدولة”قامت بهدم الدين دونما إيجاد بديل للدين المهدوم؛ مما يجعل المكان فارغا أمام بدائل متعددة كالديمقراطية، والاستبداد وغيرهما؛ على أن العلمانية ليست مجرد الفصل بين الدين والدولة؛ وإنما فصلٌ للدين عن الحياة كلِّها إلا في حال عدم تطبيق العلمانية كاملة كما يزعم، وهذا يمثل النتيجة الثانية التي تجعل العَلمانية حربا للأخلاق والدين والمثل وبمنهج هدام؛ لأن إقصاء الدين الذي هو غاية العلمانية وفق زاوية النظر التي يتبناها ضيف البرنامج هو إقصاء للأخلاق بحسبان الدين منبعَ الأخلاق والفضائل؛ بل هو إقصاء للإنسان ويفتح باب الشر على العالم ولا يمكن أن يغلق الشر إلا بأقفال الدين. وهذا النهج في التفكير يفتقر إلى فهم “فلسفة الأخلاق” وتوجهاتها عوض هذه الأحكام الدارجة التي لا يقبل قارئ أن يتبناها فضلا عن إنسان ينتمي إلى العلم الديني والبحث الموضوعي.

إشكالات الضيف المنهجية:

         لعل الإشكال الرئيسي في طرح ضيف البرنامج هو عدم استيعابه لمنظومة فكرية وتاريخية متشابكة ومعقدة كانت تستدعي منه التمهل والقراءة لكل السياقات؛ إذ يبرز الشيخ في البرنامج مستظهرا لبعض الأفكار، متوهما كعادة التيار الديني في مجتمعاتنا وجودَ مؤامرة ضد الدين والأخلاق والأمة من قبل العَلمانية ودعاتها؛ لذلك يرى أن العَلمنة ضد الأخلاق، والعَلمانيُّ شخصٌ منسلخ من أخلاقه وقيمه ودينه؛ فهو لا يعدو من كونه مسخا، وهذا الاعتقاد في مجمله – وهو يحرك الفكر الديني بكل أسف – يقع ضمن “معلبات الفكر الديني الوعظي” الذي لا يكلف نفسه عناء البحث والقراءة إلا ما يريد قراءته وهو في الآن ذاته قادر على الخوض في كل المعتركات الفكرية كالإلحاد والعلمانية ونظرية التطور والفيزياء الكونية؛ مما يجعله أمام سيل من التناقضات، وفي الوقت الذي يدّعي فيه العقل الدينيُّ وجودَ “الفطرة الإنسانية” وأدنى تفسيراتها الاستعداد الإنساني لتلقي التصورات والتصديقات يحكم التيار الديني بوجود “الحالة الصفرية” التي تمتلئ بالدين وبالدين فقط، وهذا جوهر التناقض في هذا الفكر؛ باعتبار أن الإنسان فارغٌ قبل تلقي الدين من كل القيم والبصائر، وإذا كان الإسلام مصدر المعرفة في شأن تنظيم الدولة والحكم كما يدعي الإسلاميون، وليس العقل وهو توجه كثير ممن ينتمي إلى “علماء الدين” مثل المفكر الإسلامي الأزهري علي عبدالرازق؛ فإن ذلك يتنافى مع طبيعة الفطرة والاستخلاف وإعطاء الله الإنسان القدرة العقلية؛ لذا فإننا نؤكد أن أفلح الخليلي يُخلِّط بين العلمانية والعلمانوية؛ فالأخيرة تتقاطع مع الإلحاد لكنها ليست إلحادا وإنما موقف أيديولوجي يقف من الدين موقفا سلبيا من وجوده في الحيز العام (بشارة، 2015، جـ2/ م1، ص. 94) وأما العلمانية في واقعها التاريخي هي “حياد الدولة تجاه الأديان، وعدم تدخلها فيها، من منطلق استقلالية مجال السياسة والدولة (= مجال العام) ومجال الدين (= مجال الخاص).. وليست العلمانية فلسفة في الدين والعقيدة والإيمان حتى تتخذ موقفا معرفيا من الدين: إيجابا أو سلبا، وإنما هي حصيلة للفلسفة السياسية الحديثة التي أنتجت مجال السياسة المستقل، وجهزته بالقواعد العصرية التي تجعله مجالَ تنافس مدني متحضِّر” (بلقزيز، 2017، ص. 76) كما أن مكيافيللي مرحلة في التفكير السياسي وليس تعبيرا للعلمانية. 

         عندما ننظر إلى محتوى البرنامج نلاحظ أن معظمه جانبٌ وعظي يتناسب مع طبيعة البرامج التي تقدمها قناة الاستقامة الدينية وفقا لرسالتها وأيديولوجيتها، ونلاحظ أن الضيف يخلِّط بين المصطلحات والمفاهيم تخليطا في الوقت الذي يضع نفسه في مقام المحقق لتلك المصطلحات تدقيقا وتمحيصا؛ فهو يماهي بين العلمانية والعلمانوية، كما يخلط بين “الحياة العامة” وحياة الفرد في المجتمع؛ لذلك توصل أو استنتج الأفكار المختلطة عن العلمنة وتوجهاتها النظرية اللاحقة على نشأة المصطلح في أعقاب انتهاء حرب الثلاثين عاما بعقد صلح ويستفاليا (1648م)

         إذا رجعنا إلى دعوى “إقصاء الدين” وعدم إيجاد البديل وهي الأزعومة الجوهرية لضيف البرنامج؛ نلاحظ أنها دعوى قائمة على قياس مغلوط واستدلال مُشكِلٍ في مادته وترتيب مقدماته؛ إذ نلاحظ أن المقدمة الأولى متمثلة في “أن العلمنة عملية فحواها عزل الدين عن الحياة” مقدمةٌ مغلوطة وغير صحيحة؛ لأن العلمنة ليست تلك؛ وإنما هذا من تصورات الضيف ومعلباته الجاهزة؛ بينما المقدمة الثانية مقدمة غريبةٌ منطقيا تجعل الدين شيئا ماديا يمكن أن يزال بقرار أو توجه فكري كالعلمانية مما يجعل عمليات الإزالة تترك “فراغا” في المجتمع دون بديل وهذه مقدمة ثانية مغلوطة في الاستدلال توصل منهما إلى أن العلمانية هدمٌ للدين والأخلاق والإنسان في ضربة واحدة، وأنها ترى أن “الدين مرض فتاك”، ولعلّ عمليات الفصل التي يدعيها راجعة إلى اعتقاده باندماجهما أصلا؛ ويرى الشيخ أن الفصل سيؤدي إلى الفتك بالأخلاق وظهور النزعات الإباحية والحريات التي تنتج الردة عن الدين وغيرها.

المشكلة الأخلاقية:

         تعبّر المشكلة الأخلاقية عن جانبين في فلسفة الأخلاق؛ يأتي الجانب الأول في بيان مصدر الأخلاق الإنسانية ويقصد به الأساس أو المحدِّد الأخلاقي كاللذة، والعرف، والدين، والعقل، والضمير؛ ولعل أبرز المدارس إزاء مصادر الأخلاق تتوزع على نزعتين ترى الأولى أن الدين هو منبع الأخلاق وأساسه؛ بينما تنزع الأخرى إلى أن العقل هو الذي يقف وراء الحكم الأخلاقي؛ وأما الجانب الثاني فيتعلق بنسبية الأخلاق وفقا لمؤثرات اجتماعية وثقافية؛ وعلى ذلك فإن هذه النزعات مُثِّلت في الثقافة الإسلامية بين الأشاعرة والمعتزلة (الجابري، 2019، ص. 101- 103).

         كان يفترض من ضيف البرنامج وهو يناقش العلمانية في علاقتها بالدين والأخلاق أن يقرأ جيدا في فلسفة الأخلاق باعتبارها حقلا معرفيا واسعا ومتشعبا ومعقدا؛ ليدرك تلك النزعات؛ وليشتغل اشتغالا يضفي احتراما لعقل المتلقي، وأعتقد أنه من الفهاهة أن يزعم زاعمٌ بأن نزعة فكرية تاريخية لها مبادئ ومدارس ونظريات واتجاهات كالعلمانية هي هدَّامة للأخلاق والدين؛ لا سيما وأن هذا الزاعم لا يريد أن يقدم أطروحة علمية موضوعية عن النزعة وإنما يريد أن يخسِّس من مكانتها، وتزداد النظرة بعدا عن الفهم والاستيعاب عندما يحصر الخلاف في أهمية الأخلاق بينما محل النزاع في “أساس الأخلاق” وعلاقتها بالدين أو العقل وهي مسألة إشكالية في التراث الإسلامي ذاته ولم يقل أحدٌ من الناس أن المعتزلة وهم يتبنون رأيا آخر في تأسيس الأخلاق أو رؤية مختلفة في الحكم أنهم يحاولون هدم الأخلاق؛ علما بأن القضية ازدادت حدتها بميلاد المدارس والمناهج العلمية؛ لذلك فإنني أضع مثل هذه الأساليب في مناقشة المدارس والأفكار ضمن “التدبير الوعظي” الذي لم يعد يمتلك العدة الكافية لمناقشة تلك الإشكالات ويقحم نفسه دون استيعاب كما حدث مع العلمانية وهي ليست أيديولوجيا محددة كباقي الأيديولوجيات ولكن لها علاقات متشعبة بكثير منها (سربخشي، 2014، ص. 194).

         وإذا كنا لا ننكر تطرف النزعات الفكرية والأيديولوجيات السياسية والدينية وغيرها والعلمانية منها؛ فإنه يلزم التفريق بين العلمنة في حال الادعاء أنها ليست مناهضة للدين، وفي حال تطبيق؛ كما نفرق بين الدين بوصفه نصا، والظاهرة الدينية المركبة بما فيها من درجات التطرف والعنف عبر التاريخ كله في ممارسات الاحتساب والتكفير؛ في الوقت الذي يلزم فيه بيان أن موقف التدين في تطرف ذلك ينال المصائر الأخروية بناء على تصنيفات دينية بمعيار الولاية والبراءة؛ وعليه فإن الدين بكل أخلاقه يقع في حيز المجتمع وضمن كائنات الدولة الحديثة؛ والعلمنة هي ذلك التحييد لموقفها إزاء الدين بناء على القانون والمؤسسات؛ والعلمنة لا تكترث بإيمان المرء وميوله الشخصية وإنما تكترث بمحصلات الأخلاق “المقوننة”.

         إن الحكم الأخلاقي يجب أن يكون ذاتيا محضا، وكونيا، نابعا من العقل محايثا من حيث إن الإنسان كائن أخلاقي ولعلّ أبرز النقود الموجهة إلى اعتبار الدين أصلا للأخلاق هو تأثرها بـ”الأمر الإلهي” أو خطاب التكليف دونما نظر إلى ذاتية الفعل؛ بحيث إن الله لو أمر الناس بالعدل فهو حسن بالنظر إلى أمره؛ وإن أمر بنقيضه – وتعالى الله عن ذلك – فهو حسن بمعيار الأمر لا بمعيار الذاتية أو الضرورة؛ لذا جاء اعتراض القرآن على الادعاء “الممكن” الذي يحول “الفعل” بمجرد الأمر به من شر إلى خير مع هاجس النفي المطلق في قوله تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)؛ وعليه فإن القاضي عبدالجبار المعتزلي (ت469هـ) قد تنبه إلى الضرورة والفطرة المحايثة (= العقل الغريزي) في “المشكلة الأخلاقية” في قوله: “اعلم أن الطريق إلى معرفة أحكام هذه الأفعال من وجوب وقبح وغيرهما هو كالطريق إلى معرفة غير ذلك، ولا يخلو إما أن يكون ضروريا أو مكتسبا. والأصل فيه أن أحكام هذه الأفعال لا بد من أن تكون معلومة على طريق الجملة ضرورة، وهو الموضع الذي يقول إن العلم بأصول المقبحات والواجبات والمحسنات ضروري وهو من جملة كمال العقل” (القاضي، 1962م،  جـ3/ ص. 232- 233)؛ وإنما الوحي معزز لموقف العقل الغريزي أو الأفكار الفطرية كما يسميها رينه ديكارت؛ “ولو لم يكن ذلك معلوما بالعقل لصار غير معلوم أبدا؛ لأن النظر والاستدلال لا يتأتى إلا ممن هو كامل العقل، ولا يكون كذلك إلا وهو عالم ضرورة بهذه الأشياء ليتوجه إليه التكليف” (القاضي، جـ3/ ص. 233).

         وإذا كان هذا الأمر كما اتضح في ما أوجزنا جدليا ومشكلا ولا علاقة له بهدم العلمانية للدين ولا الأخلاق؛ فلماذا تتهم التياراتُ الدينية العلمانية بأنها هدامة للدين والأخلاق؟ أعتقد أن الإجابة عن السؤال تتوزع على احتمالات كلها ممكنة وفقا لتعدد النزعات الدينية أو الظاهرة الدينية؛ والاحتمال الأول هو أن بعض التيارات الدينية تكتفي بما تسمع أو تقرأ على الشبكات حول القضايا المتعلقة بالفكر العلماني، وهي تحكم جهلا بالافتراضات المسبقة والأحكام المعلبة؛ وأما الاحتمال الثاني فهو أن النزعة الدينية التي تسعى إلى التمكين في الأرض لبناء مشروع الدولة الدينية لا تتواءم أفكارها الراديكالية مع النزعات المدنية التي ترى أن الدولة تقوم بناء على المشتركات في المجتمع المتعدد وأن تحييد الدولة أهم واجبات النظرية السياسية؛ وأما الاحتمال الثالث فيتمثل في تخوف التيارات الدينية من انحسار الدين الشكلي والاجتماعي والكهنوت الذي يضمن لهذه الفئات من المصالح.

مرتكزات لفهم العلمنة Secularization:

         إذا أردنا أن نبدأ في فهم العلمنة من مسألة التمايز بين المجالات في إدارة الدولة استحضارا للمصطلح ومفهومه وممارساته فعلينا أن نتأمل العبارة الآتية التي تظهر على شاشة البرنامج ذاته “العلمانية في ميزان الشرع” وأقصد بالعبارة التعريف بالضيف: (الشيخ أفلح بن أحمد الخليلي أمين فتوى بمكتب الإفتاء) على شاشة قناة الاستقامة؛ ولفهم دلالة ذلك؛ فالضيف يظهر على الشاشة بوظيفة دينية داخل مؤسسة دينية من مؤسسات الدولة الخاضعة لسيادتها ودستورها المتمثل في النظام الأساسي للدولة؛ فالعَلمانية التي ينتقدها الضيف هي التي يعيشها بتمييز سيادة الدولة وتصيير كل المؤسسات الدينية وغير الدينية وإخضاعها لسيادة الدولة وهذا عين ما حدث في العام (1648م) أعقاب صلح ويستفاليا وما يحدث في كل الدول الحديثة.

         وعليه فلا تكمن مشكلة فهم العلمانية في فصل مؤسسات دينية عن الدولة بوصف الأخيرة ذات سيادة تامة تخضع لها تلك المؤسسات؛ فهذا الفصل والإخضاع جزءٌ لا يتجزأ من مفهوم الدولة الحديثة؛ مثل المؤسسة التي ينتمي إليها الضيف (= مكتب الإفتاء، أو وزارة الأوقاف والشؤون الدينية) وهي مسألة مؤسسية لا يشكل تشخيص حدودها الفاصلة مَهمةً مستحيلة في علم القانون والنظرية السياسية، وهذا التمييز – كما أشرت – سابق على نشوء مصطلح العلمانية وممارس؛ إلى درجة تصيير الوظائف الدينية أو الخطط الدينية بتعبير ابن خلدون وظائف مدنية داخل الدولة مثلما يرى محمد عبده، وإنما الإشكال يكمن في ادعاء فصل الدين عموما؛ فالدين والسياسة قائما ضمن نظام ضبط اجتماعي رمزي أو هوياتي، يتعامل مع الأيديولوجيا والمقدس والهويات والرموز والعصبيات وغيرها في المجتمع نفسه وفي الدولة ذاتها؛ لا سيما وأن تراجع الدين في المجال العام وانحساره مرتبط بالوعي الفردي (بشارة، 2015، جـ2/ م1، ص. 61)؛ وقد بينت في مقال سابق أن كارل ماركس أشار إلى علمنة الدولة وليس المجتمع كما يدعي الضيف ويخلّط.

         تفرض العَلمنة الفصلَ بين المؤسسة الدينية والدولة بحيث لم تعد هذه المؤسسة تمنح السيادة كما الشأن في الدولة الثيوقراطية التي يتحكم فيها فئة العلماء (= الإكليروس)، مثلما تفرض التمييز بين الانتماء الطائفي للفرد بكل أشكاله والمواطنة؛ لتتشكل الحياة الدستورية النابعة من النظام الأساسي للدولة؛ مثلما تنصُّ المادة (17) من النظام ذاته؛ كما تفترض العلمنة أن ثمة صيرورة تاريخية قد تؤدي إلى انحسار الظاهرة الدينية عن مجالات الوعي؛ ولكن العلمنة ليست صراعا ضد الدين، وإنما هي تحييد الدولة في الشأن الديني قانونيا في المجتمع المتدين لحماية الحريات الدينية (بشارة، 2015، جـ2/ م1، ص. 63)؛ ولذلك كله يهاجر المسلم إلى الدول الغربية العلمانية لأنه يجد الملاذ الآمن للعيش بسلام لم يجده في بلاد الإسلام.

         إن العَلمنة في بداياتها دلت على انتقال الديني إلى السياسي؛ أي من السلطة الروحية إلى السلطة الزمنية؛ وهذا يفترض وجود مجالين: ديني ودنيوي، أو ديني وزمني. وحتى يستوعب الضيف والقارئ هذا التمايز الذي يتهمه بأنه ضد الدين والأخلاق؛ فإننا نحيله على موضوع آخر يعد من دعاوى التيار الديني وهو يقر بوجود التمايز بين مجالين هما الديني وغير الديني من منطلقين تاريخي ومنهجي والتمييز كما أشرنا هو جوهر العلمنة:

  1. في التاريخ العماني نلاحظ أن دولة الإمامة هي دولة ثيوقراطية (= دولة دينية) قائمة على تمييز كتلتين: الكتلة الدينية المتمثلة في العلماء أهل الحل والعقد، وهم يمارسون البيعة والاختيار والاستتابة والخلع والقضاء، والكتلة السياسية بكل تصنيفاتها من حيث قوة الإمام وضعفه ومستويات عقد البيعة عليه وفقا لمسالك الدين، وهي من تنظيرات “الظاهرة الدينية” ويقصد بها مزيج النص والفهم كما يراها عبدالإله بلقزيز في تمييزه  بين ثلاثة أنماط من التمفصل بين السياسي والديني وهي: الدولة الثيوقراطية أو الدينية أو المتماهية مع الدين، والدولة المتأدينة وهي غالب الدول التي قامت في تاريخ الحضارة الإسلامية، والدولة اللادينية، وفي تاريخ الإسلام لم تتسرب الدولة الثيوقراطية في الوعي الديني إلا باسترجاع تسييس الدين الذي بدأ بالخوارج وانتهى بأنصار “الحاكمية” في الإسلام السياسي كالمودودي وسيد قطب (بلقزيز، 2017، ص. 27- 29)؛ فإذا كان التمايز حاضرا في أشد الدول ادعاء للتمييز فإنه أشد حضورا في الأنماط الأخرى.
  2. في وقتنا الحاضر يصرُّ التيار الديني على أن الظاهرة الدينية – وهي مركب أو مزيج النصوص والتأويل – اختصاص أو حقلٌ معرفيٌّ ويظهر العلماء فيه بأنهم “أهل الذكر” المسؤولون عن التفسير الصحيح للدين والقائمون على الإفتاء مثل ضيف البرنامج؛ وهذا يعني أن الحقل الديني حقلٌ متميز عن بقية الحقول العلمية والسياسية وله نظامه وأصوله؛ كما أن لغيره من الحقول أنظمة ومناهج وأصولا؛ ويشير (بشارة، 2015، جـ2/ م1، ص. 46- 47) إلى أن تطور وعي السياسي خارج الديني حدث باستمرار في الثقافة العربية؛ وهناك ممارسات تدل على نوع من العلمنة في السياق التاريخي الإسلامي اعتمادا على التفكير السياسي، وعليه فإن الدولة متمثلة في سلطنة عمان قد جعلت “مؤسسة الإفتاء” ضمن مؤسساتها الخاضعة لنظامها الأساسي وسيادتها التامة؛ ولا يمكن لسابح يسبح في الماء أن يحرم السباحة فيه فالضيف في خضم العلمنة وثمارها.

         والعلمانية في السياق العربي أيديولوجيا قائمة منذ المرحلة الاستعمارية؛ لكن الإشكال إنما يظهر في الوعي الشعبي الذي تأثر به ضيف البرنامج من أنها تنتحل العداء للدين، والأخلاق (بشارة، 2015، جـ2/ م1، ص. 45)؛ ولعل العلمنة العربية ناتجة من ذات السياقات التي نبعت منها العلمنة الغربية بشيء من الفروق في الدرجة وليس النوع إذا ما جعلنا معاهدة ويستفاليا منطلقا للمصطلح وظهور الدولة ذات السيادة؛ فإن الحركات السياسية الإسلامية زجت بالدين في معترك المضاربات السياسية التي حولته من عقيدة جامعة إلى أيديولوجيا سياسية يخوض الصراع من أجل السلطة ويختزل الدين في الحدود الشرعية (بلقزيز، 2017، ص. 46).

          ويعني ذلك أن الظاهرة الدينية الإسلامية لها دورها في ظهور الممارسة السياسية المتمايزة عن المجال الديني وعلى فترات تاريخية مختلفة؛ كما أن سياق نشوء العلمانية هو سياق نشوء الدولة الحديثة التي تتفوق على كل المؤسسات بما فيها المؤسسة الدينية التي ينتمي إليها أفلح الخليلي بوصفه يعمل “أمين فتوى” تحت مظلة مكتب الإفتاء وهو مؤسسة عامة خاضعة لسيادة الدولة العمانية وفقا لدستورها؛ فهو في سياق علماني وهو أبرز دليل على أن العلمانية لا تعادي الدين ولا الأخلاق (بشارة، 2015، جـ2/ م1، ص. 57) وليست داعية للإباحية وهدم الدين. ومن غرائب الطرح أن ضيف البرنامج ترك العلمانية وسياق نشأتها، والتمايزات التاريخية بين المجالات في الدول والحضارات التي ترتبط بمفهوم العلمنة، وأقحم نفسه إلى مكيافيللي في “الأمير” ليدلل على عنف العلمانية، وزعم في السياق ذاته أن التاريخ العماني ناصع لا ينتمي إليه صراع على أساس مذهبي؛ ويمكن مناقشة الضيف في ذلك من وجهين:

  1. أن مصادرة أملاك الكنيسة إلى الدولة بوصفها الحالة التي أطلق عليها مصطلح العلمنة قد بدأت بصلح ويستفاليا (1648م) بعد حرب الثلاثين عاما الدينية في الغرب؛ وما تجده من النصوص العنيفة عند مكيافيللي تجد من أمثاله في النصوص الدينية العمانية وغير العمانية ذات البعد السياسي في السياق الإسلامي؛ ويمكنك أن تعود إلى ظاهرة الاحتساب في التاريخ العماني وحركة المطوِّعة في الدولة العباسية، وما مارسته فئة الشراة لصالح الإمامة بوصفهم مجاهدين في سبيل الله؛ ولا يمكن للمرء أن يكون موضوعيا إن كان لا يبصر مثل هذه الظواهر في تاريخه فيراه ناصعا؛ ولعل أقرب تلك الممارسات المذهبية والأيديولوجية “فتح جعلان” وما سال فيه من مداد السالمي في تحفته حوله ومن نعوته المذهبية التي أطلقها ضد من يخالفونه، وأبعدها العنف الذي مورس في صحار ضد المخالفين في أداء العبادات أو الاحتجاج على قاضٍ من أهل الخلاف كما نص السالمي، زد عليه أن التاريخ العماني كتبه الفقيه المنحاز إلى أيديولوجيته؛ وهو تاريخ إنساني وليس ملائكيا، وعند تسليمنا بعنف مكيافيللي والجرائم التي انتهكت بسبب نصوصه فكيف يمكن للضيف أن يعقد العلاقة بينها وبين العلمانية؟
  2. أن من بين معاني العلمنة التي قد لا يدركها الضيف “علمنةُ التاريخ” أي الفصل بين عقائد المؤرخ واتجاهاته المعيارية والمذهبية والأيديولوجية عن “الصيرورة التاريخية” فادعاء نصاعة التاريخ وهو تاريخ صراع في متتالية زمنية طويلة تعد أسطورة ضمن سردية كبرى Grand Narrative ولا ندعي أن مفاهيم الدولة الحديث تخلو من الأسطرة؛ ولكن لا أدري كيف يقبل العقل العلمي الموضوعي مثل هذه الادعاءات التي تعد في حد ذاتها أسطورة ضد العلم والتفكير (بشارة، 2015، جـ2/ م2، ص. 37) إذ لا يمكن أن يتصور باحث أن الصراع المذهبي الراغب في بناء دولة دينية يخلو من العنف؟

         عندما نعود إلى التوجهات الدينية الإسلامية فإنه يلزم تصنيف هذه التوجهات وفقا لمعيار نزع السيادة من الدولة وتحويلها إلى دولة دينية، ومعيار “الهندسة الاجتماعية” أو الهندسة الدينية للمجتمع عبر السلطة الدينية الجديدة والاحتساب أو بإعادة صوغ منظومة قيم المجتمع على أساس القيم النابعة من الظاهرة الدينية، ونلاحظ أن الدين في الحالة الثانية يتحول إلى تكريس أو تسليع وهو يحمل في باطنه التصنيف بوصف ذلك جوهر أدوات الإسلام الاجتماعي (بلقزيز،2018، ص. 59) وهذا يعني أن العلاقة بين الدين والدولة ليست علاقة صراع إذا كانت الظاهرة الدينية ضمن سيادتها؛ ولكن الصراع يأتي عندما تتحول الظاهرة الدينية إلى الإسلام السياسي كالصراع الذي حدث بين الدولة والتوجهات الدينية في القرنين التاسع عشر والعشرين لبناء الدولة الثيوقراطية في عمان؛ والعلمنة تتحقق جزئيا عندما تخضع التوجهات الدينية لمنطق الدولة وسيادتها، ولكل توجه ديني أن يمارس السياسة ولكن بلغة السياسة وليس بلغة الإسلام السياسي؛ فما يمارسه الضيف هو في سياق علماني.

         تعد نظرية العلمنة قائمة في تحولاتها من الأيديولوجيا على سوسيولوجيا ماكس فيبر ومصطلحاتها؛ وقد أشار إلى وجود صدام بين الأخلاقيات الدينية والمجالات الدنيوية التي تتحرر من الدين مؤسسةً وهيمنةً ثقافية؛ لتصنع لها استقلالية وشرعية داخلية وأخلاقية؛ ويكمن فهم السوسيولوجيا للعلمنة في العلوم الاجتماعية على مستويات تبدأ بأفول الدين، مرورا بحصره في المجال الخاص، وانتهاء بالتمايز بين المجالات الذي تحدثنا عنه، وغالبا ما يرتكز نقد العلمنة إلى المستوى الأول، وهو فهم شعبوي بدا واضحا في حديث البرنامج (بشارة، 2015، جـ2/ م2، ص. 181- 182)، وكان يمكن للضيف أن يراجع الأدبيات والتنظيرات بشأن فلسفة الأخلاق ومنابعها بدلا من الحكم الشعبوي أن العلمانية ضد الإنسان وأخلاقه ودينه. 

التاسع بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

سعود الزدجالي