قبل شهورٍ قليلة وفي عيد ميلاده الثمانين أصدر الروائي الأسترالي الجنسية، الجنوب إفريقي الأصل، الحائز على نوبل في الأدب ج. إم.كوتسي (9 فبراير 1940) الجزء الأخير من ثلاثيته الروائية الشهيرة Jesus Trilogy (ثلاثية جيسوس)، التي عكف على كتابتها طوال العقد المنصرم.
رواية ج. م. كوتسي الأخيرة، وفاة جيسوس:
الثلاثية مُكونة من ثلاثة أجزاء: طفولة جيسوس 2013 (تُرجمت إلى اللغة العربية في سلسلة الجوائز المصرية)، جيسوس في المدرسة 2016، ثم وفاة جيسوس 2020. الروائية تناول حياة الطفل اليتيم “ديفيد” الذي يصل عبر رحلة بحرية بصحبة مهاجرية بلدًا غريبة فيتكفّل مهاجر اسمه “سيمون” وسيدة أخرى اسمها “إيناس” بتربية الطفل. تدور أحداث ثلاثية جيسوس الروائية في بلد اسمها “نوفيلا”، يعيش سكانها كغرباء. فليس من بينهم واحد ابن هذه البلد، وجميعهم وصل البلد على متن سفينة، ولا أحد منهم يتحدّث لغته الأصلية. في الصفحات الأولى يقول الطفل ديفيد إلى والده:
“هل تعلم يا سيمون ماذا أريد أن أفعل”؟ قبل أن أقضي نحبي أريد أن أكتب كل شيء عن نفسي في ورقة ثم أطويها وأعلقّها في يدي، وحينما أُبعَتُ في الحياة الأخرى أقرأ الورقة لأعرف من أنا”.
الأنا التي تروي الحدث هنا هي “ديفيد” ( تعني حبيب الله). في بداية روايته الأخيرة “وفاة جيسوس” يتمّ الطفل ديفيد عامه العاشر ويبدأ في لعب كرة القدم في الشارع مع أقرانه. يلفتُ الولدُ انتباه السيد “إكوادور” مدير أحد دار الأيتام فيدعوه إلى لزيارة دار الأيتام واللعب في فريق كرة القدم التابع للدار. بعدها يهجر الصبي ديفيد منزل والديه (سيمون وإيناس)، اللذين وإن كان يعيش في كنفهما.
لا يتعرف القاريء إلى الدوافع التي حَمَلت ديفيد على الافتتان بدار الأيتام، وهذا هو الحال في أغلب الدوافع المُحركة لأحداث الرواية، حيث تبقى الأواصر الإنسانية الرابطة بين الأبط غامضة مخفية. يدور المشهد الذي يتكلم فيه ديفيد عن قصاصة الورق التي يريد اصطحابها معه إلى الحياة الأخرى، يدور في المستشفى التي نُقل إليها قبل فترة طويلة على خلفية إصابته بضمور أعصابٍ حاد تتدهور حالته بشكل متلاحق، كما ستكشف الأحداث.
حتى كلمات المواساة التي يشيعها الأطباء وطاقم التمريض والتبشير بالعلاج الفعّال، ويلقونها على مسامع الأصدقاء الأقارب مرارًا وتكرارًا، لا تسمن ولا تغني. مجرد واجهة تُـخـفـي ورائها حالة الصبي المتدهورة بوتيرة سريعة.
أما البلد المُخترعة التي اختارها كوتسي موطنًا لأحداث ثلاثيته الروائية فهي دولة ديكتاتورية غارقة في الرخاء والعقلانية الوهمية. حيث ينسى جميع المهاجرين حياتهم السابقة في أثناء الرحلة، وكأنهم عبروا نهر ستيكس في الميثولوجيا الإغريقية. بمجرد الوصول يحصل الوافدون الجُدد على أرقام هوية جديدة، وأرقام تأمين اجتماعية.
يُكلّف أحد ما بتدبير ذلك. ولكن وراء هذه النبرة المهذبة للدولة الدوستويبية تتوارى سلطة تُــقـــولب الناس داخل أنماط محددة. صحيح أن البلاد تستقبلهم وتفتح لهم ذراعيها، لكنها تسلبهم الخصوصية، كما تسلبهم ذاكرتهم وتاريخهم وفرديتهم وأحزانهم وأشواقهم. إلا أن الطفل ديفيد يتمرّد على هذا العالم الأفضل من بين العوالم المُتاحة متسائلًا: لماذا يجب أن يكون حاصل جمع اثنين زائد اثنين يساوي أربعة، مُبررًا: الربّ خلق كل كيان ليكون متفردًا بذاته، مُدافعًا بعنادٍ عن إمكانية وجود حقائق أخرى مغايرة للقواعد التي تخضع لها النسب الحسابية المنطقية مؤكدًا أن كتابه المُفضل هي رواية الكيخوته لسيرفانتس، وأن واقعه الحقيقي هو الواقع المتخيل الذي ابتكره الفارس النبيل. حتى أنه حفظ الرواية عن ظهر قلب.
فالخيال يعين المرء على تحمّل الواقع المرير، لأنه يمنح الإنسان عالـمًا موزايًا لا مرئيًا، مُبتلعًا وعينا الجمعي بشكل غير مباشر. والكيخوته واحد من هؤلاء. فهو يعيش في عالم قصص الفرسان. فالكيخوته، الذي يتردد اسمه كثيرًا منذ الجزء الأول من الثلاثية) مثله مثل ديفيد يعيش في عالم يتجاوز الحقائق البسيطة ويسعى إلى إعادة إحيائها. في المجتمع الجديد يكون ديفيد هـو مـمثل لروح الطفولة التي تضعنا في مواجهة الأسئلة الـراهنة، لأنه الوحيد الذي تربطه صلة بمكان آخر، وبدلًا من الإذعان إلى القوانين المعمول بها، يحاول سـنّ قوانين جديدة. وإذا أغضينا الطرف عن عنوان الرواية، لكان في مقدور الطفل ديفيد عالي الموهبة، متوقد الذهن، وربما طفلًا مدللًا يرفض الذهاب إلى المدرسة، معتقدًا أنه أفضل من أقرانه. فـيتسائل المرء لماذا؟ هل والداه متسامحان إلى هذا الحد؟ أم هما مكتوفا الأيدي؟
في الرواية يموت الطفل اليتيم ديفيد من فرط الوهن، لأن طاقته على الاحتمال لم تستوعب حالة اللا مبالاة العامة السائدة. قال يسوع المسيح في الإنجيل: “إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السموات”. الرواية هنا مسكونة بقناعةٍ تامة أن الأطفال وحدهم هم المخلوقات الكاملة طالما لم يطلهم تشويه المجتمع. وحينما كان ديفيد راقدًا في المستشفى كانت شفتاه تتمتمان بأسماء أطفالٍ فقط: أصدقاء الشارع، وملجأ الأيتام ومدرسة الرقص. وحينما رحل ديفيد كان الأطفال هم مـن عقدوا العزم على أن تعيش كلماته وأعماله. كان الأطفال يواصلون ما يعتقدون أنهم سمعوه أو فهموه من ديفيد.
يقول “إليوشا” مُعلم الرقص في الأكاديمية (والإشارة هنا واضحة إلى أحد أبطال الأخوة كارامازف لدوستويفسكي)
” يركضون من محلٍ إلى آخر في عصابات، ينفقون ببذخٍ، يكيلون الشتائم إلى أصحاب المحلات التجارية لأنهم يطالبون الأطفال بالكثير. بينما يردد الأطفال الثمن العادل. هذه هي سمعتهم في الحي. في أحد محلات بيع الحيوانات يكسرون الأقفاص ويطلقون سراح الحيوانات، حتى أنهم يحرّرون الطيور من أقفاصها، لكنهم يعيدون السمكة الذهبية. يفعلون كل شيء لبلوغ الثمن العادل! كل شيء باسم ديفيد. بل إن بعضهم يزعم تلقي رؤى إلهية”.
منذ بواكير أعماله تحتل القضايا الوجودية مكانة محورية في أدب كوتسي. مثلًا علاقة حياة الفرد بالعالم؟ وماذا في مقدور الإنسان أن يفعل؟ كيف نهيء أنفسنا للعيش في هذا العالم؟ وما دور الأدب؟ ما تأثير القصص في العالم في أوقات الشدّة في الماضي والحاضر؟ وما تأثيرها اليوم؟ أي قوة يملكها الخيال؟ هل القصص هي رسائل سرية من جهة مجهولة، شأنها شأن قصص الكيخوته ورسومات ديفيد الغامضة التي سيطحبها معه، مُعلقة في معصمه حينما يغادر مُنتقلًا إلى الحياة الثانية ليكون مُسلحًا تسليحًا أفضل للمواجهة؟ هل في وسع الأدب أن يُساعدنا على الاقتراب من فهم حقيقة العالم المحجوبة عنا ؟
يطبع أسلوب جون كوتسي السردي الذي يمزج بين القصّ الواقعي والرمزي روايته الأولى: دسكلاندز، التي أثارث الجدل على الصعيدين الأدبي والسياسي لدى صدورها سنة 1974 نظرًا إلى قطيعتها السردية مع كل أعراف السرد الواقعي، وكذلك ربطها بين حرب فيتنام وبين دخول الاستعمار إلى دولة جنوب إفريقيا في القرن التاسع عشر. يقوم أدب كوتسي على عنصريْن: مسائلة الواقع مسائلة جذرية من ناحية، والتثوير الدائم لبنية النص الروائي. فبدلًا من أن يقدّم لنا شخوصًا روائية ذات مواقف صحيحة، يجعلنا معشر القُراء مشاركين فاعلين في وضع العالم موضع المسائلة. وهو ها هنا يؤلف رواياته باعتبارها خشبة مسرح تَـعرِض مآسي الحياة وتُطرحها على بساط التفاوض والنقاش. الأمر أشبه بدخول القاريء إلى غرفة يغشاها الضباب، لكنه يغادر الغرفة شخصًا آخـر، حتى لو لم ينقشع ذلك الضباب فلا وجود لتفسيرات بسيطة للحقيقة. أبطال روايات كوتسي لا يؤمنون بتابوهات أو بمحرمات، ولا أحد منهم على يقين من رسوخ عالمِه أو على يقين من وجهة نظره إزاء العالم، وجميعهم يكشفون كشفًا سافرًا عن ارتباكهم وحيرتهم، فيفسحون المجال لنا أيضًا لنكشف عن حيرتنا وارتباكنا، وهذا هو الفن العظيم بحق.
ويتكرر الأمر هنا أيضًا في رواية “وفاة جيسوس”. حيث تتخلّل مسار السرد الروحاني الثري أصواتٌ من أعمال روائية أخرى، مع إحالات إلى دوستويفسكي وسيرفانتس وكافكا وتولستوي وبيكيت، وبطبيعة الحال كما يُنبيء العنوان إلى إشارات واضحة إلى الكتاب المقدس، كما لو أن كوتسي قد عبّد الطريق الوعرة للدخو إلى عالمه الفكري عبر طـُرق متباينة مألوفة إلينا كقرّاء.
ولا ضير إذا سلكنا سبيلًا آخر إذا ما أردنا فهم المقصود. تخلو رواية كوتسي من الزخرفة الأسلوب للغة لكتاب المقدس، إذ تطغى الحوارات على النصّ. في معرض حزنه على ابنه المفقود تتفجّر مشاعر الأب الذي لم يستطع تصديق الموت، لكنه يُجبر نفسه في الوقت ذاته على النظر إلى الجثمان المسجيّ أمامه، حيث منظر الأطراف الهزيلة التي حالت إلى اللون الأزرق البارد من الأسفل، العَرَج، الأيدي الفارغة المشلولة، القضيب المنكمش الذي لم يُستعمل قط، الوجه المُغلق على نفسه كما لو كان في لحظة تأمل مـُركّز. يلمس الأبُ الوجنتيْن. كانتا باردتيْن كالثلج، ويضغط بشفيته فوق الجبهة، ثم يجد نفسه جاثيًا على يديه وركبيته فوق الأرض، دون أن يعرف كيف ولا لِمَ. في الليالي التالية لوفاة الطفل ديفيد، يستيقظ الأب سيمون مفزوعًا من نومه ويسمع صوت ديفيد:
“سيمون..لا أستطيع النوم..تعالَ احكِ لي حكاية.. لقد ضللتُ الطريق، تعالَ وخـذ بيدي”.
ومنذ تلك اللحظة يتحاشى سيمون المرور بالمنتزه كلما غادر شقّته. وكلما لمح الأطفال يلعبون تسائل بمرارة لماذا أُخِذَ منه ابنه تحديدًا وتُرك تسعة وتسعون طفلًا آخر يلعبون. في هذا المشهد المفجع تحديدًا تتضّح ملامح مشروع ثلاثية كوتسي عن “جيسوس”. الواضح أن للثلاثية الروائية خلفية متصلة بسيرة حياة المؤلف.
فإذا رجعنا إلى سيرة ج. م. كوتسي التي أنجزها الصحفي جي.سي. كانينماير حول حياة أديب نوبل، فلن نعثر إلا على معلومات شحيحة حول نيكولاس ابن الكاتب الكبير، الذي سارت حياته الدراسية على نحوٍ موازٍ لحياة ديفيد بطل الرواية. فمثله مثل الطفل ديفيد، رفض الطفل النابه نيكولاس كوتسي الذهاب إلى المدرسة، وكما رقص نيكولاس في مدرسة Waldorf على إيقاع الحروف، رقص الطفل ديفيد مثله على إيقاع الأرقام في الجزء الثاني من الثلاثية لكي يتحد بالفضاء ويتصل بالنجوم، وفي حين يموت ديفيد في الرواية في العاشرة من عُمره، يموت نيكولاس في الثالثة والعشرين. على ضوء هذا نرى أن عمل كوتسي الأدبي هو رسالة حزن وخيبة الرجاء حول عجز الآباء عن تقديم العون لأبنائهم في طريق حياتهم رغم ما يبدونه من مشاعر حب ورعاية. انفصمت عرى التواصل بين الأجيال، واختفت لغة التواصل بين الناس. ومن ثم لا عجب أن تدور أحداث الرواية في بلد مُـحـيت فيه أحداث الماضي تمامًا. فالطفل ديفيد وحيد، دون مثل أعلى، مثله كمثل يسوع المسيح.
يبقى السؤال الأخير: لماذا أطلق كوتسي على ثلاثيته اسم”جيسوس”؟
في الرواية لا يدّعـى الطفل ديفيد أنه طفل معجزة ولا أنه وُلِد بمعجزة سماوية، برغم وجود تلمحيات عديدة متناثرة في العمل حول إتيان الطفل ببعض الأعمال غير العادية، حيث نقرأ أن الطفل ديفيد ذا الخمس سنوات استطاع المرور عبر الأسلاك الشائكة دون التعرّض لأذى، وفي الجزء الثالث يطلب إحضار خروف دار الأيتام إلى سريره في المستشفى، ويضعه أمام كلبه “بوليفار” سائلًا الكلب ألا يتعرض للحمل بالهجوم أو النباح، وكأنه يتناصّ مع سفر إشعيا:6/11 : فيسكُنُ الذِّئب مع الْخرُوف، ويَرْبض النمر مع الْجدي، والعجل والشِّبْلُ وَالمسمّن مَعًا، وصبِي صغِير يـسُوقُهَا”. لا تشتمل الروايات الثلاث على شخصية تسمى “يسوع”، وهو ما يدعو يدعو القراء إلى التكهن بأوجه الشبه بين المسيحية وبين هذا العالم الخيالي الذي يبدو أنه لا يوجد فيه دين سماوي أو غير سماوي. لكن بعد وفاة الطفل ديفيد يتنافس الأطفال المشيّعون على ملكية قصة حياته، ويتحدّث كثيرون عن “رسالة الطفل اليتيم” ديفيد، رغم أن أحدًا لا يعرف ما فحوى هذه الرسالة تحديدًا.
في إحدى المرات أعرب أحد النـقـاد عن اقتناعه بأن كوتسي قد كتب ثلاثيته الروائية هذه إنما ليسخر من تعدد تأويلات أعماله الأدبية، بينما ذهب نُقاد آخرون إلى أن كوتسي قد اتخذ منذ فترة ليست بالقصيرة منحى “ما بعد سردي”، فيما أوّل فريق آخر ثلاثية كوتسي على أنها “أطروحة روائية مُبهمة”، أو “إنجيل أبوكريفي مُنتحل”، أو رؤية متشائمة مناهضة للاهوت. فالرواية لا تنضوي في النهاية على رسالة. فلا قيامة ولا خَلاص.
مات ديفيد ولا أمل في عودته كما مات نيكولاس ابن كوتسي ولا أمل في عودته أيضًا.
المصادر:
المقال سابق إعداد وترجمة عن المصادر التالية:
مقال جريدة الجارديان بتاريخ 4 يناير 2020
مقال إذاعة صوت ألمانيا بتاريخ 5 إبريل 2020
مقال جريدة فاينانشال تايمز بتاريخ 2 يناير 2020