يواصل المفكر وعالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي انتقاداته اللاذعة لسياسة الإدارة الأمريكية وتعاملها مع جائحة فيروس كورونا. موقع “إيكاثيميرين” أجرى مقابلة مع تشومسكي الذي أصبح الآن في الحادي والتسعين من عمره، أطال الله في عمره وأدامه بكل خير، والذي يعتبر واحداً من أكثر المفكرين والكتاب الذين يتم الاستشهاد بأقوالهم وكتاباتهم في العالم، والذي يذكّر في معظم كتاباته القراء والجماهير بعدم قبول الدور السلبي الذي أوكلته لهم السلطات الحاكمة التي تستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بعقولهم وإبقائهم خاضعين لسيطرة هذه السلطات خدمة لأهدافها وأهداف النخب الاقتصادية التي تمثلها.
يقول تشومسكي إن الوباء هو مثال حيّ على الضرر الكبير الذي ألحقته حقبة الليبرالية الجديدة أو “النيوليبرالية” بغالبية السكان. ولذلك؛ يجب ألا يكون لدينا أوهام حول الإيمان بالأسواق أو الكيانات الاقتصادية. إن المبدأ الأساسي للنيوليبرالية هو انتزاع القرارات من أيدي الحكومات، التي تخضع إلى حد ما للتأثير العام، وإعطائها للمستبدين الذين لا يخضعون لمسائلة عامة الناس – ووفقًا للعقيدة النيوليبرالية، يجب تكريس هذه القرارات فقط لإثراء الذات. وبمجرد أن اكتسب أقطاب النيوليبرالية قوة أكبر في عهد ريغان وتاتشر، وما شابههما، أعادوا تشكيل الأسواق بسرعة لصالحهم. وبالطبع يعتمدون بشكل كبير على الإعانات الحكومية وعمليات الإنقاذ عندما يتسببون في الأزمات، وهذا ما يحدث الآن مرة أخرى.
لكن الأوهام، يتابع تشومسكي، لها علاقة بالواقع، فهذا الوباء ينشأ من الإخفاقات العميقة للرأسمالية التي تفاقمت بسبب تأثير نسختها النيوليبرالية الوحشية. ففي عام 2003، بعد احتواء وباء السارس، حذر العلماء من احتمال حدوث وباء آخر لفيروس كورونا وحددوا سبل الاستعداد له. لكن المعرفة ليست كافية. هناك شخص ما يجب أن يتصرف بناء على ذلك. الخيار الواضح هو شركات الأدوية الكبرى (Big Pharma)، المنتفخة بعطاءات الشعب بفضل أجهزة العولمة النيوليبرالية. لكن هذا يمنعه المنطق الرأسمالي: ليس من المربح الاستعداد للكوارث المستقبلية. ولذلك فإن الحكومة هي المسؤولة في الواقع عن العمل على تطوير معظم اللقاحات والأدوية. لكن هذا ممنوع وفق عقيدة النيوليبرالية: الحكومة هي المشكلة، كما ردد ريغان. لذلك لم يتم فعل شيء.
يؤكد تشومسكي أن النموذج القائم للمال والأعمال (The business model) أدى إلى المزيد من الخراب. فالمستشفيات التي تعمل وفق هذا النموذج لا “تهدر” الموارد على القدرات الاحتياطية، مثل توفير الأسرّة الإضافية للمشافي. إن هذا يفيد بشكل أو بآخر في الأوقات العادية، ولكنه سرعان ما يتسبب في حدوث كارثة في حالات الطوارئ.
هذه هي البداية المجردة. بشكل عام، من الصحيح تمامًا وصف الوباء بأنه كارثة رأسمالية، تفاقمت بسبب وحشية النيوليبرالية.
هل يفهم ذلك معظم السكان؟ على الأغلب لا. يجيب تشومسكي. سيكون من الصعب العثور على أي ذكر للأمور الأساسية مما يصل إلى عامة الناس. من المفهوم بالطبع أن النظام قد انهار، مما أثار الغضب والاستياء وازدراء المؤسسات. وهذا يوفر تضاريس خصبة لديماغوجيي اليمين المتطرف مثل ترامب. كما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى جهود بناءة لعلاج الأمراض وبناء عالم أكثر حرية وعدلاً.
لكن رغم ذلك يؤكد تشومسكي أن هناك فرصًا. ومنها فرص واعدة، مثل المنظمة الدولية التقدمية التي تم تشكيلها حديثًا، والتي بدأتها حركة بيرني ساندرز في الولايات المتحدة إلى جانب يانيس فاروفاكيس وحركة DiEM25 في أوروبا (حركة الديمقراطية في أوروبا 2025 ، أو DiEM25، هي حركة سياسية لعموم أوروبا أطلقها في عام 2015 وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس والفيلسوف الكرواتي سريكو هورفات. أطلقت الحركة رسميًا في حفل احتفالي أقيم في التاسع من شباط/ فبراير 2016 في مسرح فولكسبونه في برلين وفي الثالث والعشرين من آذار/ مارس في روما)، والتي تجلب الآن أيضًا عناصر مهمة من الجنوب العالمي. ولكن مثلما يجب استخدام المعرفة، يجب اغتنام الفرص.
وفي جوابه على سؤال عن مستقبل الديمقراطية في أوروبا يقول تشومسكي إن مستقبل الاتحاد الأوروبي في خطر كبير، من نواح عديدة. فقد أسس الاتحاد الأوروبي نفسه على مبدأ تقويض الديمقراطية، مع تحول القرارات الأساسية إلى الترويكا غير المنتخبة. لكن العيوب تتجاوز ذلك بكثير، كما يكشف الوباء. إن ألمانيا هي القوة الاقتصادية لأوروبا. وقد تمكنت من إدارة الوباء بشكل جيد، مع معدل وفيات منخفض. ليس بعيدًا إلى الجنوب من شمال إيطاليا، التي تعيش وضعاً صعباً. هل أرسلت ألمانيا أطباء ومساعدات طبية أخرى؟ لحسن الحظ، يمكن لإيطاليا أن تتجه إلى مكان آخر للمساعدة: إلى كوبا، التي قدمت مرة أخرى توضيحًا للأممية.
يسأل المحاور عن اضطهاد “النظام الدولي” لكل من جوليان أسانج وتشيلسي مانينغ وإدوارد سنودن – الذين يعتبرون “خطرين للغاية” لأنهم يقاتلون من أجل نشر الحقيقة والعدالة. ويتساءل: هل هم طيور الكناري في منجم الفحم أم أن كل شيء سار في طريقهم ونحن بالفعل في عالم هكسلي حيث “المستقبل هو الحاضر المتوقع”؟
فيجيبه تشومسكي بالقول إن الجواب متروك لأناس مثلك ومثلي. فهل سنتسامح مع الإساءة المشينة للسلطة – المتمثلة في الوقت الحالي في القتل القضائي الافتراضي لأسانج عن “جريمة” كشف الحقائق التي يرغب سيد العالم في قمعها؟ هذا إلى جانب الكثير من المسائل المشابهة.
يسأل المحاور: لماذا في أي أزمة، ما يتراجع أولاً هو الديمقراطية؟ ولماذا وصلنا إلى النقطة التي تعتبر فيها الحرية والأمن مفاهيم/ أفكار ثنائية القطب ومعاكسة؟ هل تعتقد أن حالة الاستثناء هذه موجودة لتبقى وأن الحكومات العالمية والسلطوية تستخدم الأزمة كذريعة للدخول في حقبة جديدة من القمع؟
يجيب تشومسكي قائلاً إنه في الأزمات – الحرب، الوباء، التسونامي، وغيرها – يصبح الناس على استعداد بحق للتضحية ببعض الحرية مؤقتًا للتعامل مع الأزمة. ومن بين أولئك الذين تم منحهم السلطة مؤقتًا، يسعى البعض بالتأكيد لإدامتها. وهذا يحدث أمام أعيننا. وإذا استسلم السكان للأمر فإن هؤلاء سينجحون.
يجب أن نتذكر كلمات ديفيد هيوم في المقطع الافتتاحي لأول أطروحة حديثة للعلوم السياسية: “القوة دائمًا إلى جانب المحكومين، ولا يوجد لدى الحكام ما يدعمهم سوى الرأي”. لا يحتاج المحكومون إلى السلبية التي يحددها الأقوياء. إذا فعلوا ذلك، فإن مصيرهم سيكون قاتما.
يسأل المحاور: هل تعتقد أن الإنسانية قد وقعت على عقد فاوستي (نسبة لفاوست في مسرحية غوته الشهيرة) والآن حان الوقت للدفع في جميع مستويات الحياة؟ هل هناك طريقة ووقت لإلغاء هذا العقد؟
يجيب تشومسكي: نحن ندفع الآن لمنطق الرأسمالية وجرائم صيغتها النيوليبرالية المتوحشة. أولئك الذين عانوا لسنوات عديدة، ويعانون بشدة هذه الأيام، لم يوقعوا العقد أبداً. في هذه الحالة يمكن اقتلاع مصدر هذه الجرائم ويمكن للبشر أن يتحدوا في مسعى لخلق عالم أفضل.
ومع ذلك، ينبغي ألا ننسى أن الوباء بعيد عن أشد الأزمات التي نواجهها. سيكون هناك شفاء من الوباء بتكلفة باهظة. لكن لن يكون هناك شفاء من ذوبان القمم الجليدية القطبية وتسخين كوكب الأرض، العملية التي قد تؤدي إلى جعل معظم مناطق هذه الأرض غير قابل للسكن حرفيا حتى قبل نهاية هذا القرن، وكل ذلك مع عواقب لا يمكن تصورها. كما هو الحال في حالة الوباء، هنا أيضا يجري العمل على منطق الرأسمالية. وهنا أيضا يتفاقم بشكل حاد تهديد الرأسمالية لحياة البشرية، التهديد الذي تمارسه العناصر الخبيثة في مركز القوة العالمية. إن إدارة ترامب مكرسة بمثل هذه الحماسة لدائرتها من الثراء الفاحش وسلطة الشركات التي تعمل على تعظيم استخدام الوقود الأحفوري وتفكيك النظام التنظيمي الذي يوفر بعض الوقت على الأقل لعكس المسار وتجنب الكارثة.
في هذه الحالة أيضًا، يختم تشومسكي بالقول، إن هناك فرصا، ولكن ليس لفترة طويلة. إذا لم يتم اغتنامها، فإن المسائل الأخرى ستتلاشى لتصبح عديمة الأهمية.