الفيزياء الحديثة وأسس المعرفة البشرية

كتب بواسطة علي داود

تتأسس معرفتنا بالعالَم المحيط بنا، بل وحتى أنفسنا إلى حد كبير، على مجموعة من البديهيات أو المُسلّمات التي لا نستطيع التأكد من مصدرها أو كيفية توفرها لنا، فهل هي مبرمجة في أدمغتنا منذ الولادة مثلا أو هي نتاج تركيب الحمض النووي DNA الخاص بنا مثلا أم أننا نكتسبها بالتجربة والتعلّم. ثمة جدل تاريخي طويل بين الفلاسفة حول هذا الموضوع، فهناك فلاسفة عقليون مثل الفرنسي ديكارت يعتقدون بفطرية هذه الأسس (أي أنها مبرمجة بطريقة ما فينا)، وهناك التجريبيون أو الحسيون مثل الأسكتلندي ديفيد هيوم الذين يعتقدون أن كل المعارف تأتي عن طريق الحواس والتجربة، وهناك بطبيعة الحال فلاسفة مثل الألماني كانط الذين حاولوا الجمع بين المذهبين العقلي والتجريبي وانتهوا إلى ألغاز تُصعّب الموقف أكثر مما تفسّره.

من أمثلة البديهيات التي نتحدث عنها مبدأ واقعية العالَم ومبدأ عدم التناقض. الأول يعني أنّ هناك عالَما متماسكا خارج ذواتنا، مستقل عنا ولا يعتمد علينا أو على تصوراتنا عنه، فهناك هذه الطاولة وهذا الكرسي وذاك الجدار بالإضافة لنفسي في هذه الغرفة، أي أننا لا نتوهم وجود هذه الأشياء بل هي موجودة ومتحققة فعلا خارج ذواتنا، كما أن وجودها لا يعتمد علينا، فسواء كنتُ موجودا في الغرفة أم لا ستظل هذه الأشياء موجودة، وبهذا تحديدا تتميز الفلسفة الواقعية عن غيرها، إذ تتخذ من واقعية العالَم بداية بديهية لها والتي لا يمكن إقامة أي برهان عليها لشدة وضوحها(1). أما مبدأ عدم التناقض الذي يُعتبر أحد مبادئ علم المنطق عند أرسطو أيضا(2) فيعني أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فالشيء إما أن يكون موجودا أو غير موجود، ولا يمكن أن يكون موجودا وغير موجود معا في نفس الوقت أو موجودا بالنسبة للبعض وغير موجود بالنسبة للبعض الآخر. وإذا أردنا أن نعبر عن ذلك كله بطريقة عامة فسنقول أن العالَم وحقائقه ليست نسبية أو ذوقية بل مطلقة وثابتة. إضافة لهاذين المبدأين اللذين يمكن أن نجدهما بكثرة في الفلسفة وعلم المنطق هناك بديهيات أخرى قد تكون محل جدل ولكننا بطبيعة الحال نستخدمها في حياتنا اليومية، مثل توفرنا على حرية إرادة ومبدأ السببية أو العلية(3).

على نحو تقليدي في منطقتنا العربية وحدودنا الإسلامية، لا يُثار الجدل حول هذه الأسس في حد ذاتها إلا ضمنا، وعندما يُثار لا يتم التطرق لرأي العلم الصحيح (غير المزيف)(4) بتطوراته الحديثة المستمرة إلا قليلا أو بطريقة غير تخصصية، فالجدل تقليديا يظل يدور ويحوم حول نفس الأمثلة التأملية المتوارثة منذ زمن ما قبل أرسطو أو في أحسن الأحوال منذ الثلاث أو الأربع قرون الماضية في أوربا، وذلك رغم قفزات العلم الهائلة في نفس المجال، ورغم محاولاته الجادة للإجابة عن كثير من التساؤلات بطرق تجريبية حديثة هي الأقرب لفهمنا والأكثر إقناعا لنا اليوم، فمازال أصحاب الفكر والفلسفة في المحيط العربي والإسلامي يتحدثون عن أمثلة تأملية صاغها المفكرون اليونان أو فلاسفة القرن السابع عشر المتأثرين ببدايات النهضة العلمية الحديثة، ومازالوا في الأعم الأغلب يناقشونها بصيغ تأملية أيضا بسبب كونهم غير متخصصين في العلوم. أما المتخصصين الجادين في العلوم فرغم ندرتهم هم أيضا ليسوا مطلعين على تاريخ الأفكار والمذاهب والمناهج الفلسفية بالدرجة الكافية بسبب عدم توفر تخصصات تدمج بين الفلسفة والعلوم كتخصص فلسفة الفيزياء على سبيل المثال.

تظهر أهمية هذه التخصصات عند الوقوف على نتائج العلم الحديث، فمنذ أن لاحظ إينشتاين أن سرعة الضوء ثابتة لا تتغير بسبب نسبية الزمن، ومنذ أن وحّد بين هذا الأخير والمكان في نسيج واقعي واحد (الزمكان)(5)، أضحى ذلك إلى أن التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل كمراحل زمنية متتالية مجرد وهم لا غير، فكل ما حدث ويحدث وسيحدث موجود الآن في هذه اللحظة في ما يشبه نظام إحداثيات ثابت لا يتغير. هذا يعني إمكانية التحرك في الزمن، أي إمكانية الرجوع إلى الماضي والسفر إلى المستقبل من دون الحاجة إلى أية آلة، تماما كالحركة في المكان يمينا ويسارا مثلا وبكل بساطة، ولكن هذا لا يحدث بطبيعة الحال، فسهم الزمن في الواقع متجه للأمام (للمستقبل) دائما، ويُعتقد أن سبب ذلك هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يعمل بمثابة شرط أولي لتشكّل كوننا وينصّ على أن فوضى أي نظام معزول (الإنتروبي) تزداد أو تبقى ثابتة في الحالة المثالية، ولذلك كل شيء في كوننا – بما فيه نحن البشر – يتعرض للفوضى بشكل حتمي أي يموت أو يتحلل أو يتهدم أو ينهار وليس العكس. تقوم هذه النظرية في أقل تقدير بزعزعة بديهيتنا القائلة بتوفرنا على حرية إرادة نحدد بها مسار مستقبلنا غير الموجود الآن، وأن هناك ترتيب زمني ضروري بين السبب والمُسبب حتى تكون العلاقة بينهما معقولة.

ولعل “الضربة المؤلمة” هي أن كل ما نطلق عليه (الواقع) هو مجرد ٥% من إجمالي كل ما هناك، فالباقي ٩٥% شيء أو أشياء مُبهمة يُطلق عليها الفلكيون المادة المظلمة والطاقة المظلمة، لا نعرف عنها شيئا إلا أنها هناك وتقوم بدور الشد والجذب(6). وأعتقد أنه من الأفضل أن يتواضع المرء أو يتمهل في التفلسف عن الواقع وكأن نسبته الخاصة بإلإدراك المباشر (٥%) هي كل الواقع.

أما فيما يخص عالَم ما دون الذرة(7)، فالتجربة المعروفة في فيزياء الكم باسم تجربة يونج ذات الشق المزدوج(8) وكذلك ملاحظات العالِم الفيزيائي الألماني بلانك بخصوص الطبيعة الكَمّية للإشعاع أو الطاقة، بمعنى أن الطاقة تكون على شكل دفقات أو كَمّيات منفصلة على عكس التصور السابق بأنها عبارة عن موجات متواصلة، هذه الملاحظات هي الأخرى تؤسس لمعرفتنا بهذا العالَم العجائبي وتزعزع بديهياتنا. تثبت تجربة يونج أننا جزء لا يتجزء من مسار عالَم ما دون الذرة، فعندما يتم إطلاق الإلكترونات في هذه التجربة يلاحَظ أنها تسلك سلوك الموجات في حال لم يقم أحدٌ بعملية القياس، وما إن يتم التدخل للقياس يتغير سلوكها لتصبح وكأنها دقائق محددة ومنفصلة عن بعضها البعض. أضف إلى ذلك الكثير من الملاحظات المدهشة كوجود الإلكترون في أكثر من مكان في نفس الوقت وتداخله مع نفسه كمظهر من مظاهر السلوك الموجي في حال لم يقم أحدٌ بعملية القياس، والظهور والاختفاء العشوائي والفجائي من دون سبب، وعدم القدرة على التنبؤ بموقع الإلكترون بدقة في حال تم التنبؤ بسرعته بدقة أو العكس ليس بسبب عدم دقة الأدوات المستخدمة بل بسبب طبيعة أصيلة لهذا العالَم(9)، وإذا كان بالإمكان استيعاب معنى أن يكون الشيء محددا ومنفصلا في كَمّيات أو دفقات فإننا لا نفهم ماذا يعني أن يكون الشيء عبارة عن موجات، إذ يتم استخدام كلمة الموجات في فيزياء الكم للتعبير عن أداة أو تمثيل حسابي مفيد في رياضيات الاحتمالات، فليس الأمر أنها مثل الموجات التي تتكون على سطح الماء إثر إلقاء حجر فيه. كل هذا أدى بأحد رواد فيزياء الكم نيلز بور إلى أن يقول: “كل ما نطلق عليه الواقع مكون من أشياء لا يمكن اعتبارها واقعية”(10).

إن الطبيعة المزدوجة لعالَم ما دون الذرة بين الانفصال والاتصال أوصلت العلماء إلى اعتماد طريقة الاحتمالات في فهمه، وذلك على عكس الطريقة الحتمية المطلقة التي تتبعها الفيزياء الكلاسيكية (فيزياء نيوتن) والأقرب لفهمنا الطبيعي للعالَم أيضا، وبالفعل تُعد طريقة الاحتمالات ناجحة جدا في فهم تجارب عالَم ما دون الذرة، ولكن ماذا عن عالَم ما فوق الذرة، عالَمنا الطبيعي؟ لماذا كل شيء فيه حتمي ومطلق؟ هل الثبات والتماسك المستقل الذي نعتقد بوجوده في أشياء العالَم وهمٌ أم أن هناك نوع من التدرج أو الانتقال غير المفهوم بالنسبة لنا اليوم من الطبيعة الإحتمالية لما دون الذرة إلى الطبيعة الحتمية لما فوقها؟ يقوم العلماء وفلاسفة العلم اليوم بحل مثل هذه المعضلات.

مما لا شك فيه أن مثل هذه المعضلات لم تُعد فلسفية تأملية فحسب ولا يمكن حلها بمعزل عن العلم الحديث وتطوراته. إن الجلوس في غرفة منعزلة والتفكير في مفاهيم مثل الوجود والماهية والمادة والصورة والعلية والتوصل إلى أحكام مطلقة مبنية على تشبيهات أكثر من تفسيرات لن يكون مجديا. هناك حاجة ملحّة للاطلاع بل والتخصص في ما يقدّمه العلم الحديث لنا. هناك حاجة ملحة لتخصصات فلسفية-علمية.


(1) في المقابل، تشكك الفلسفة المثالية بمختلف أطوارها في وجود العالَم الخارجي، وتُرجع جميع التجارب إلى تمثيلات في الذهن البشري.
(2) يقوم علم المنطق الذي أسسه أرسطو على أربعة مبادئ يكون التفكير من دونها غير سليم، وهي: مبدأ الهوية، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع، ومبدأ السببية.
(3) عادة ما يفرق الفلاسفة بين السببية بمعنى المؤثر والأثر والعلية بمعنى الموجِد والموجود، وهي تفرقة قد تبدو غريبة لأنها غائبة عن عالَمنا الطبيعي المعتاد.
(4) يتكون العلم الزائف من معتقدات أو ممارسات يُزعم أنها علمية وواقعية على حد سواء ولكنها تتعارض مع المنهج العلمي.
(5) أكد إينشتاين في نظرية النسبية الخاصة التي نشرها سنة 1905م أن سرعة الضوء ثابتة، وبما أن السرعة هي حاصل قسمة المسافة على الزمن، فلابد من أن يكون الزمن والمكان كلاهما نسبيان ومتغيران.
(6) أنا أصدق العلم. 2020. متى وأين ظهرت المادة المظلمة والطاقة المظلمة؟. [online] Available at: https://www.ibelieveinsci.com/?p=56037.
(7) يتم تقسيم قوانين الفيزياء بين عالَم الأجسام الكبيرة (الماكروسكوبي / فوق المجهري) وعالَم الذرات (المايكروسكوبي / تحت المجهري). حيث تنتمي قوانين نيوتن مثلا لعالَم الأجسام الكبيرة بينما تنتمي قوانين فيزياء الكم لعالَم الذرات، وهناك محاولات مستمرة للتوفيق بين قوانين العالَمين والوصول إلى نظرية موحدة تفسر كل شيء.
(8) أجرى الفيزيائي الإنجليزي توماس يونج هذه التجربة لأول مرة سنة 1801م، وتوصل من خلالها إلى إثبات أن الضوء يسلك سلوك الموجات، حيث أطلق حزمة ضوء على لوح مثقوب بشقين متوازيين ولاحظ ظهور مناطق مظلمة وأخرى مضيئة على شاشة وضعت خلف اللوح.
(9) مبدأ الريبة أو اللايقين في فيزياء الكم وضعه العالِم الألماني هايزنبيرج سنة 1927م، ويعني عدم إمكانية قياس موقع وسرعة الجسيمات الأولية معا بدقة عالية، فإما أن يُقاس موقعها بدقة عالية وإما سرعتها.
(10) Writer, E., 2020. Niels Bohr: Biography & Atomic Theory. [online] livescience.com. Available at: https://www.livescience.com/32016-niels-bohr-atomic-theory.html.

التاسع بعد المئة مختارات مقالات

عن الكاتب

علي داود