سلام الصارمي الذكريات الجميلة في العمر القصير

كتب بواسطة حمود حمد الشكيلي

“…وكان قد اتصل بي، تفاجأت، لم تكن بيننا علاقة، فإذا به يسألني عن الظاهر في صورة بروفايل هاتفي، في أيقونة الواتس آب، قلت له، هذا زميلنا في العمل، أخ عزيز… ظل المتصل يسأل عن أين هو هذا الأخ الآن؟ قلت أنت تعرف مكانه، قال عموما أزلْ صورته من بروفايلك..”
مكالمة قصيرة جدا، قبل أربع سنوات، بين ضابط أمن، استُفزّت عيناه من صورة حمود الشكيلي في بروفايل واتس آب أخيه، سلام الصارمي.
سيظل سلام يتساءل، عن الطلب الغريب والعجيب، والجريء أيضًا، في التدخل السافر في أبسط خصوصيات الناس، من ضابط أمن لا يفقه شيئا في أبجديات الحريّة الشخصية المتمثّلة، في الحب الأخوي الصادق بين اثنين، واحد من إمطي، والأصغر من بسيا، جمعتهم سنوات من المحبة الكبيرة، ليصل الأمر بجرأة هذا الضابط بطريقة الآمر الناهي طالبا من مواطن حر وعادل، شريف ونزيه، وابن أمطي، القرية العمانية المجاورة والملاصقة لرمز النضال الوطني في تاريخنا الحديث، بإزالة صورة أيقونة التعريف الشخصي في خدمة الواتساب.
لم يكن سلام سالم هكذا، إنه أكثر من كل ذلك، سلام في الوجدان قطعة محبة كبيرة، جزء نبيل وأصيل من الذكريات الجميلة، ذكرياتي معه مليئة بالمحبة الصادقة، لهكذا هو فعلا شحمة من الفؤاد.
بفقده صباح الجمعة، الرابع والعشرين من يوليو ألفين وعشرين ميلادي لحظة تلقي مكالمة تؤكد أن مكالمات الصباح مزعجة ومؤذية، أليس كذلك؟!تنكمش الشحمة، تترسب في مكانها، وأخشى عليها من طحالب الزمن، الأمَرُّ أن هذا النحيب الروحي الصامت سيستمر طول العمر، لأني أعبر إمطي، وفي العبور لا أملك إلا أن التفت دائما، التفت إليه وإن لم أره في السنين الماضية، سألتفت إليه بعد اليوم لأراه عند كل مرور، في كل التفاتاتي القادمات سأرى فوق تلك السماء روحًا تكبر يوما بعد الآخر، أجزم أن روح سلام ستغطي سماء إمطي؛ وستمطره تلك السحبُ في مساءاتها؛ لتشكل قوس قزحها الخاص، ألوان لن تظهر إلا لمن خبر السلم والسلام، بالمجاهرة في ذكر الحب وترديده.
علاقتي الزمنيّة بسلام الصارمي تمتد لاثنتي عشر سنة، ” تقريبا”كان قد سبقني بخمس سنوات في الالتحاق بمدرستنا” مدرسة السلطان”، لأتبعه في سنة خبرته السادسة، في السنوات الأولى تغيّرت مهمّته ومهامه، يومها معنويا أكثر منه ماديًّا، غادر مهنته الأولى، سائقًا، والتي أتى إليها قادما من إحدى الشركات العاملة في غلا بمسقط، ليظل مشرف مخزن المدرسة، كنت يومها معلّمًا، أصعد للمخزن لأخذ حصتي، من الأدوات المكتبية” دفاتر أقلاما أوراقا ممحاة ومبراة…”إن كان الوقت سيسمح لأخذ استراحة قصيرة فيدعوني لأجلس في مكتبه، نتحدث؛ لنتعارف أكثر وأكثر، يذكر من يعرفهم في بسيا، وأرصد من أعرفهم في إمطي.
في البدايات الأولى نشيّد أخوّة صادقة، في الحقيقة الواقعية بعد سنوات قليلة جدا من اللقاءات الأولى أصبحت أخوّة الزمالة صداقة روحيّة، بنيناها معًا، هو مع عائلته وأنا كذلك، فمنذ أن جمعتني الصدفة القدريّة في صحراء العامرات” يوم أن كانت مناطقها فعلا صحراء عشقت بيتا صغيرا منزويا، في بقعة لا تصلها سيارتي القادمة من الحيل، وسيارة زوجتي القادمة من الوطيّة إلا بشق البطء في السير؛ مخافة على إطارات السيارتين، أو مراياها، من حصاة مستكينة كمسمار، أو طائرة من غبار مجنون تجاوزنا مسرعًا لنقول له” الله يسامحك”، هناك في صدفة يوم مفاجئ التقيت بشاب يبحث عن سلك كهربائي ليكمل بيتا اشتراه قبل أيام، في الحديث القصير عرفت منه أن له أخا، يعمل في مدرسة السلطان، واسمه سلام الصارمي.
من تلك الصدفة القدريّة، صدفة خير من مليون ميعاد في العامرات، فليس بعد كل صدفة تصبح اللقاءات حياة، لاحقا بفترة زمنية قصيرة سنجتمع نحن الأربعة” الراوي الشاهد، والأخوة الثلاثة( سلام، خلفان، زهران) لالتهام وجبة دجاج صالونة هندية وخبز البراته- أعدها لنا العمال الهنود، مكملو بناء المنزل الناقص المشترى قبل شهر، بمحبّة مشكورين، بعد أن وفرنا لهم مواد الوجبة كاملة.
في هذه الليلة تمكّنتُ من تسلّم المفتاح الأول لمحبة العائلة، لتستمر بعد وجبة العشاء الأولى لقاءات وزيارات، لا بأس إن تخللتها خلافات وجهات نظر في الشأن العماني، حادّة أحيانا، متطرّفة من قبلي مع الوكيل، ضابط الصف، منذ ما قبل المسيرتين الخضراوين الراجلتين المطالبتين بمزيد من الحقوق على مسار شارع الوزارات، وصولا إلى الربيع العماني وما تلاه من أحداث أخرى لاحقة، إلا أن خلافات الأراء القديمة لم تزد العلاقة إلا ودا ومحبة واحتراما متبادلا، أطّرها المعدن النقي في الأرواح، إذ أخي ” خلفان” ضابط الصف قارئ محب للكتب، ومن هنا لا يملك أحد إلا أن يجد طريقا يدخل فيها المحاور مع المحاور، أمرٌ كهذا يساعد كثيرا على تقبل أحدنا للآخر، هذا ما يمكن تسميته بوجبة العشاء الأولى، خلاصة ما فيها بهارات محبة كبيرة.
كان سلام مفتحاها الأول، مؤكدها الأبدي الدائم على تلبية مطالب حمود الشكيلي، المتمثّلة في استبدال نقوده القديمة بالنقود الحديثة القادمة توا من ماكينة الصنع قبل العيدين” عيد الصغيّر، والعيد العود” ليتميز بالأوراق الخضراء الجديدة، حتى يفرح بها الأطفال في العيدين.
تمر الأيام والأشهر والسنوات، تفتح الأيام فرص زيارة سلام في بيت أبيه أكثر من مرّة، إذ في مرّة عرفني مشكورا على والدته الكريمة، ومن تلك اللفتة التي شرفني بها سلام الصارمي خبرت معدن الرجل، يقول لها هذا هو أخي الذي لم تلده أمي، زيارة أخرى كانت في بيته الخاص مرة، وقد جمعتني به لقاءات خارج المدرسة، لم تتوقّف اللقاءات، إن قلّت في السنتين الأخيرتين فالاتصالات عوّضت، والمحبّة زادت وتأصّلت، معًا نحافظ عليها، الظروف الحالية للمرض تزيدها لحمة، فما أجمل أن تتذكر الناس في آلامهم وأوجاعهم، إن اتصالا يذهب من معافى إلى مريض هو الدواء، خاصة إن كانت هناك محبة بين الاثنين، فقبل رحيل توأم ذاكرتي وذكرياتي بأيام قليلة كنا قد اتخذنا قرار الزيارة، زيارتك لمن تحب تسمح لك بنسيان الأزمة الحالية، بتجاوزها وبعبورها، أمر كهذا فريضة حياة؛ لمن يعرف الحب، فالحب السلطة الأعلى، إنه الفريق الأول الذي يقودنا نحو مؤسسة الحب، بينما الخوف جندي تائه وضائع ومشرّد، فقد بندقيته في ساحة التدريب الأولى، لهذا علينا أن نضغط على الخوف بأعقاب أرواحنا، ندوسه عقابًا لوجوده في الحياة؛ ولنسحقه ليظهر الحب ويعلو، مثل حمامة سلام فوق رؤوس البشر.
هكذا كانت علاقتي بسلام، تعارف ضروري في البداية، مثل أي زميلين جمعتهما مدرسة، تبعتْها تجاربٌ واختبارات حياة لمشروع الصديق، حتى المجاهرة في الحب، إحضار المحبة القلبيّة والتأكيد عليها، باختصار شديد كنت أحبه كثيرا؛ لأنه يحبني أكثر، ويسمعني ما لم أسمعه من الأقربين من أصدقائي، ظل يجاهر معي في لفظة الحب، يرددها، يأتي عليها كثيرا، يخجلني بها، كم من مرة قال لي” أحبك”،” والله يا حمود إني أحبك”” أحبك كثيرا..” كنت على يقين تام أن تلك الكلمات لم تخرج من لسانه أبدا، في الحقيقة كان قلبه من يتغنى في أذني بالحب، بترديده، بالإصرار عليه، بتأكيده كلما شعر بالراحة والاطمئنان، والاستماع، لعله وجد فيّ ما سمح لي بإيجاده فيه، في ضميره ووجدانه، لم أقل له الكلمة ذاتها كثيرا، بلفظها، ربما ربما كان يستشعر من الأفعال ما جعله يردد حبه لي، كان يفتح لي باب قلبه، يسكب على صحن أذني همومه وأوجاعه، يسرني بآلامه وآماله، كم من سرٍّ دفنه في قلبي ورحل عنه، أنصت إليه وهو يحدثني، آخذ ما يراه وحده إلى ما لا يراه لحظتها، أنعطف بآرائه نحو جهة أخرى، لأريه فكرة، وشيئا آخر هناك، ثم يعود إليه رشده العاطفي ليذهب إليه بعقل يمحّصُ، ولا بأس إن صمت أمامي، وهزّ رأسه موافقا، أو متداخلا بشيء آخر، وإن تركته ليفكّر سيعود إلي بإيجابية أن فكرتي لم تكن خطأ، هو موافق عليها، كان يستشيرني، ولأن الاستشارة أمانة فعلي أن أدرسها معه من جميع جوانبها، إيجابا وسلبا، ولا بأس إن روّض لسانه بترديد كلمات من معجم قاموسي الخاص، صار سلام حافظا له، ويردد بعض جملي، ينسبها إليّ، لتظهر في صورة استعارة بين عبارة لفظية منصصة بين قوسين، ويعرف المعنى البعيد للكلمة، أما معناها القريب قد لا يقال، وهو وحده لا يستخدمه إلا في لقاءاتي به، أو في الجمع القليل، مع المقربين بيننا، إن فقدته أياما ومررت مكتبه سأقول له ” ها سلام ما شاء الله، أنت هنا، يعني بعدك حي، ليرد علي الله…” ثم نضحك كثيرا معا، لنأتي على الموت في أحاديثنا، نطالعه ويرانا، قد أسخر قليلا من فعل الغياب والتلاشي بالموت، لأخذ زاد يجعل الحياة أكثر احتمالا مع أوجاع من نحب، رغم أنف الموت ووجهه ورأسه، التهامات يجتهد فيها الموت كثيرا وبشراهة سرعة مجنونة؛ ليقطف روحا من هنا، ورأسا آخر من هناك، فليس أمامنا إلا أن نتقبّله مكرهين عليه، لأنه الأصل المنتظر.
كان سلام حكّاء، يشبه أولئك الذين يمكن الاستماع إليهم في جامع الفنا بمراكش، يحكي تجاربه وواقعه ومشاهداته، لم يكن يحلم بأكثر من بيت لأطفاله ( عامر ، ناصر، آية..) وقد حقق الله له حلمه بأخذ العزم نحو التوجه للبنك؛ ليتكفّل ببناء حميمية خاصة تشعر فيها الروح بالأمان.
سيبقى لي من روحه حكايات وأسرار، سأحتفظ بها، بعضها مؤلم حد القشعريرة، حكاية حول فكرة الخوف المسيطر على الإنسان، على من يعتقد أن رزقه بيد إنسان عابر مثله، عن الذين يشعرون أنهم مراقبون، من يدخل بيتهم، ومن يخرج من مكتبهم؛ لأنهم مهمون جدا في هذه الحياة، عليك أخي الإنسان أن تتخلص حالا من الوهم الذين تركته الحياة فيك، فلا أنت مهمٌّ، ولا أنا خالد، هكذا تكذب النفس الأمّارة بالخداع والضحك على بعض الذين شعروا أن لا يمكن للحياة أن تستغني عنهم يوما، خاصة في ظل أنهم قضوا شطرا من أعمارهم بعيدا عن الناس والواقع. من حكايا سلام ثمة حكاية عالقة في ذهني، غير قادر على التخلص منها إلا بالكتابة عنها وحولها، كم من مرّة حاولت ترجمتها لتكون مثلا قصة قصيرة فنّيا، وليست حكاية، يمكن ترجمة فكرتها بالجملة الأسمية ” أنا خائف/ أنا خوّافٌ” سردها لي وظللت في إعادتها أحاول حصر الخوف الهائل المحاصر لشخصيتها الرئيسة، تشعرني حكايته منذ سنين أنها في حاجة إلى إضافات كثيرة، بخلطة بهارات من واقعنا النفسي المهزوم والمهزوز على المستوى الفردي الخاص، حكاية تلك الدقيقة يمكن حصر فكرتها لتكون رواية الخوف، إن قدّر الزمن وكتبتها الأيام فللإنصاف يمكنها أن تطير للقارئ بإهداء ممهور إلى سلام الصارمي.
في سلام وجدت شيئا من صورتي وصوتي، أحببت فيه البراءة والصدق، مسكون بالخوف، لحد الترديد المبكّر للموت، استطعت معه في كل شيء، عدا في انتشاله مما كان فيه، في العيد الماضي اخترته من أوائل الذين كلمتهم في الصباح، مرت أيام الحجر المنزلي أتذكره، كلما شدني إليه شوق كلمته، أشدد من أزره، أحاول أن أجعله قويا متماسكا، يخذلني بالشكوى، أعاتبه ويقبل عتبي بمحبة، كان يعرف أني أحبه كثيرا، ويسمح لي بإخراجه مما هو فيه بطريقتي الخاصة.
في السنة الأخيرة عقدت معه اتفاق تحديد زمني لوجبة الغداء، افترضنا اللقاء بعد الواحدة والعشرين دقيقة ظهرا لوجبة الغداء، يأتي من مكتبه في العمليات، أخرج إليه من المكتبة، يحدث أن يتقدم أحدنا الآخر، كل حسب ظروفه، في الغالب نحرص أن نلتقي، وقد لا يكون اللقاء؛ لظرف وجوده في المستشفى مثلا، مراجعا أو منوّما، خاصة مع بدء مرحلة ما بعد غسيل الكلى، قبل أن يتم تأهيله بالغسيل الذاتي في السنة الأخيرة.
نحن من يؤثث وجبة الغداء، الأحاديث بيننا سلطتنا الخضراء، أما المقالب الشقيّة فإنها الزاد الأبدي لتأصيل المؤصّل فينا، يستحملني كثيرا في قفشاتي، يستحمل أرائي، ينصت إليها، يحاور، وفي الغالب يقتنع، ليصل إلى القول ” فعلا كلامك صحيح..”.
في جلستنا الخاصة يقول بكرمه المعهود أنك غيّرت فيّ مفاهيم كثيرة ورؤى جديدة، كنت قد فتحت له فكرة القراءة، أعطيته من الكتب ما قد سمحت له ظروف الزمن بالقراءة، لعلي أخفقت في اختيار بعضها في بدايات معرفتي به، أذكر رأيه مرة عن كتاب قديم أعطيته ليقرأه، كان كتابا في التاريخ السياسي لعمان، وجد فيه نفسه؛ لتقاطعه مع واقع مكانه وزمانه.
سلام ابن قريته، تهمه أمطي كثيرا، مهتم بأبنائها، بتوعيتهم ثقافيا واجتماعيا، بالسعي إلى افتتاح مكتبتها مع نخبة من أبناء القرية، بالمشاركة دائما وبجمع التبرعات من الخيّرين، ظل هكذا، ومعه ظللت أأمل النفس بتلبية دعواته لي، في المشاركة ولو مرة بفعالية في مكتبة قريتهم، إلا أن الأيام لم تأت بتلك الفرصة، ليدخل في الزمن إلى المرض، بداية من أمراض العصر، وأجزمها وراثيّة، إلا أنها معه وجدت نفسا سمحة؛ فتمادت كثيرا معه، لتتسلل إليه، تنخر هنا وتفتك هناك. هكذا عبرت أيامه في سنواته الأخيرة، ولأن الله يحبه فقد تسلل إليه ملك الموت في صباح الجمعة، ليوقف الحياة في أيام الحج الأكبر، وهو الذي اعتمر كثيرا وحج، وكم قضى العشر الأواخر من رمضان يرجو رحمة ربه، قبل أن يترك الدنيا بذكريات جميلة، في عمر قصير.

أدب التاسع بعد المئة

عن الكاتب

حمود حمد الشكيلي