قدّم أفلاطون المستعْمِل على الحِرفي الذي يصنع حاجات البشر. وجاء الفنّان في آخر القائمة، لأنّ معرفته بالشيء المصنوع لا تتعدّى مظهره الشكلي.
يأتي هذا الترتيب من نظرة أفلاطون الغائية، فمستعمِل الشيء المصنوع، هو الوحيد من هؤلاء، الذي يستخدم الشيء وفق الحاجة/ الغاية، التي صُنع من أجلها. في حين الصانع مجرّد مأمور يصنع لحساب غيره، وحاجات غيره. فلا يوجد لصنعته من غاية تخصّه هو، بل تخصّ غيره. ومن خلال هذه النظرة الغائية يخرج الفنان من دائرة المستعْمِل ومن مجال الحرفي أيضًا، ففنّه نافل لا قيمة له، فهو لا يولّد شيئًا بفنّه، ولا يلبي حاجة استعمالية. فلا هو وسيلة كالحرفي، ولا غاية كالمستعْمِل.
ينظر الإغريق إلى النقود كما ينظرون إلى الحرفي، فهي قد وجدت تلبية لغاية خارجة عنها، وإنْ كانت تعدّ قيمة تمثيلية للبضائع والسلع؛ فلا يمكن النظر إليها حتّى كبضاعة.
هذه النظرة تغيّرت مع الوقت، وخاصة مع نمو النزعة المركنتلية/الاتجارية؛ وقد عرّفها معجم المنجد في اللغة العربية المعاصرة بأنّها “نزعة للمتاجرة من غير اهتمام بأيّ شيءٍ آخر” . ظهرت المركنتلية ونظّر لها في القرن السادس عشر الميلادي، لكنّ إرهاصاتها الأولى قد ظهرت مبكرًا في بلاد الإغريق. ولربما نجد في هذه النشأة الغامضة للنزعة الاتجارية السبب في الترتيب الأفلاطوني المذكور آنفًا، والأهم من ذلك مقولة المسيح في إنجيل لوقا: “لا يَقْدِرُ عَبْدٌ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّين. فَإِمَّا يُبْغِضُ الوَاحِدَ وَيُحِبُّ الآخَر، أَو يُلازِمُ الوَاحِدَ وَيرْذُلُ الآخَر. لا تَقْدِرُون أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَالمَال” وأخير الآية القرآنية: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا”.
عندما فكّ الرباط بين الآلهة والطبيعة:
ظهرت الطبيعة بشكل شبه مجرّد مع حكماء من مثل تاليس وأناكسيمانذريس، ومعهما بدأ التكلّم عن السماء والأرض والنار والماء، لا كتمظهرات – على الترتيب- لزيوس وجيا وبوسايدون وهيفستيوس. هذا التجريد لم يكن كاملًا، فدومًا كان ينظر إلى الميتافيزيقي من خلال الفيزيقي/ الطبيعي، وكأنّنا أمام العلاقة بين المستعْمِل والصانع.
إنّ الحركة الأولى التجريدية الكبرى في الفلسفة الإغريقية ابتدأها بارمينيدس الإيلي، الذي نظّر لكائن واحد لا مرئي مفارق للطبيعة وإن كان خالقها. نستطيع أن نجد أصداءها الواسعة مع سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثمّ في الأديان التوحيدية.
مع بارمينيدس كما يذكر جان بيار فرنان، أصبح التعبير عن هذا الكائن بالمفرد وليس بالمتعدد، فالحكماء الإييونيين -نسبة لمدينة إيونية في آسيا الصغرى على ساحل المتوسط -تاليس وأناكسيمانذريس؛ كانا ينظران إلى الطبيعة بتعدّدية تؤدي إلى تعددية الكائن الماورائي، فلدى الإغريقي لم يكن من مشكلة الانتقال من المفرد إلى الجمع والعودة إلى المفرد. فالتحدّث عن آلهات الجمال وإلهة الجمال هو الموضوع ذاته جوهرًا وشكلًا.
أصبحت فكرة المجرّد المفارق للطبيعة كما عند بارميندريس أو المفارق الحلولي –إن صحّ القول- عند تاليس وأناكسيمانذريس مقبولة جدًا، وخاصة مع ظهور المدينة وتقسيماتها والحالة الديموقراطية، التي تسمح لأفرادها الأحرار بالتعبير عن أفكارهم.
لكن لا بدّ من القول: إنّ الفرد في المدينة لم تكن فرديته كاملة، فما زالت المدينة ذات بعد ألوهي، والعبث بمبادئها وأفكارها قد يكلّف المتكلّم حياته، كما حدث مع سقراط.
من خلال هاتين الخطوتين: التجريد والمدينة، ولدت فكرة النقود التي تمثّل كلّ البضائع والأشياء ممّا أدّى إلى انبثاق النزعة الاتجارية، التي صفّق لها فيلسوف السفسطائية بروتاغوراس، صاحب المقول المشهور: ” الإنسان مقياس كل شيء”.
يسرد هيرودوتوس في تاريخه بأنّ ملوك ليديا في آسيا الصغرى، هم أول من سكّ النقود وكما رأينا سابقًا أنّ الحكماء الإييونيين هم أول من درس الطبيعة بعيدًا عن تمظهرات الآلهة بشكل مباشر. فهل لنا أن نقول: إن التجريد الميتافيزيقي وسكّ النقود من ذات الأرومة الفكرية؟
التوأمان؛ الإله المفرد الأوحد والمال:
يؤكّد ريجيس دوبريه على أهمية علم الإيتمولوجيا/ علم أصول الكلمات، في الكشف عن التاريخ المختبئ عن أعيننا في اللغات القديمة. هذا المذهب البحثي عرض من خلاله جان بيار فرنان الجذور المتشابكة بقوة بين التوحيد والنقد.
إنّ الكلمة التي تدلّ على كلمة فائدة المال (الرِبا) في الإغريقية، تعطي معانيَ أخرى: (خلق، ولد) وهي تماثل بين منتَج رأس المال ونتاج الماشية، التي تتكاثر على فترات فصلية، كذلك كانت فائدة المال تدفع كلّ إقمار/ أول شهر.
كذلك نجد أنّ كلمة (الجوهر الفرد) في الإغريقية، تشتكل مع معنى (الثروة) ونضيف كلمة أخرى هي (الأشياء/ الواقع كليّة) تفيد معانيها الأملاك بشكل سيولة نقدية.
هذا الخلط في دلالات الكلمات دفع أفلاطون وبارميندس وأرسطو للردّ عليها، فالمشكلات التي سببتها النزعة الاتجارية في المدينة الإغريقية، دفعت الفلاسفة للتصدي لها، وتبيان الفروقات الحاسمة بين التجريد الإلهي والتجريد النقدي.
إنّ نمو الاقتصاد الاتجاري كان له الأثر الكبير في ظهور طبقة من الأغنياء، لعبت دورًا مهمًا في بنية المدينة في اليونان، حتّى إنّنا نجد التأثير السلبيّ على الأخلاق من خلال شعر صولون وثيوغوني اللذين صورا المأساوية في الوضع الجديد الذي أفرزته نزعة الاتجارية، حيث أصبحت الثروة النقدية من ذهب وفضة قادرة على على صناعة الإنسان بعيدًا عن الفضيلة؛ ممّا جعلَ مفهوم الفضيلة والأخلاق يهتزّ بقوة حتى كاد يتداعى.
يقول فرنان: “الاستعمال الجديد للنقد لدى الإغريق، أنتج مفهوما مجرّدًا للقيمة”. هذه النتيجة دفعت أرسطو للردّ عليها، فإذا كانت الثمار نتيجة للأشجار وفق قانون الطبيعة، فالنقود التي تنتج نقودًا تعدّ معاكسة للمذهب الطبيعي الذي يهدف إلى الفضيلة والأخلاق. وفي الوقت ذاته يحذّر أرسطو من نقل المفاهيم من مجال إلى مجال بشكل آلي، لأنّه سيسبب الكثير من المشاكل. ويضيف أرسطو بأنّ ما يحدّد ماهية شيء، هي قيمة استعماله، أي الغاية التي أنتج من أجلها.
يعرض فرنان رأي ج، تومسون الذي يقرّ بوجود رابط مباشر بين أهم تصورات الفلسفة (الكائن – الماهية- الجوهر) والقيمة المجردة للنقد التي أصبحت تمثّل كلّ شيء.
ذكرنا سابقًا رأي بروتاغوراس: “الإنسان مقياس كلّ شيء” وبما أنّ النقود هي اختراع بشري فمن الممكن التصوّر أن تكون معادلًا لكلّ الأشياء. لربما هذا الرأي هو الذي دفع أفلاطون إلى توصيف الإنسان ذي النزعة الاتجارية بأنّه ينحدر لمستوى أقل من الكائن البشري.
لا يوافق فرنان على ما ذهب إليه ج. تومسون. وإذا تذكّرنا رأي أرسطو بالنسبة لاستعارة المفاهيم وتبادلها بين مجالات متعددة كم هو خطير لا بدّ أن نختم هذه الفقرة بوجهة نظر بارمينيدس التي تؤكد على مفارقة الكائن الأسمى، الجوهر الفرد، لهذا العالم، وأنّه لا يقبل القسمة ولا التعارضات، التي أثبتها حكماء إيونيا: الحار ضد البارد والجاف ضد الرطب. إنّ التجريد الذي قام به بارمينيدس مختلف تمامًا عن تجريد النقد، ومن ثمّ اعتباره معادلًا لكل القيم.
الوسيلة لن تكون غاية:
الآن نستطيع أن نتخيل السبب الذي دفع بأفلاطون لوضع التراتبية بين المستعْمِل والصانع والفنان. إنّ الغاية التي تسمو على الشيء المستعمَل عند المستعمِل هي التي تميّزه عن الصانع، الذي يشبه تمامًا النقد، فهو مجرد وسيلة، أمّا الفنان، فهو مزوّر عملة، تفتقد للغاية وحتّى للوسيلة.
تأثرت اليهودية والمسيحية بالثقافة الهلنستية والرومانية اللتين نقلتا هذا الصراع بين المجرّد الإلهي والمجرّد النقدي إلى ساحة الديانتين. ولاريب أنّ المسيح عندما دخل المعبد، ووجد الصيارفة يمارسون الرِبا، هجم عليهم وصرخ بهم أن لا يحوّلوا بيت الله إلى بيت لصوص.
لقد وصف المسيح المال، بأنّه ربّ ينافس الأب الذي جاء من قبله. وهذا الربّ النقدي يملك الكثير من تجريد الله وتنزيهه على عكس من البعليم وعشتاروت اللذين كانا محور الصراع الديني للتوراة، فلم يكن وقتها قد تطوّر المفهوم النقدي لهذه الدرجة من التأثير والقوة. في ذلك الزمن كان مجرّد وسيلة لتسهيل التبادل السلعي لا أكثر ولا أقل، لكنّ في زمن المسيح كان النقد قد أصبح إلهًا أكبر من البعليم وعشتاروت، اللذين انقرضا أمام التجريد الذي قاده أنبياء التوراة.
لا يختلف الإسلام في نظرته للرِبا عن المسيحية، فكلّ منهما واجه هذا التحدّي الجديد لإله النقد، فالنظر للمال يغل مالًا، لهو معجزة ما زالت البشرية تعيش تحت ضرباتها القاسية.
البيتكوين التجريد النهائي:
يذكر الفيلسوف آلان دنو في كتابه “نظام التفاهة” عن تلك الجنّات الضريبية التي صمت عنها النظام المالي العالمي، لترحّل إليها الأموال، كي تهرب من الضرائب. ويتكلّم كم هي البنوك وحوش مستترة، تحت أقنعة التنمية والحضارة والثقافة. هذه القوة الناعمة للبنوك التي تطال أذرعها كلّ مكان، بمكان ما، إضافة للجنّات الضريبية، هي من سهّلت تبنّي مفهوم العملة المعمّاة/ بيتكوين وأشباهها، للتهرّب من سلطة المال المسيّسة، وتبييض الأموال المشبوهة المصدر، هذا من جهة ومن جهة أخرى، لتكون كحصان طروادة في نظر المستخدمين لها، كحصان نصرٍ قدّمه الإغريق لشعب طراودة بسبب صمودهم الأسطوري، لكن في الحقيقة ستكون الضربة القاضية لطروادة العمال.
ظلّ الذهب الملجأ الوحيد، حينما تنهار النظم الاقتصادية، لكن عندما يختفي الذهب بوصفه قيمة رمزية للعملة، وتقف العملات المعمّاة كالإله ؛غائبة حاضرة، فمن هو الذي سيكون مؤمنًا اقتصاديًّا؟ الجواب لن يكون أحد مؤمنًا، وستكون شريعة الغاب هي شايلوك النقد.
ولكي لا نكون متشائمين، فلنسخر من الغاية، التي تهدف إليها شركة مايكروسوفت من التقدّم للحصول على براءة اختراع يقوم مضمونها على استخدام الموجات الدماغية لمستخدمي الإنترنت لتعدين العملات المعمّاة!
عندما حدث الكساد الكبير في ثلاثينات القرن المنصرم، وكذلك إبّان الفقاعة العقارية في أوائل قرننا هذا، ذهب المودعون إلى البنوك، فلم يجدوا أموالهم، لأنّ البنوك أعلنت إفلاسها. ولو كانت البنوك في زمن أرسطو وأفلاطون لوضعوا الإفلاس كأحد نواقص التجريد النقدي في مواجهة النزعة الإتجارية لدى الإغريق، ودعمًا للفصل بين المفاهيم التي تخصّ التجريد الإلهي والنقدي.
في لحظتنا الحاضرة يدفع رأس المال بقوة، كي يتم إنهاء الحجر الصحّي بسبب فايروس الكورونا، محذرًا من تداعيات هذا الحجر الذي سيؤدي إلى انهيار الاقتصادر العالمي. ماذا نستطيع أن نفعل نحن الذين طُحنا بسبب الفايروس ورأس المال؟
بورشيا الذكية: في مسرحية تاجر البندقية يشترط شايلوك على أنطونيو إن لم يقم بسداد الدين، بأنّه سيقتطع كيلوجرام من اللحم من صدره. يقبل أنطونيو بهذا الشرط، لكنّه لا يلبث أن يتخلّف عن سداد الدين، فتهرع بورشيا لإنقاذه، وتشترط على شايلوك أن يقتطع كيلوجرام بالتمام، لا يزيد حبّة ولا ينقص حبّة. وهنا يجد شايلوك نفسه قد فقد الرهان، ويخسر نهائيًّا انتقامه من أنطونيو. ينصّ قانون جوستنيان الروماني على أنّ الدائن يحقّ له أن يقتطع من لحم المدين الكمية المتفق عليها، ولا يهم إن زادت أو نقصت. وهذا النص كان سيسمح لشايلوك أن ينفذ انتقامه لو علم به.
مرّ عيد العمال، وهم في الحجر الصحّي، فيما الذكاء الصنعي والروبوتات على أهبة الاستعداد للانقضاض على الحرفي الذي ازدراه أفلاطون، لينقذ نظرية المحاكاة، ويدحض ربّ المال، الذي رفع العصا السيد المسيحُ بوجه مريديه، وحرّم نسله القرآن الكريم، لكن كلّ ذلك لم ينفع. رأس المال – الآن- يصبح أكثر تجريدًا، كإله مفارق، كإله بارمينيدس، فهل تنفع صرخة ماركس: “ياعمال العالم اتحدوا” مع بورشيا.