يوم أن تحطمت الأبواب

كتب بواسطة مصطفى شلش

إلى جميع الذين تحطمت أبوابهم، ولم يعد بإمكانهم أن يواربوها أو يدفعوها أو يزيحوها، إلى أولئك الذين يحملون مفاتيح لم تعد لها أبواب، إلى أولئك الفضوليين الذين كانوا يسترِقون السمع عند الأبواب ثم يطرقون عليها، إلى جميع الفضوليين المنحنين عند ثقوب الأقفال، وإلى مقتحمي الأبواب ليلًا أو نهارًا لتخلّص مِن مَن خلفها، إلى المراهقين الغاضبين الذين يجعلون أطر الأبواب تنفجر من شدة إغلاقهم، إلى كُل عبارات “تفضل”، وإلى عبارات “مِن بعدك”، وإلى عبارات “ممنوع الدخول”، إلى معاناة طالبي ودائعهم البنكية على أبواب السادة المُحاسبين، إلى اللاجئين عند أبواب السادة ضباط الإقامات، إلى أولئك الذين كفوا عن فتح أبوابهم، لأنه لم يعد هناك أبواب في بيروت منذ يوم 4 أغسطس/ آب 2020، في حوالي الساعة 6 مساءً بالتوقيت المحلي. فقررنا أن نحكي لكم عن “الباب – مقاربة إثنولوجيّة” قدمها باسكال ديبي وترجمتها رندة بعث وصدر الكتاب عن هيئة البحرين للثقافة والآثار.
يخبرنا باسكال ديبي أن أسلافنا قد بذلوا كل جهدهم ليتقوا البرد، وليتجنبوا أن يهاجمهم لصوص أو أعداء من قبائل أخرى. ولذا صاروا يفكرون في وسائل للحماية. ومن الظهور الأول للرجال العاقلين على سطح الأرض راحت فكرة الحماية تشكل شاغلهم الأول وتضمن لهم تطورًا مهاريًا وسلوكيًا خاصين، نتج عنها خلق واستخدام فضاء منزلي مُفترض للحياة ومزود بفتحات للدخول والخروج وقابلة للإغلاق. ومنذ (17 ألف ~ 10 آلاف سنة قبل الميلاد) عرف الإنسان العاقل التنظيم المكاني عبر تحديد حدود المسكن وتنظيمه من الداخل، وتعامل مع الطبيعة بإيجابية شديدة؛ فصنع فتحات تهوية، وفي الوقت نفسه تمنع تدفق مياه الأمطار إلى منزله، وصنع غالبًا مخرجين للمنزل أو ثلاثة مخارج “شمال” و “غرب” و”شمال غرب” ويمكن هذا نتيجة أن الإنسان العاقل الأول كان يواجه خطر الحيوانات المفترسة الأكبر حجمًا والأكثر قوة، ولهذا كان على استعداد دائم للهرب.
ومع مرور الزمن، وبدراسة العصر الحجري الحديث (9 ألاف ~ 3 ألاف قبل الميلاد) نجد الإنسان العاقل طور منزله وأثقل جدرانه وحدد فتحات الدخول والخروج بشكل أكثر دقة وعمل على تمتين الأبواب بالأعمدة، وهذا يبدو واضحًا في تصميم “البيت الدانوبي المخطط” وهو يعود لفلاحي وسط أوروبا وغربها. بقيت الأمور هكذا ولم تشهد تطورًا كبيرًا في الأبواب المصنوعة من الخشب والطين خلال العصر الحديدي، أي قبل الميلاد بألف عام، وقبل بداية العصر الروماني.
لم يكن تاريخ الأبواب في مصر الفرعونية القديمة بمثل هذه البساطة الأوروبية، فقد كانت الفرعونية حضارة “عبور الأبواب”، فـ “الباب” لعب دورًا عظيمًا في الشعائر الدينية، وبدا واضحًا في الأهرامات الملكية التي بلغت أربعين هرمًا، فكانت فتحة الدخول لا تواجه أي عوائق لتسهيل مرور روح الملك المتوفى إلى الإله “رع، أو غيره من الآلهة”. وفي داخل الأهرام نجد سراديب وأبوابًا تسمح بالمرور لمقصورات مخصصة للأثاث والكنوز الملكية التي كانت في حاجة دائمة للحماية من اللصوص. وكانت أبواب الحجرات الملحقة بالمقابر الملكية تُزين بمهارة بالغة بنقوش دينية، تقدم الملك الراحل وهو يقوم بالشعائر الرمزية.
وجدت الأبواب في مصر الفرعونية لدى أكثر الناس ثراءً وفي المعابد، وكان يتم حماية هذه الأبواب بنقوش هيروغليفية منقوشة ومرسومة على أطرها، وهذا ما يتعلق بالباب المادي، بينما شهدت الحضارة المصرية فكرة الأبواب الرمزية، وكانت لتلك الأبواب أهمية كبيرة في عالم الموتى. حيث يحكي كتاب الأبواب وهو كتاب ينتمي للأدب الجنائزي ويعود للأسرة الثامنة عشرة أي لعام 1580 قبل الميلاد عن رحلة الإله رع لأسفل الأرض ويتغلغل في عالم ليلي يتوزع في إحدى عشرة منطقة، وتُفتح باثني عشر بابًا. إنها بوابات هائلة تحدد مختلف مراحل رحلات القارب الشمسي وتشير إلى عناصر أساسية في المعبد والقصر الملكي لمصر الفرعونية. وفي الوقت نفسه تجسد ساعات الليل وتحرس البوابة الأولى من ثعبان عملاق مهمته فتح البوابة للإله رع وحاشيته لينتقلوا للعالم الآخر، ثم إغلاقها بإحكام خلفهم، ومنع أي دخلاء من العبور، حتى لا يبثون الإضطراب في نفس الإله أو التلاعب بالزمن حيث الإحدى عشرة بوابة الأخرى كانت ترمز للوقت وتقسيمه للساعات ولأشهر السنة.
شكل الباب في الحضارة الفرعونية والبابلية (مثل باب عشتار) واليونانية (مثل الباب المسيني وباب هادريان) وسيلة مضمونة لعبور الحدود الثلاثية السياسية والدينية والمشهدية دون مخالفات قد تصبّ على الإنسان غضب الآلهة أو تسمح لهمج العبور للحضارات الراسخة فيدمرونها. كانت الأبواب بمثابة حدّ فاصل بين عالمين همجي ومدني، دنيوي وأخروي، أرضي وسمائي. ولا نستطيع تبعًا لذلك إلا أن نقدم فكرة الأبواب والمرور من خلالها دون أن نحترم الطابع المقدس التي تلعبه الأبواب خصوصًا على تخوم المدينة والمدنية، فالمسائل السياسية والقانونية التي سيفرضها تطور الأبواب ستجعل البشرية على موعد مع المدينة، وربما بشكل ما أو بآخر موعد مع الحضارة.
كما أوضحنا أن التاريخ الأول للأبواب ارتبط بالمقدس الديني، فالنقلة الثانية للأبواب ستجسد تطور الحضارة الإنسانية التقنية. وحدد ديبي العصر الوسيط بأنه كان نقطة التحول حيث لعب تنظيم المدن، وتشييد المساكن دورًا كبيرًا في راحة الإنسان وتمتعه بقدر كبير من الاستقلالية، ويمثل فيه الأبواب سهلة الفتح والإغلاق، المتينة والخفيفة في آن بتدعيم شعور الأمان المساوي لشعور الباب الروحاني القديم.
تعزز الأمان الإنساني بثورة تقنية شهدها العام 1165 عندما ظهر لدى قبيلة الدوغون في مالي المشهورة بعمارتها ومنحوتاتها الخشبية ما سيعرف مستقبلًا بـ “القفل”، وهكذا كان الإنسان على موعد مع ظهور حرفة جديدة وهي صانعو الأقفال التي قدمت منذ العام 1260 تحسينات كبيرة في صناعة الأبواب، ومنذ هذه اللحظة كان بإمكانية الإنسان أن يحشر متعلقاته وأغراضه خلف باب ويحصنه ولا يشعر بأي حاجة لمن يحمي ظهره. وستتحول صناعة الأقفال إلى فن قائم بذاته، بل أكثر من ذلك ستتحول إلى غاية وهي “التحصين”.
في تلك الازمنة الجديدة، والمقلقة التي صار البحث فيها عن أنظمة إغلاق غير التي عرفها الماضي من الاعتماد على كتيبة جنود لحماية أي غرض ثمين، صار هناك استبدال للكتيبة بحارس الباب، أو حامل مفاتيح القفل منذ العام 1174. هذه المهنة ستطور الشعور بالخصوصية الإنسانية والفردية حتى في الأديرة المسيحية. وسيصبح الجميع على موعد مع حمل مفتاح واحد على الأقل في جيبه حتى بلوغ القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي سيرمز إلى سلطة الأبواب. حيث ستظهر الأبواب المصحوبة بجرس، والأبواب الخفية، والدوارة، أبواب السجون…إلخ. كانت الأبواب تتحول سريعًا مع العصر الصناعي إلى جزء مما يسميه ديبي بـ “عمارة الرعب”، لذا يشير إلى كتاب تاريخ المنتفعات لـ “روجيه هنري غيران” إذ يتحدث الأخير عن التضييق الشديد لأبواب القرن التاسع عشر، حين اكتسبت الأبواب الرعب البرجوازي وصار البشر الطبيعيون مهوسين بإخفاء كل شيء ولديهم هاجس عدم مشاركة الأسرار مع أيٍّ مَن كان، مِن أبناء أو عائلة أو أصدقاء. وصارت اللياقة تحدد غرفة تزيين مُغلقة داخل محيط السكن تكون بمثابة إبعاد عن المسرح العائلي وإعادة نظر في الطغيان المنزلي العذب الذي صار يدركه أهل البيت ويقبلونه. كما أن إغلاق المرء على نفسه وإبعاد الغرف عن نظر الجميع واستبعاد الآخرين من عوالمنا الذي كان مِن المعتاد قديمًا أن نتشارك فيه سويًا مِن أجل الدعم أو النجدة أو المرح أو الاحتفال أو الحزن سويًا أديا إلى قطيعة جذرية في أسلوب عيش الأسر والعائلات والقبائل والمجتمع ككل، وهذا جعل حياة الفرد فقيرة، متوحدة.
من السخيف أن أخبر مواطنًا في بيروت طار بابه وتحطمت نوافذه جراء انفجار نتج عن فساد مُستشرٍ في البلاد أن تفكك الأبواب له معنى أو غرض، ولكن تاريخ الأبواب، فيه عزاء للنفس وفرصة للتعايش مع المحيط من الأسرة والعائلة والجيران وللانفتاح على الآخر، ولكسر حواجز تعرفها بيروت من فساد وطائفية وحزبية مقيتة، يمكن أن يكون انهيار الأبواب وسيلة ليتفق الناس فيما بينهم على حلول. يذكر مؤسس علم النفس التحليلي سيغموند فرويد أن في الحياة النفسية لا شيء مما تشكّل ذات يوم يمكن أن يموت، وكل شيء يبقى محفوظًا بطريقة ما، ويمكن أن يُستدعى للظهور ثانية في ظروف مناسبة بفعل نكوص يمضي بعيدًا إلى حد ما. لذا إن مدينة بيروت ليست سكنًا للبشر؛ بل هي كائن نفساني له تاريخ طويل وغني على نحو مشابه لماضي ساكنيها، حيث لم يختفِ شيء مما ولد فيها في أي يوم، ولا تزال توجد إلى جانب الطور الأول للخراب كل مراحل التطور السابقة، إن أبواب منازل بيروت قد تطايرت ولكن يمكن أن تكون فتحت أفقًا جديدًا للمدينة وللبلد مِن أجل أن يعود ثانيًا للحياة.

العاشر بعد المئة سياسة

عن الكاتب

مصطفى شلش