عبور

كتب بواسطة أميرة الشحية

تقول فاطمة: الفكرة التي تنجو من التلاشي على سطح الماء،، ستمسي حجراً في قاع قلبك القارب.

رأس الشيخ مسعود- أقصى الشمال:
أدّعي أنني ركبت القارب لأول مرة عندما كنت في الخامسة من عمري، وإلى هذه اللحظة، أستعيد نفس الهلع الذي أثاره فيّ اهتزاز قارب أبي وأنا أخطو عليه خطوتي الأولى، يتشكل هذا الهلع في هيئة كوابيس كلما مررت بأزمة قلق، أجدني أتهادى في قارب، لا يهمني الوصول إلى اليابسة بقدر محاولاتي في النجاة من الغرق، وغالباً لا أتذكر كيف انتهى الحلم.
في مونولوجٍ أخيرٍ يليق بهواجسي تجاه الوقت، استطعت أن أعبر في أشد أحلامي منطقيةً، وأنا أنظر إلى ساعة يدي اليمنى؛ لأتحقق أنني عبرت بين ضفتين خلال عشر دقائق.
عثرت بالصدفة على صورةٍ قديمةٍ لي وأنا أبتسم، كنت في الثالثة من عمري أجلس مجاورةً لجدتي لأمي، حليمة الحليمة. والتي كنت أدَعي أنني لم أعاصرها كذلك. يظهر في الصورة كل من أعرفهم في حارتنا القديمة. أخبرتني أمي أننا أبحرنا جميعا في لنجٍ كبير لزيارة ضريح الشيخ مسعود وتقديم النذور، في طقسٍ جماعي سنوي. ولحظتها استعدت ذاكرتي عن ذلك المشهد المرعب الذي رأيت فيه جدتي آمنة، تختنق من رائحة البخور الذي كان يملأ ضريح الشيخ.
العبور من إفريقيا:
قد نتساءل، بماذا فكر أول شخص قرر أن يكتشف ما إن كان هنالك ضفة أخرى؟ هل أدرك أسلافنا أن للمدى الأزرق الممتد من الشاطيء إلى الأفق نهاية؟ كيف قاوم أول إنسان خوفه من جهله بما وراء الأفق؟ هل كان شخصاً واحداً أم مجموعة؟ هل أبحر نحو اللانهاية أم كان ينوي العودة؟
يصعب تحديد متى حدثت أول مغامرةٍ للبشر بعيداً عن اليابسة، إلا أن البقايا الأثرية المادية في الجزر تشير إلى أن أول محاولات الإنسان لركوب البحر قد تعود إلى نحو 60000 سنة من الآن، عندما حط السكان الأصليون على أرض استراليا التي وبالتأكيد كانت غائبة عن مرآهم، قادمين من جزر أندونيسيا عبر مضيق فلورس، فيما يتفق معظم المختصين أن الخروج الكبير لأسلافنا من إفريقيا كان عبر مضيق باب المندب؛ بوابة الانسان القديم نحو أرضٍ أخرى.
كل ما يجزم به علم الآثار، أن الإنسان ولفترة طويلة، لم يخاطر بعبور البحر والوصول إلى ضفةٍ أخرى. بل اكتفى بجمع والتقاط ما يلقيه البحر على اليابسة ( كلوزيو وتوزي، 2012). وفي لحظة ما قرر أن يبحر على جذع شجرةٍ، وبعدها تطورت أشكال الطوف والمراكب على مر العصور. نجح الإنسان في رسم خرائط الماء، وتتبع النجوم، وحركة الموج والرياح.
من البليدة إلى السيب:
على طول ساحل الباطنة ينتشر أحد أكثر أنواع القوارب بدائية، وهو قارب الشاشة، والذي يستقطب اهتمام شريحة كبيرة من الباحثين في مجالي التاريخ وعلم الآثار البحري، يصنع هذا القارب من مواد أولية محلية، حيث تصنع الشاشة من حزم سعف النخيل ويملأ بلحاء، وألياف النخيل، وجوز الهند، ويتم ربطه وتثبيته باستخدام حبال جوز الهند، وخشب السدر عن طريق الخياطة، وليس باستخدام المسامير، الجدير بالذكر أنه على الرغم من بساطة تكوين هذا القارب إلا أنه يمتلك مرونةً عاليةً في مواجهة أمواج البحر. وبالمقارنة بأنواع القوارب النهرية، والمصنوعة من القصب حول العالم؛ نجد أنه يمتلك نفس التكوين، والإمكانيات، كما أنه يجفف بنفس الطريقة التي يتم بها تجفيف القوارب النهرية بعد استخدامها .
في مقاربة لتحديد أصل هذا القارب حول الخليج العربي يطلق عليه أهل البحرين اسم “الفرتة”، ويظهر على أحد الأختام الدلمونية، أما في الكويت فيطلق عليه “الوارية” ، وفي قطر يطلق عليه “هورية”، وفي العراق يطلق مسمى “الشاشة” على نوع من القوارب النهرية المصنوعة من القصب والتي تقطع مسافات قصيرة، كما يوجد شبيه آخر للشاشة لدى عرب السبخات يطلق عليه الطرادة؛ لكنه مبطن بالقار (آلبرتوس، 2009).
يقترح آجيوس كذلك أن “الوارية” الكويتية و”الفرتة” البحرينية هي تطور لفظي “للوالجية” أو “الولاجية” التي تعود إلى القرون الوسطى، والتي وردت لدى المقدسي عام 1906م، كما يرى أنها أخذت من لفظ “فارجي” أو “فارجة” الايرانية والتي شاهدها رواند في صور .
وفي دليل الخليج للوريمر يرد ذكر للشاشة؛ كما أجرت جامعة دورم مسحا لأعداد الشاشة وانتشارها على ساحل الباطنة عام 1978. ويشير دونالدسون أن الشاشة هي إحدى القوارب الأساسية المستخدمة في الصيد إضافة إلى مركبي الهوري والبدن قبل ستينيات القرن الماضي، ولمن يصيبه السأم من هذا السرد التاريخي أود أن أقول، أن صديقي نوربرت الألماني ذا السبعين عقدا، والمولع بقارب الشاشة- قد أتى من بلاده ليتتبع أثر هذه التحفة البسيطة في تكوينها، والعميقة في تاريخها.
في عام 1963 مُنح أحد تجار مطرح رخصة لاستيراد المحركات مما أدى لإدخالها على قوارب البدن، وسرعان ما اعتمدها سكان العاصمة لقدرتها على الوصول إلى أماكن أبعد، هذا بدوره أدى إلى اكتساح قارب الهوري المزود بمحرك لساحل الباطنة في بداية السبعينيات حيث استبدل بقارب الشاشة.
عدت أنا في العام 2019؛ لأحصي أعداد الشاشة. حيث خطفت بالمعنى الحرفي للفعل والكلمة على ساحل الباطنة بدءاً من أطراف البليدة -بأقصى شمال شناص- وانتهاءً بشواطئ السيب، بعيداً عن الانخفاض الهائل في أعدادها، ففي كل قرية ساحلية كنت أزورها، كان التحول في نمط حياة الصيادين وعائلاتهم جلياً، بسبب مرور خط الباطنة الساحلي؛ ابتعد البعض مسافة لاتزيد عن 80 متراً؛ إلا أن هذا الابتعاد والإبعاد قد نال من طريقة الحياة بمجملها. تقول لي صديقتي: أن جدتها متعبة منذ انتقالهم إلى غرب الشارع، وأن عافيتها تعود فقط عندما تعود إلى الساحل، وفي هذا الصدد يُعنَى علم الأثنواركيولجي -علم الآثار الحي- بدراسة الثقافات الحية، فيراقب اضمحلالها الهادئ، ويرصد تحولها إلى أثر. وقياسا على ذلك يتم تركيب أحجية التاريخ المفقودة.
من مسقط إلى سنغافورة:
قريبا من ساحل جزيرة جاوة بأندونيسيا تم اكتشاف حطام سفينة مغمور تحت المياه في العام 1998، ضم حطام السفينة كنزاً يحوي ما يقارب 60000 قطعة من الأواني الذهبية والخزفية. اطلع توم فوسمر عالم الآثار البحرية الأسترالي على حطامها وقرر أنه حطام سفينة عربية، قد أبحرت، بلا شك من سواحل الخليج العربي. وفي مقامرة معرفية مذهلة تنقل فوسمر مع فريقه بين غانا، والبليد في ظفار، وجزيرة بمبا الأفريقية؛ لجمع المواد اللازمة لصنع نموذج مطابق للسفينة الغارقة. على أحد سواحل مسقط، قضى فريق متعدد الجنسيات سنتين من العمل الشاق في سبيل بناء السفينة التي أطلق عليها “جوهرة مسقط”. تمثل التحدي في الاعتماد على المعارف التقليدية في بناء وخياطة كل غرزة في هيكل السفينة دون اللجوء إلى تقنيات اليوم. لم يهدف هذا المشروع إلى إعادة إحياء تجربة قديمة، بل قصة قد غمرتها المياه قبل 1200 سنة، قصة سفينة لم تصل إلى وجهتها. وفي عام2010، استأنفت جوهرة مسقط هذه الرحلة على نفس الممر المائي القديم؛ بلا أجهزة ومعدات حديثة، مستغرقة خمسة أشهر بقيادة القبطان العماني صالح الجابري، كان طاقم السفينة مهددا بالغرق قبال السواحل الهندية بسبب تسرب المياه، ولكن تم إصلاحها على أراضي الهند، وشقت طريقها من جديد تقودها أهازيج البحارة، حيث رست أخيراً كهديةٍ من شعب عمان الى شعب سنغافورة، مستقرةً كقطعةٍ رئيسيةٍ في معرضٍ يروي تاريخ طريق الحرير البحري.
جبجات، جنوب عمان:
تتخذ بعض القبور في ظفار هيئة القارب، مرتبطةً في ذلك بمخيلة الأهالي عن أساطير قوم عاد، فيما فسر آخرون وجودها المفاجئ بكونها قبوراً للجن. في موسم التنقيب الأول لأحد هذه القبور في العام 2018، زارنا شخص من أهالي المنطقة ليشبع فضوله، وادعى أننا يجب أن نحفر أكثر؛ لأن المدفون هنا قد دفن عمودياً، أو دفن واقفاً، تابعنا التنقيب وبدت غرفة الدفن الصغيرة بهيئة قارب أيضاً، إلا أننا لم نعثر على أي أثرٍ لإنسان! تركنا ملحوظةً ورقيةً صغيرةً: “لقد كنا هنا 2018، مع وجهٍ مبتسمٍ”. مدونين بدقة ذاكرة التربة وطبقاتها، وردمنا القبر من جديد.
وفي زاويةٍ أخرى من العالم، يظهر هذا النوع من القبور التي تتخذ شكل القارب، فقد دفن الفايكنغ محاربيهم في قوارب حقيقية تحت الأرض مرافقين لأسلحتهم ومقتنياتهم.
في سنتي الجامعية الأولى، توفي أبي غارقاً، ابتلعه الماء ثم رحل، أردد: “استقر في قاع قلبكِ القارب”، إرباك حرف الكاف جعلني أتساءل، هل قلبي هو القارب؟ أم أن أبي استقر في قاع قلبي كالقارب؟ لا أتذكر بوضوح ما الذي قالته صديقتي فاطمة إحسان. لكنني أعرف أن هذا الشطر الشعري أبكاني ليلةً كاملةً. فهل عبرت يا ترى؟

أدب العاشر بعد المئة

عن الكاتب

أميرة الشحية