التنوير الراديكالي لدى سبينوزا

بقلم: Doug Enaa Greene، Harrison Fluss

يبدأ التنوير الراديكالي بالفلسفة المادية لباروخ سبينوزا Spinoza. حيث هناك خطاً مباشراً من سبينوزا إلى كارل ماركس وإنجلز عبر الثورة الفرنسية.

قامت البرجوازية، وتحديداً في ساعة تألقها، بالكثير من الإمكانيات من أجل تحرير الإنسان، أكثر من مجرد توفير الأساس المادي للتنمية الاشتراكية المستقبلية. أفكر هنا في شمولية التنوير في أفضل حالاتها.
نيل ديفيدسون Neil Davidson

لماذا سبينوزا؟

لماذا يعتبر جوناثان إسرائيل Jonathan Israel – مثل الكثير من الماركسيين – سبينوزا فيلسوفاً مركزياً؟ ولماذا دعا سلف ماركس، مثل فيورباخ Feuerbach، سبينوزا، بأنه “موسى المفكرين الأحرار والماديين المعُاصرين”؟ ولماذا قارن هاينه Heine بين سبينوزا والمسيح؟(1). وما الذي يفسر كل هذا الاحتفاء به؟ وهي أن فلسفة سبينوزا تمثل الانقسام الحاد مع وجهات النظر العالمية القديمة والعصور الوسطى، وتدُشن بداية جديدة، وذلك على عكس عقلانية رينيه ديكارت René Descartes، أو جوتفريد ليبينز Gottfried Leibniz، في حين كانت فلسفة سبينوزا أحادية monistic: حيث رفضت انفصال ديكارت غير الكامل عن الكنيسة الكاثوليكية، وكذلك محاولة ليبينز لإخفاء التوحيد في العقل. وبالمثل، قطع التجريبيون البريطانيون، مثل جون لوك John Locke، العلاقة بين المعرفة والإيمان التقليدي. كل هذه الشخصيات قدمت تنازلات لله وللعرش. لذلك كان هذا تنوير ً خجولاً، خجلاً من قوة العقل الخاصة به. من بين هؤلاء المثقفين الأوائل الحديثيين، كان سبينوزا هو الأكثر رفضا ً لجميع أشكال مزج الظواهر الخارقة للطبيعة مع العقل.حيث تبدأ معه الحداثة الفلسفية حقاً.
يقول جوناثان إسرائيل بأنه لا يوجد مفكر حديث آخر، متصلب، ولا هوادة فيه مثل سبينوزا، من الناحية الدنيوية أو العلمانية secularism. ويضيف ” يعود ذلك في المقام الأول إلى وحدة تماسك وقوة نظامه، وقدرته على ربط العناصر الرئيسية للفكر “الإلحادي السابق” atheistic” بسلسلة من التفكير المتواصل، بدلا ً من حداثة أو قوة أي من مفاهيمه: التي تشرح مركزيته في تطور التنوير الراديكالي بأكمله(2).
يضيف إسرائيل، بأن إسهامات سبينوزا الأخرى مثل مقاربته العقلانية للكتاب المقدس ومفهومه الجوهري (أي أن الله والطبيعة كانا واحداً) أيضاً “كان لها تأثير عالمي واسع”(3). ففي مقالاته اللاهوتية السياسية (TTP)، ينتقد الكتاب المقدس، ويرفض الحديث عن المعجزات والتأليف الإلهي المزعوم من وجهة نظر العقل، وهو موقف يؤسس أيضاً دفاعه السياسي عن التفكير الحُر والديمقراطية. حيث كتب هذا الكتاب بشكل ٍ مجهول، أثبت أنه أكثر أطروحة سياسية فضائحية في عصره. وكما قال أحد المراجعين المذعورين، فإن (TTP) المقالات اللاهوتية السياسية “كانت كتاباً مزوراً في الجحيم”(4).
ففي مقدمته الخاصة لهذه المقالات يجادل إسرائيل، بأن نقد سبينوزا للكتاب المقدس، وفلسفته السياسية هي تطبيق لجوهره عن الميتافيزيقيا، أو نظريته عن الواقع. أبقى سبينوزا، في حياته، نظامه الفلسفي لغُزاً مخفياً خوفاً من الاضطهاد، لكن هذا النظام كان الأساس لسياسته. يضيف إسرائيل، “على الرغم من أن نظاماً معيناً للفلسفة ألهم ودعم جميع الأطروحات اللاهوتية السياسية، إلا أنه يفعل ذلك في معظم فصول هذا العمل بشكلٍ غير مزعج، ومتكرر بطريقةٍ غير واضحة(5). رأى أصدقاء سبينوزا بعض المقتطفات من فلسفته، ولكن لم يكن نظامه بالكامل من العقل الخالص. حيث تم إصدار هذا النظام بعد وفاته تحت اسم “أخلاق سبينوزا” Spinoza’s Ethics. هناك يوضح سبينوزا فلسفياً وجود الجوهر، ووحدة الجسد والعقل، ومعنى حُرية الإنسان. حيث أبطل الإيمان الإلهي، المعجزات، وما يسمى بالإرادة الحُرة، ومعتقدات استبدادية وخارقة.
يُلخص إسرائيل نتائج جهود سبينوزا على النحو التالي:
مع نظامه الفكري system نقل سبينوزا الشكل، والنظام order والوحدة إلى التقليد الكامل للفكر الراديكالي بأثر رجعي لتطوره اللاحق، وهي الأنواع التي كانت تفتقر إليها سابقا ً وربما كانت من الآن فصاعدا ً أقوى أسلحتها في تحدي هياكل السلطة السائدة وتلقي التعليم ومكافحة تطوير التنوير المعتدل. لقد وصل هذا النظام إلى أقصى تعبير له، وأكثره نضجا ً مع الإنتهاء من أخلاقياته عام 1675م، ولكن…كانت الأساسيات موجودة في وقت ٍ مبكر من عام 1660م(6).

سبينوزا والمادية Materialism الفرنسية:

طارد شبح فلسفة سبينوزا أوروبا بطريقة توقعت المخاوف المستقبلية من الشيوعية communism. فالتسمية “سبينوزي” كانت بمثابة اسم شيوعي في أمريكا جوزيف مكارثي Joseph McCarthy. بالنسبة للأرستقراطيين، ورجال الدين والقوى المحافظة الأخرى(بما في ذلك عدد قليل من الليبراليين، مثل أعضاء التنوير المعتدل) تشير “السبينوزية” Spinozism إلى الإلحاد، التحرر، التمرد، وتدمير الحضارة نفسها. وحتى الملك فريدريك العظيم King Frederick the Great، صديق فولتير Voltaire، شجب السبينوزية باعتبارها فلسفة بلا روح، وخالية من الأخلاق. وبالنسبة لفريدريك، كانت فلسفة سبينوزا هي المكيافيلية التي تم نقلها إلى مستويات ميتافيزيقية عالية(7).
في كتاب التنوير الراديكالي، على الأقل، لا يخجل إسرائيل، من ربط مخاوف القرن الثامن عشر حول سبينوزا بالبارانويا والتهديد في الحرب الباردة من الماركسية، يقول إسرائيل:
بحلول أوائل القرن الثامن عشر، أدى الفهم الواسع للسيبنوزية لاعتبارها نقيضاً أساسياً، وعدواً لدوداً للسلطة السياسية، التقاليد، والامتيازات المسيحية، إلى توتر نفسي واضح في جميع أنحاء العالم الأكاديمي، و”جمهورية الحروف” “Republic of Letters”، حيث لا يختلف التفكير عن جنون الخوف الأيديولوجي فيما يتعلق بالماركسية التي سادت المجتمعات الغربية في أوائل ومنتصف القرن العشرين“(8).
يتعقب إسرائيل سبينوزا وتأثير دائرته في جميع أنحاء أوروبا، حيث تكتسب الأفكار المتعلقة بالمساواة، التفكير الحُر، التسامح، الديمقراطية، موطئ قدم. كان لدى هذه السبينوزية، وليس جون لوك فقط John Locke، تأثير قوي على الماديين الفرنسيين. كما يمكن العثور على السبينوزية في الموسوعة Encyclopédie الشهيرة، كما يمكن العثور على مفهوم “الإرادة العامة” “general will” كما هو موجود لدى ديدرو، هولباخ، وحتى بدايات روسو، متأثرين بالسيبنوزية.
حيث أن مدخل سبينوزا في الموسوعة هو الأكبر من أي فيلسوف في العصر الحديث(9). وعلى الرغم من إدانته، إلا أن ذلك كان لمقاصد رقابية. وكما يقول إسرائيل، فإن “هذه المواد تحدد هذه المهمة بطريقة غريبة، ذلك أن إعادة تدوير الحجج اللاهوتية البالية القديمة وغير ذات الصلة، والضعف الذي تم التعامل معها نهاية القرن الماضي، كان من المحتوم بالنسبة للفهم أن تبدو وكأنها حيلة من الفتاوى تُحرض على نقل رسالة نصف مخفية للعلن(10).

وايسهاوبت والمتنورين Weishaupt and the Illuminati:


وهكذا، كان الماديون الفرنسيون سبينوزيين، أو بمصطلح ٍ آخر sub-rosa أو “تحت الوردة” (يشير إلى السرية في التعامل مع الأفكار – المترجم)، لكنهم لم يكونوا الوحيدين الذي يمارسون السبينوزية في السر. حيث يُقدم جوناثان إسرائيل مساهمة أخرى في تاريخ الأفكار لإعادة تأهيل التراث الفلسفي والسياسي لآدم وايسهاوبت Adam Weishaupt، زعيم البافاريين المتنورين Bavarian Illuminati. حيث تعتبر Weishaupt’s Illuminati هذه المنظمة التي تأسست في العام 1776م، من أكثر المنظمات التي يُساء فهمها، ويُساء استخدامها. فمنذ نشأتها، تعرضت للهجوم بأكثر الطرق وحشية، وهي اليوم بمثابة فكر تآمري يميني(11). وكجزء من مقاصدها، دعا المتنورين إلى الثورة العالمية، ضد الحكومات العالمية، وإسقاط جميع الملكيات وإرساء الحُرية والمساواة العالميتين.
كما يدافع إسرائيل عن وايسهاوبت كمصلح مبدئي، وكواحد ٍ من أوائل الثوريين المحترفين. حيث بدأ وايسهاوبت التدريس كأستاذ في القانون الكنسي في مدينة إنغولشتات Ingolstadt التي يسيطر عليها اليساريون في بافاريا، وبدأ المتنورين في الأول من مايو عام 1776م. كما لجأ لإخفاء سبينوزيته المادية في طقوس من الأبهة الماسونية. ولذلك كتب إسرائيل عن التنوير الديمقراطي، بأنه أعلى فلسفياً منذ بدء وايسهاوبت بالوحي السبينوزي Spinozistic revelation، الذي يذهب إلى أن “كل ما هو موجود، وأن الله والكون واحد، وأن كل الدين المنظم هو خداع سياسي ابتكره رجال طموحون”(12).
لم تنجُ منظمة المتنورين من القمع السياسي في بافاريا، ولكن يمكن العثور على آثار إرثها في الثورية الفرنسية Cercle Social (هي جمعية أصدقاء الحقيقة، تأسست في فرنسا عام 1790م – المترجم)، التي قارنها المؤرخ ألبرت ماثيز Albert Mathiez في أوائل القرن العشرين، في نُزل للمتنورين(13). فالرؤية المتنورة للثورة العالمية الشاملة تجد طريقها أيضاً في مؤامرة غراكش بابوف Gracchus Babeuf للمساواة، وجمعيات فيليب بوناروتي السرية Philippe Buonarroti. ففي عملهم المُبكر، “العائلة المقدسة” يؤكد ماركس وإنجلز على الصلة بين الدائرة الاجتماعية الفرنسية Cercle Social والثورة الاشتراكية، يقول: “إن الحركة الثورية التي بدأت في عام 1789م في الدائرة الاجتماعية الفرنسية، والتي كانت في منتصف مسيرتها كممثليها الرئيسيين روكس وليكرليك Leclerc and Roux، والتي هُزمت مؤخراً بسبب مؤامرة بابوف Babeuf، حيث أدت الفكرة الشيوعية لإعادة صديق بينوف بوناروتي إلى فرنسا بعد ثورة 1830م. حيث تُعبّر هذه الفكرة، التي تم تطويرها باستمرار، عن النظام العالمي الجديد(14).
وهكذا، بداية من سبينوزا وانتهاءً بالاشتراكية الفرنسية، نرى خطاً مستمراً من التقليد الراديكالي للتنوير. بالطبع، هذا لا يعني أن جميع هذه الشخصيات كانت سبينوزية أرثوذوكسية تقليدية، لكنها تعني أن العديد من أساسيات فكر سبينوزا تم التعبير عنها في المادية الفرنسية، مما يوفر أسساً أيديولوجية للثورة الفرنسية(15).


بليخانوف والمادية الفرنسية Plekhanov and French Materialism:

يعدّ التأكيد على الدور السبينوزي في التنوير جزء من التاريخ الماركسي الأقدم الموجود في كتابات جورجي بليخانوف Georgi Plekhanov. وعلى الرغم من أنه لم يستخدم أبداً عبارة “التنوير الردايكالي”إلا أن محتوى هذه الرسالة تم التعبير عنه جيداً في كتاباته حول تاريخ الأفكار. حيث يستشهد إسرائيل ببليخانوف مرة واحدة فقط في كتاب “التنوير الذي فشل”The Enlightenment That Failed”، وهو الكتاب الأخير في سلسلة التنوير الخاصة به، ولكن فقط كنقطة مرجعية ٍ عابرة(16). ذلك أن أب الماركسية الروسية لا يزال مؤرخاً فكرياً تم التقليل من قيمته بشدة(17).ففي الجدل ضد تاريخ فريدريك لانج Friedrich Lange للمادية، يشرح إطاره الماركسي الخاص للتنوير ويفهم السبينوزية على أنها ألفا وأوميغا alpha and omega (المقصود: البداية والنهاية لأي مادية حديثة) لأي مادية حديثة. بالنسبة لبليخانوف، الماركسية هي مجموعة متنوعة من السبينوزية، حيث أصبحت تدرك نفسها كمادية جدلية(18).
مثل إسرائيل، يرى بليخانوف المادية الفرنسية كفلسفة ثورية. ولكن بصفته ماركسياً، يذهب بليخانوف إلى أبعد من ذلك في رؤية كيف أن مصلحة الطبقة تهيئ الوعي، بما في ذلك وعي الفلاسفة، ذلك أن هذه الفلسفة المادية كانت فلسفة برجوازية، نشأت في الظروف الاجتماعية المحددة التي يواجهها نضال البرجوازية اليسارية ضد النظام القديم. حيث أن المعركة التي خاضها هولباخ Holbach، ديدروDiderot ، روسو Rousseau، وهلفتيوس Helvétius، لم تكن مباشرة من أجل الديمقراطية ولكن من أجل تحرير طبقتهم من التخلف الإقطاعي والخرافة الدينية:
“وغني عن القول أنه في صراعها ضد نظام عفى عليه الزمن، لا يمكن للبرجوازية أن تحترم النظرة العالمية الموروثة من الماضي والمقدسة لهذا النظام المحتقر، في “أوقات مختلفة، وظروف مختلفة، وفلسفة مختلفة” كما قال ديدرو بشكل ٍ ممتاز في مقالة ٍ له عن هوبزHobbes في الموسوعة.ففلاسفة الأيام الأخيرة الجيدة، الذين حاولوا التعايش بسلام مع الكنيسة، لم يكن لديهم اعتراض على الأخلاق التي ادعت أن مصدرها الدين. في حين أراد فلاسفة العصر الجديد أن تكون الأخلاق خالية من أي تحالف مع “الخرافة”(19).
أًعجب بليخانوف بشدة بالماديين الفرنسيين واعتبر نفسه وريث legatee فلسفتهم. حيث اعتنق نضالهم من أجل العلمانية وضد التحيز. وعلى الرغم من تكرار نقد ماركس لفويرباخ Feuerbach، إلا أن بليخانوف يفهم المادية البرجوازية على أنها مجرد منتصف الطريق نحو المادية التاريخية. ولكن عندما يتعلق الأمر بالتاريخ نفسه، أو الكائن الاجتماعي، يتحول الماديون البرجوازيين إلى مثاليين مبتذلين. قد يبدو هذا متناقضاً، لكن بليخانوف يظهر لماذا هذا هو الوضع في مقالاته عن بارون هولباخ، وهلفتيوس.

تناقضات التنوير البرجوازي Antinomies of Bourgeois Enlightenment:


مثل الماركسيين، رأى الماديون الفرنسيون أن البيئة الاجتماعية هي التي تحدد الوعي الاجتماعي. لكن ما الذي يُحدد البيئة الاجتماعية لدى الماديين الفرنسيين؟ كما يظهر بليخانوف لدى الفلاسفة مثل هولباخ وهلفتيوس، فإن قوة “الرأي العام” (أي الأفكار) هي التي تُحدد البيئة الاجتماعية.ولكن ما الذي يُشكل بدوره هذا الرأي العام؟ وفقاً لهم، يتشكل الرأي العام من خلال القوى النشطة والواعية، أي النُخب المجتمعية. فإما أن لهذه النُخب نوايا حسنة، مثل الماديين الفرنسيين أنفسهم، أو أن هذه النُخب كهنة شريرون، يتآمرون على الناس للأبد ويستمرون في خداعهم.
يجادل بليخانوف بأن المادي البرجوازي عالق فيما يسميه “التضاد”، حيث يطرح هذا التضاد ادعائين متنافيين: إما أن البيئة الاجتماعية تحدد الوعي، أو أن الوعي يحدد البيئة الاجتماعية، وهذه جدلية سيئة تشبه البيضة والدجاجة، فهو سيء لأنه لا يمكنه أبداً حل تناقضه الخاص، ولا يتوقف إلا كمفارقة، أو ما يسميه بليخانوف هنا بتضاد.
ينظر الماديون الفرنسيون إلى أنفسهم باعتبارهم صُنّاع التاريخ ومهذبيه، لذلك يتعاملون مع الناس (بتهكم) وعلى أنهم “كتلة ميتة وخاملة”. قد “تكون الطبيعة محكومة بالسببية، لكن التاريخ يحدث من دون أي شيء ex nihilo: فهو فعل من إردة الإنسان”. وكما قال بليخانوف، “إذا كان التاريخ لا يتألف من شيء سوى الأنشطة الواعية للبشرية، فإن “الرجال العُظماء” هم -فقط بالضرورة- سبب الحركة التاريخية. وسيتبع ذلك أن الدين والأخلاق والعادات والطبيعة الكاملة للشعب هي خلق واحد أو أكثر من الرجال العُظماء الذين تصرفوا بأهداف محددة في نظرهم”(20).
ومع ذلك، إذا فشلت قوى التنوير في جهودها لتغيير العالم، يمكن للفيلسوف أن يلوم دائماً مكائد الكهنة، أو الغباء الأبدي للجماهير. هؤلاء الفلاسفة في القرن الثامن عشر لم يكونوا يلجؤون لفهم التاريخ كمنتج ليس فقط من الإرادة الشيطانية أو المستنيرة، ولكن من القوى المادية، وبعبارةٍ أخرى، كانوا يفتقرون إلى أي مفهوم للإنتاج الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والصراع الطبقي، حيث يتم ترجمة الخير والمرض الذي ينتج عن نمط الإنتاج بطريقة ميتافيزيقية إلى تنافس مُجرّد بين النور والظلام.
كما لم يوسّع الفرنسيون الماديون علمانيتهم إلى الواقع التاريخي؛ لذلك قاموا بالترويج ليس لمفهوم مادي ولكن شبه ديني، أو مانوي Manichean للتاريخ. وكما أوضح بليخانوف، “يُنظر للدين على أنه القوة الدافعة الرئيسية للتاريخ، غير أن ما أمامنا هو بوسويه Bossuet، (الذي يعتبر مدافعاً عن الحُكم المطلق والحق الإلهي للملوك في الحُكم) في الاتجاه المعاكس!. كان مؤلف كتاب Discours sur l’histoire universelle “خطاب في التاريخ العالمي” مقتنعاً بأن الدين يُرتب كل الأشياء بأفضل الطرق، بينما يعتقد هولباخ أن ذلك جعل كل الأشياء في أسوأ الحالات”(21).
إن نقد بليخانوف الجدلي للتنوير لا يوحي فقط بتناقضات الملحدين الجُدد في أواخر القرن العشرين، مع نظرتهم العلمانية الزائفة للتاريخ كحكاية أخلاقية بسيطة حول التقدم ضد الخرافة، بل كما سنرى، فإن نقد بليخانوف يُمثل أيضا ً حدود جوناثان إسرائيل الخاصة. ذلك أن النظرة العلمانية للعالم لا تتوافق مع أوهام المجتمع الطبقي، والتي تنظر للجماهير على أنها مليئة بالخرافة، خائفة، وجاهلة. وكما يشير بليخانوف، كان هذا الخوف من الجماهير هو الذي أزعج هولباخ، حيث نظر إلى النضال من أجل المساواة على انه صراع الحُسّاد، ونظر إلى النُخب – بما في ذلك لويس السادس عشر – لحل مشاكل التنوير. أدرك بليخانوف أن فلسفة هولباخ الاجتماعية لم تستطع تحمل ثورة اليعاقبة الديمقراطية التي كانت ستأتي: “في الواقع، هل كان سلوك هولباخ أفضل بعد 10 أغسطس؟ هل كان سيكرر في تجمع اليعاقبة ” لا يوجد طاغية أبشع من المخلوقات التي يمكن أن توّلدها الجريمة؟(22). ليس لدينا أي معلومات عن هذه النتيجة، ولكن من المحتمل أكثر أنه لن يكون لديه “تبادل” أو “مقايضة” مع الجمهوريين “المسعورين” “rabid” وكان سيعتبرهم أيضاً طغاة وأعداء للوطن، متعصبين، ومحتالين سياسيا ً(23).
في الختام، نتساءل؛ هل من المستغرب إذن أن تنوير البرجوازية من هولباخ إلى جوناثان إسرائيل يئس أن تأخذ الجماهير المُثل العليا على محمل الجد؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) جورجي بليخانوف، “المشاكل الأساسية للماركسية”، Georgi Plekhanov, “Fundamental Problems of Marxism,” 1907, Marxists Internet Archive; Heinrich Heine, Religion and Philosophy in Germany: A Fragment (London: Kegan Paul, Trench, Trübner, 1891), 70.

2 ) جوناثان إسرائيل، Israel, Radical Enlightenment, 230.
3) نفس المرجع السابق.
4) ستيفن نادلر، “كتاب مزور في الجحيم: أطروحة سبينوزا الفضائحية”، Steven Nadler, “A Book Forged in Hell”: Spinoza’s Scandalous Treatise (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2011), vi.
5) جوناثان إسرائيل، مقدمة إلى بنديكت دي سبينوزا، أطروحة لاهوتية سياسية، Jonathan Israel, introduction to Benedict de Spinoza, Theological-Political Treatise, ed. Jonathan Israel (Cambridge: Cambridge University Press, 2007),
) جوناثان إسرائيل، Israel, Radical Enlightenment, 230.

7 ) يذهب أمير ميكيافيلي أن الأخلاق هي عمل سبينوزا للإيمان: سبينوزا أفسد أسس الإيمان، واستهدف اسقاط صرح الدين على الأقل، في حين مكيافيلي أفسد السياسة وتعهد بتدمير مبادئ الأخلاق السليمة. أنظر: King of Prussia Frederick II, The Refutation of Machiavelli’s Prince or, Anti-Machiavel (Athens: Ohio University Press, 1981 [1740]), 31.
8) جوناثان إسرائيل، Israel, Radical Enlightenment, 436.
9) أنظر: Israel, Democratic Enlightenment, 68.
10) المرجع السابق، ص69.

11 ) أنظر: Michael Barkun, A Culture of Conspiracy: Apocalyptic Visions in Contemporary America (Berkeley: University of California Press, 2013), 39–64.
12) Israel, Democratic Enlightenment, 832.
13 ) من المعروف ، بالفعل ، من لويس بلانك ، هنري مارتن ، والدراسة الممتازة للبروفيسور إرنست نيس ، أن جميع الثوريين المشهورين تقريبًا كانوا الماسونيين – ميرابو ، بايلي ، دانتون ، روبيسبير ، مارات ، كوندورسيه ، بريسوت ، لالاند ، والعديد من آخرين كانوا إخوة ماسونيين ، وظل دوق أورليانز (فيليب إيجاليت) سيده الوطني الكبير حتى 13 مايو 1793. على الجانب الآخر ، من المعروف أيضًا أن روبسبير وميرابو ولافوازييه ، وربما أكثر من ذلك ينتمون إلى أكواخ المتنورين ، التي أسسها Weishaupt ، والتي كان هدفها “تحرير الأمم من استبداد الأمراء والكهنة ، وكخطوة أولى ، تحرير الفلاحين والعمال من القنانة والعمل القسري والنقابات.” أنظر: Peter Kropotkin, The Great French Revolution 1789–1793 (New York: G. P. Putnam’s Sons, 1909), 540.
14 ) انظر: العائلة المقدسة، الأعمال الكاملة، المجلد 4، ص119. يشير جيمس بيلينجتون أيضًا إلى تأثير المتنورين على بابوف: “التأثير الخفي – ربما المنير – يمكن اكتشافه في أول بيان واضح لبابوف عن أهدافه الشيوعية في وقت مبكر من عام 1795م – يدعو صديقًا إلى” الدخول في الأسرار المقدسة للزراعة “وقبول الإخلاص من فارس من أجل يساوي. تحدثت الخطوط العريضة الأولى لبيبوف لمؤامرته عن “دائرة من أتباعه” “يتقدمون بالدرجة” من ليه يدفع مضايقات لتحويل العالم. لقد كان تنظيم بابيروف السري الهرمي يشبه تنظيم المتنورين وبونفيل “. جيمس بيلينجتون ، النار في عقول الرجال: أصول الإيمان الثوري (نيويورك: كتب أساسية ، 1980) ، 97.
15) بالنسبة للنقاد اليمينيين ، ما يسميه إسرائيل التنوير الراديكالي كان الفرضية الفلسفية إلى استنتاج ثوري. كما قال أوغسطين كوتشين Augustin Cochin ، “قبل الرعب الدموي عام 1793 ، كان هناك ، في الفترة من 1765 إلى 1780 ، رعب جاف كانت لجنته للسلامة العامة هي الموسوعة وكان روبسبير هو دالمبرت d’Alembert”. دارين ماكماهون ، أعداء التنوير: مكافحة التنوير الفرنسية وصنع الحداثة (Oxford: Oxford University Press ، 2001) ، 193. Darrin McMahon, Enemies of the Enlightenment: The French Counter-Enlightenment and the Making of Modernity. بالنسبة لجوزيف دي مايستر Joseph de Maistre، فإن دور سبينوزا الإيديولوجي في إعداد الثورة القادمة واضح: “أعلم أن الفلسفة ، التي تخجل من نجاحاتها الرهيبة ، قررت التنصل بصوت مرتفع من التجاوزات [أي اليعاقبة] التي نشهدها ، ولكن لا يمكنها الهروب. انتقادات الحكيم مثل هذا. لحسن الحظ بالنسبة للبشرية ، نادرا ما يمتلك نفس الرجال نظريات قاتلة وقوة لوضعها موضع التنفيذ. ولكن ما الذي يهمني أن سبينوزا عاش بسلام في قرية هولندية؟ ” جوزيف دي مايستر ، المبدأ التوليدي للدساتير السياسية: دراسات حول السيادة والدين والتنوير (نيويورك: روتليدج ، 2017) ، 111. Joseph de Maistre, The Generative Principle of Political Constitutions: Studies on Sovereignty, Religion, and Enlightenment (New York: Routledge, 2017), 111.
16) أنظر: Israel, The Enlightenment that Failed: Ideas, Revolution, and Democratic Defeat, 1748-1830 (Oxford: Oxford University Press, 2019), 898–99.
17) “كل ما عرفته عن التنوير جاء من بليخانوف” أشعيا برلين، ,” Isaiah Berlin, quoted in Joshua L. Cherniss, A Mind and Its Time: The Development of Isaiah Berlin’s Political Thought (Oxford: Oxford University Press, 2013), 31. على عكس إسرائيل، يربط برلين مذاهب التنوير بالماركسية، حتى انها توصل لحد الاعتقاد بأن الماركسية كانت التنوير “الذي ذهب في الإتجاه الخاطئ”.أنظر: .” David Caute, Isaac and Isaiah: The Covert Punishment of a Cold War Heretic (New Haven, CT: Yale University Press, 2013), 49.
18) بليخانوف: “المشاكل الأساسية للماركسية”.م، س.
19) جورجي بليخانوف ، “مقالات عن تاريخ المادية” ، 1893 ، أرشيف الإنترنت للماركسيين.

20 ) نفس المرجع السابق.

21 ) نفسه.
22 ) 10 أغسطس “يشير إلى 10 أغسطس 1792م ، عندما اقتحم الثوار المسلحون في باريس قصر التويلري Tuileries Palace وألغيت الملكية الفرنسية.
23) جورجي بليخانوف ، “مقالات عن تاريخ المادية”.

العاشر بعد المئة ترجمات مختارات السياسة

عن الكاتب

علي بن سليمان الرواحي

كاتب وباحث عماني