السيابي: التصوف نشأ نتيجة إحباط في المجتمع المسلم

وصل التصوف إلى العمانيين في هذا الوقت في شكل كتابة أوفاق وطلسمات ، لأن خفوت الناحية العلمية والجمود المعرفي والركود الفكري كان في ذلك الوقت ، ودائماً لا تبدأ مثل هذه الأمور مع العلماء الكبار، بل تجدها مع الناس، لذلك لا تجد عالماً كبيراً اشتهر بهذا في السابق، وإنما تجده مع مَن يتزيون بزي أهل الفضل والعلم، وعندهم شيء قليل من العلم، ولعل هذا ناتج أيضاً من الإحباط، لأن عصر أمراء القبائل في عمان كان عصراً صعباً على العمانيين، وكما يقول المؤرخون: لزم العلماء بيوتهم، وبقوا فيها نتيجة الوضع القائم الجائر، مثلما وصف صاحب “كشف الغمة” الشيخ سرحان بن عمر بن سعيد السرحني، فكانت مرحلة إحباطية.

sufism4

مسقط؛ صيف 2010

الحلقة الثانية

 

العدوي: دعنا من الشكل العام، وهو أمر مهم للتوطئة والمقدمة لما نريد أن ندخل إليه وهو التصوف في عمان، هل فعلاً يوجد مدرسة متصوفة في عمان؟ لعل هي الأخرى مرت أيضاً بمراحل مثلما مر بها التفكير الإسلامي، ولكن دعني أبدأ من النقطة الآتية، وهي لماذا وصلنا التصوف متأخراً، حيث وصل في القرن الثاني عشر الهجري؟ لماذا لم يكن في القرن الثامن أو القرن التاسع مقارنة بنشوئه عند المدارس السنية في القرن السادس ومروقه إلى المدرسة الشيعية مثلما تفضلتَ، ولماذا وصلنا أصلاً في عمان؟ وهل وصوله عندنا أيضاً كما هو وصوله عند إباضية المغاربة؟.

السيابي: سؤالك من ثلاث شعب، المحور الأول، هل هناك تصوف عند الإباضية؟.

أقول لك: إن الإباضية لم يمارسوا التصوف، لاسيما التصوف الطرقي، كما ذكرتُ أن هنالك معاني عامة هي مبادئ إسلامية، وإنما المتصوفة أخذوها وحصروها في التصوف، وهذا غير مسلّم لهم، تلك المعاني الإسلامية القائمة على الزهد والترفع عن الحياة، والقائمة على الكسب الحلال، وغير ذلك.

العدوي: الأقرب إلى مبادئ إنسانية.

السيابي: الإباضية لم ينعزلوا عن الحياة، ولم يمارسوا الانعزال أو طقوسيات معينة، مع ما قيل فيها من فيوضات ووجدانيات.

لماذا الإباضية لم يكن فيهم متصوفة أو لم تصلهم الصوفية؟.

في رأيي أولاً أن الإباضية رأوا أن هذا الفكر التصوفي هو خصيصة لأهل السنة والجماعة، وأنا هنا أتكلم عن التصوف الوجداني؛ سواء كان في سلوكه الفردي أو في أطره الجماعية المتمثل في الطرق، فبالتالي لا يعنيهم هذا الأمر كونهم إباضية لهم معالمهم الفكرية.

الناحية الثانية أن الإباضية مارسوا الحياة بصفة أكثر، ولاسيما قضية الانصهار في الحكم، سواء كان الحكم تحت مسمى الإمامة، أو تحت مسمى الحكام الآخرين؛ الملوك والأمراء والسلاطين، فهذا الانخراط في بناء الدولة؛ سواء كانت الدولة إمامية -وكما هو معروف أن الدولة الإمامية هي دولة دينية– أو دولة مدنية التي هي دولة ملكية أو سلطانية، إلى غير ذلك، انخراطهم في الدولة وبنائها جعلهم بعيدين عن التصوف، وأنا عندما أقول إباضية أعني علماء الإباضية، فمثلما تعلم الإباضية فيهم علماء وعامة، والعلماء هم الذين ينبني عليهم الفكر، فالإباضية على مستوى العلماء انخرطوا في بناء الدولة.

لهذين السببين لم يتعلقوا بالتصوف.

العدوي: إذا أردنا أن نضيف سبباً ثالثاً، البعض يقول: إن الصوفية لم تدخل إلى الإباضية لأن الصوفية لا تضيف شيئاً إلى الفكر الإباضي، على اعتبار أن الإباضية يشددون على قضية تلازم القول والعمل والمعتقد، بمعنى أن الإباضي بحكم تشدده في مبدأ: أن مرتكب المعصية إذا لم يتب يدخل النار. يجعله حساساً ويحمل روح الزهد ومفارقة بهرج الحياة، حتى وهو يعيش ويتفاعل مع الحياة، هل يمكننا اعتبار هذا السبب، على أنه بُعد عقائدي أبعد من كونه بُعداً اجتماعياً وسياسياً؟.

السيابي: لا نرقى به إلى سبب، لأنه حتى المتصوفة هذه هي أيضاً أطروحاتهم.

العدوي: كثير من المدارس تقول: إن مرتكب المعصية لا يخلد في النار، هذا إذا دخل النار أصلاً.

السيابي: لا أتوقع أن يكون هذا هو الفاصل بين عدم التواصل الإباضي والصوفية ، وإنما هذا جزء من عقيدة، لكن نظروا إليها على أنها خصيصة سنية تنبني على فكر أهل السنة، وهي في الحقيقة نشأت من الإحباط، من المعروف أن التصوف نشأ نتيجة إحباط في المجتمع المسلم.

العدوي: ماذا يعني الإحباط؟.

السيابي: الإحباط بسبب التهميش في الحياة ، في الدولة الأموية؛ وهي بداية الوجود الصوفي، ثم الدولة العباسية، استولى على الناس مجموعة قليلة، والآخرون همشوا في الحياة، ولو فكرت  حتى في عمان تجد التصوف نتيجة إحباط في الحياة، يجد الإنسان أنه على وضع فكري أو علمي جيد، لكنه مهمش في الحياة، ليست لديه مسؤولية ومشاركة، وليست لديه القدرة على أن يكون فاعلاً في الحياة، فبالتالي ينعزل ويرضي نفسه وطموحاته النفسية بأوراد وتلاوات، وبخلوة وانعزال.

العدوي: رجاء أن يكون له موقعه بعد هذه الممارسة الصوفية؟.

السيابي: نعم موقعه في الممارسة، فليس له موقع آخر.

العدوي: تعويض …

السيابي: نعم، لكن لا أتوقع أن الناحية العقدية بالذات، إن شاء الله كل المسلمين يريدون الوصول إلى الجنة؛ من بينهم من يمارسون الفواحش والمعاصي، بغض النظر عن الاختلاف اللفظي.

العدوي: البعض يفترض العكس، أن هذا العامل العقدي؛ وهو القول بخلود العاصي في النار. هو الذي يجلب إليهم التصوف، لأن الإباضي كما قلتُ مرهف تجاه هذه القضية.

السيابي: لا، هم نظروا إليها على أنها خصيصة سنية، وأنها ممارسات فيها انعزال عن الحياة، وبالتالي لا يتفق مع الإنسان الإباضي والعالم الإباضي الذي يريد أن يكون فاعلاً في الحياة، ومشاركاً في بناء الدولة والمجتمع، فبالتالي لا يتيح له أن ينعزل عن الحياة، لأنه مكلّف بالمسؤولية، فكيف له أن ينعزل عن الحياة؟ لا يقدر أن يمارس طقوس التصوف لأنها تأخذ منه وقتاً ، وهو يريد وقته في بناء الدولة، وفي القضاء وقيادة الجيش والجهاد، وفي الاقتصاد والتجارة والعمل، وبالتالي ليس عنده وقت لينعزل عن هذه القضايا ويتجه إلى ممارسات طقوسية.

sufism5

العدوي: بحسب المحاور التي قسّمتَها ندخل إلى المحور الثاني: لماذا وصل التصوف متأخراً إلى عمان؟.

السيابي: الظاهر أن التصوف وصل إلى عمان أولاً في شكل كتابة أوفاق وطلاسم، هذا ما وصل إلى العمانيين من التصوف.

العدوي: في أي فترة؟.

السيابي: تقريباً في بداية القرن العاشر الهجري.

العدوي: في المرحلة النبهانية؟.

السيابي: النبهانية المتأخرة، وهي مرحلة أسميها مرحلة أمراء القبائل، نحن لا نسميهم أمراء الطوائف، لأنه ليست لدينا طوائف، وإنما نسميهم أمراء القبائل ، كل أمير قبيلة متسلط على إقليم معين، ومتحكم فيه وفي قبيلته، ويُأطر تاريخياً بأنه عصر النباهنة المتأخرين، أي قبل قيام دولة اليعاربة.

وصل التصوف إلى العمانيين في هذا الوقت في شكل كتابة أوفاق وطلسمات ، لأن خفوت الناحية العلمية والجمود المعرفي والركود الفكري كان في ذلك الوقت ، ودائماً لا تبدأ مثل هذه الأمور مع العلماء الكبار، بل تجدها مع الناس، لذلك لا تجد عالماً كبيراً اشتهر بهذا في السابق، وإنما تجده مع مَن يتزيون بزي أهل الفضل والعلم، وعندهم شيء قليل من العلم، ولعل هذا ناتج أيضاً من الإحباط، لأن عصر أمراء القبائل في عمان كان عصراً صعباً على العمانيين، وكما يقول المؤرخون: لزم العلماء بيوتهم، وبقوا فيها نتيجة الوضع القائم الجائر، مثلما وصف صاحب “كشف الغمة” الشيخ سرحان بن عمر بن سعيد السرحني، فكانت مرحلة إحباطية.

ظهر التصوف بداية في الأدب، فمثلاً الشاعر الخروصي اللواح جاءت عنده تعابير تصوفية، مثلاً كان يسمي الكعبة ليلى، لأن المتصوفة أخذوا من اسم ليلى –وهي معشوقة مجنون ليلى قيس بن الملوح العامري– رمزاً للحب الإلهي، فأخذوا يتغزلون عن الذات الإلهية بليلى، هذا في شعر المتصوفة، اللواح لم يصل إلى هذا الحد، وإنما كان يطلق اسم ليلى على الكعبة الشريفة عندما يحن إلى رؤيتها، والشاعر اللواح توفي في بداية القرن العاشر الهجري، إذاً في تلك الفترة بدأت تصل إلى الفكر الإباضي في عمان علامات التصوف في شعرهم وأدبهم، وفي كتابة الأوفاق والطلسمات.

العدوي: هل الابتهالات التي وجدت لدى الشاعر الفقيه محمد بن مداد تدخل أيضاً في جانب التصوف؟.

السيابي: أتوقع أنه ممكن، لعل شيئاً من هذا القبيل يحدث، لكنها إن كانت ابتهالات –يقصد بها طبعاً الدعاء والتوسل إلى الله تعالى– فتبقى مفهوماً إسلامياً عاماً، إلا إن خالطتها مفردات الصوفية، مثلاً كالقطبية والغوث ونحوها؛ وإن كانت هذه أيضاً كالغوث أي غياث المستغيثين مفاهيم إسلامية عامة، لكن استخدامها لدى المتصوفة أكثر من غيرهم.

وقتها كان وصول التصوف بصورة باهتة خافتة، واقتنع من اقتنع بذلك التصوف البسيط على أساس ما كان يشعر به من إحباط في ذلك الوقت؛ نتيجة سيطرة أمراء القبائل على الوضع في عمان، وهم بطبيعتهم ليسوا بأهل علم، وإنما هم أقرب إلى الجهل والجور.

ومن خلال استقرائي أن دولة اليعاربة خففت من ذاك، أو أنها توجهت توجهاً آخر.

العدوي: توجه بناء الحياة.

السيابي: نعم، اشتغلوا بالجهاد وبالفتوحات الكبيرة والبعيدة.

العدوي: والمعمار.

السيابي: اشتغلوا بالعمارة، وبناء الأفلاج وشق الطرق، فخفت التوجه الصوفي في الدولة اليعربية، قد يكون وجد لدى بعض الناس، لكنه لم يشكل ظاهرة، فلذلك؛ بدايةً من وصول التصوف إلى عمان بداية القرن العاشر الهجري إلى نهاية عهد اليعاربة، اعتبره محاولات لا ترقى –في وجهة نظري– أن تكون تجربة صوفية، هي محاولات عند الشاعر اللواح، وربما عند الشاعر الفقيه ابن مداد في شعره، وحتى تلك المحاولات البسيطة في الدولة اليعربية خف وميضها، بطبيعتها كانت باهتة قبل اليعاربة، ولكن الدولة اليعربية؛ إما أنها أوقفت نموه، وإما أنها حجمته على الأقل.

أما عند المغاربة، فلم يظهر عندي أنه وجد عندهم شيء من التصوف ، صحيح أنهم كتبوا في الزهد، وقبسوا –مثل “قناطر الخيرات”– من “إحياء علوم الدين” للغزالي، لكنهم أخذوه بالمفهوم الإسلامي العام، كترقيق القلوب، فالشيخ الجيطالي نفسه الذي ألّف “قناطر الخيرات” كان تاجراً، وهو يكاد يكون الكتاب الإباضي المغربي الأول به مسحة تصوفية.
العدوي: زماناً وموقعاً؟.

السيابي: نعم؛ زماناً وموقعاً، الشيخ أبو طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي من علماء القرن الثامن الهجري، واستفاد كثيراً من كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام الغزالي، وكان هو نفسه تاجراً، لم يكن منعزلاً ومنزوياً في الحياة، وإنما ألّف كتابه هذا للتلطيف، ربما لأنه رأى أبناء عصره يمارسون الحياة نسبياً بشكل أوسع مما ينبغي، فألّف كتابه “قناطر الخيرات” لكي يوضح هذا المفهوم، بأنه يجب الجمع بين الدنيا والآخرة، ويجب أن يعمل الإنسان في الدنيا على أساس أنها موصلة للآخرة، وليس على حساب الآخرة.

العدوي: الذي أفهمه منك أن الانزواء عن الحياة والاشتغال ببعض مظاهر التصوف كالطلسمات والأسرار، جاء نتيجة إحباط الواقع الاجتماعي، ومعنى ذلك أنه متعارض مع البناء الحضاري الذي يأمله المسلم من جعل كلمة الله هي العليا.

السيابي: فعلاً نتيجة إحباط، وهذا يتعارض مع التوجه الحضاري والعمراني الذي أراده الله سبحانه وتعالى من الإنسان في هذه الحياة، وبأن جعله خليفة في هذه الأرض، وإلا ما الفائدة أساساً من وجود الإنسان في هذه الحياة واستخلاف الله له لعمارتها وبنائها وحضارتها، ومن حكمة الله تعالى أن خلق التدافع في هذه الحياة، أنه يدفع أقواماً بأقوام آخرين، لكي يتوجه الجميع إلى بناء الحياة، وكما ذكرت أن الإسلام والشرائع الربانية وضحت ما هو المقصود من وجود الإنسان، بأن يكون وجوده في الدنيا موصلاً إلى الآخرة، وأن يعمل فيما شرعه الله له؛ سواء في مجال العمل أو مجال العبادة، إلى غير ذلك.

العدوي: أنت الآن تركز على أسباب مادية بحتة، وتنسى الطاقة الروحية التي تفعل الأسرار، أيضاً هي بنت الحياة، وفي أزمنة دحرت جيوشاً، وأقامت ممالكاً، عندنا في عمان قلاع وأفلاج بنيت بعلم الإسرار، وعندنا جوعى تم إطعامهم بتحول الرمل إلى أرز، إلى غير ذلك، هذه أيضاً جوانب حضارية وإنسانية تم استخدام الطاقة الروحية فيها.

السيابي مقاطعاً: لا، لا.

العدوي: الطاقة الروحية ليست إحباطاً، وإنما هي مساهمة حضارية في بناء الحياة.

السيابي: هذه خرافات، الإسلام بريء منها كل البراءة ، الإسلام جاء لبناء الحياة، والحمد لله كما أن الفقهاء أطروا الأدلة الشرعية في خمسة أحكام: الواجب الذي يجب اتباعه، والمحرم الذي يجب اجتنابه، والمندوب الذي يؤمر الإنسان أن يفعله، وإن لم يفعله كان موسعاً له، والمكروه الذي يؤمر الإنسان أن يجتنبه، وإن لم يجتنبه لأمر ما فلا بأس به، والمباح؛ وهو الدائرة الأوسع من دوائر التشريع الإسلامي، وهذا المباح كلما عمله الإنسان يكون مأجوراً ويثاب عليه، الإنسان يأكل إذا كان لطاعة الله فله الأجر، وإذا كان لمعصية فعليه الوزر والإثم ، كثير من أمور الحياة ترجع إلى مقصد الإنسان ونيته، إذا كانت نيته لله تعالى فله في ذلك الأجر، وإذا كانت نيته إلى غير ذلك فستكون معصية وعليها عقاب من الله، هذه هي المفاهيم الإسلامية، والإسلام نفسه روحانية؛ إن صح التعبير بالروحانية، وأنا أيضاً لا أحب أن أعبر بالروحانية، فهو تعبير مسيحي كنسي، الإسلام عبّر عن الإيمان بالسكينة والطمأنينة.

العدوي: كلام جيد.

sufism7


 

العدوي: بحسب رأيك أن التصوف بالمعنى الطرقي لم يكن موجوداً في عمان، وإنما وجد بعض ملامحه، والأقرب منها الجانب السلوكي العام، مع وجود جوانب لا نستطيع أن ننكرها مثل: استخدام الحروف والأسرار، إلا أنها في الحقبتين النبهانية واليعربية كانت ممارسات فردية أقرب إلى العوام منها إلى العلماء الذين اشتغلوا بالحياة.

لكن مع مجيء الشيخ جاعد بن خميس الخروصي تغيّر لدينا توصيف حال الواقع، هناك فعلاً مؤلفات صنفت وقصائد كتبت، وبعد ذلك في زمن ابنه الشيخ ناصر الذي شرح بعض قصائد أبيه، وهنالك أيضاً المطولات الشعرية التي قالها الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي المحقق، ثم الشيخ أبو مسلم ناصر بن سالم الرواحي الذي فتق التصوف أدبياً وفتح مصراعيه، هل ما زلت ترى أن هذه الحقبة لم تكن حقبة صوفية؟.

السيابي: هذا صحيح، أنا اعتبر مجيء التصوف إلى عمان مع قيام الدولة البوسعيدية على يد الإمام أحمد بن سعيد في القرن الثاني عشر الهجري، فعلاً أخذ التصوف في عمان يشكل تجربة صوفية، ولكن يجب أن نتساءل: لماذا؟.

كان التيار التصوفي في العالم تياراً كبيراً..

العدوي: يعني؛ يكاد يكون منهج حياة؟.

السيابي: نعم، صار التصوف في العالم الإسلامي تياراً كبيراً عند السنة والشيعة ، بقي الإباضية وحدهم في الساحة، فاستطاعوا أولاً أن يقاوموه كلياً إلى بداية القرن العاشر الهجري، ثم بدأوا يأخذون منه بعض الملامح والسمات في التعبير، وكتابة الأوفاق والطلاسم، وليس كممارسات سلوكية، إلى عهد الشيخ أبي نبهان جاعد بن خميس في القرن الثاني عشر الهجري، وكان في هذا القرن فعلاً التصوف تياراً كبيراً يجتاح جميع المذاهب وبلدان العالم الإسلامي، صحيح أن التصوف نشأ وتكوّن كطرق صوفية منذ القرن السادس والسابع الهجريين، لكن لعله مر بمراحل فيها شيء من التعثر، إلا أنه في القرن الثاني عشر الهجري مرّ بدورة نشطة كبيرة، انبعث من مصر ثم اجتاح الأقاليم، ويكاد يصبح كل مسلم سني أو شيعي داخلاً في التصوف.

العدوي: التصوف بمنهجتيه وطرقيته؟.

السيابي: بمنهجيته وطرقيته، وبممارساته الطقوسية ، فبقي الإباضية وحدهم في الساحة، ولاسيما أن عمان في عهد اليعاربة جاء إليها أناس من خارج عمان من غير العمانيين، فجاء إليها الفرس في عهد سيف بن سلطان الثاني..

العدوي: وبلعرب بن حمير.

السيابي: لنقل في آخر عهد دولة اليعاربة، ثم لما جاء أحمد بن سعيد، جند الكثيرين من غير العمانيين، جاء بهم جنوداً من النوبة؛ وهم ما بين السودان ومصر، وهنالك الطرق الصوفية ضاربة أطنابها، وأتى بأناس من بلوشستان، وهي تابعة لإيران وباكستان، وأيضاً هناك الطرق الصوفية كثيرة، والناس متشبثون ومتمسكون بها، ولابد أن يكون لذلك تأثير في المجتمع العماني، فالشيخ أبو نبهان جاعد بن خميس وهو قمة علمية عظيمة، ورأس العلماء في عمان، وكما يقول الشيخ ناصر ابنه: إن عمان لم تشهد منذ عصر أبي سعيد الكدمي إلى عهد والده عالماً في حجم والده. بغض النظر عن دقة هذا التوصيف، لكون عمان ظهر فيها أيضاً علماء كبار ، لكن بالفعل الشيخ أبا نبهان قمة علمية عالية ورجل معترف بعلاميته ومسموع الكلمة، فتبنى الفكر التصوفي، إلا أنه لم يتبناه بشكله الطرقي، وإنما بشكله الفكري، وأصبح يستعمله في عباراته الأدبية؛ في أشعاره ومناجاته لله تعالى، فأخذ التعابير الصوفية وألّف بها قصائده ، ولكن بقي للشيخ أبي نبهان رحمة الله عليه طريق عقدي وفقهي لا يظهر فيه التصوف، كتبه في الفقه والعقيدة لا توجد فيها أي مفاهيم تصوفية، وإنما ألّف في التصوف..

العدوي: في أدبيات التصوف ذاتها.

السيابي: جعل التصوف أمراً أدبياً، قال في ذلك أشعاراً، وكتب في هذا الموضوع.

المهم؛ أن في عصر الشيخ أبي نبهان كان التصوف فعلاً تجربة فكرية، وهنا أعود مرة أخرى؛ بأني لا أستبعد أن يكون هذا أيضاً نتيجة إحباط، فالشيخ أبو نبهان بمكانته العلمية والاجتماعية، أولاً أنه من نسل الأئمة: الصلت بن مالك والخليل بن شاذان، والخليل بن عبدالله ، وعمر بن الخطاب الخروصي، والثاني أنه ينتمي إلى قبيلة، معظم أئمة عمان ينتمون إليها، وهي قبيلة بني خروص، ففي عهد دولة آلبوسعيد، كانت دولة مدنية؛ إن صح التعبير، لكن في عهد الإمام أحمد بن سعيد كانت دولة إمامة، يغلب عليها الطابع الإمامي والحكم الديني، ولكن تجد الشيخ أبا نبهان يشعر بنوع من الإحباط، وأنا استنتج هذا من بيت له في القصيدة التي نظمها هو ورفيقه الشيخ سعيد بن محمد الغشري الخروصي، قالا قصيدة؛ الشطر الأول من كل بيت يقوله الشيخ أبو نبهان، والشطر الثاني يتمه الشاعر سعيد الغشري، ففي آخر القصيدة لما ذكر أئمة بني خروص والتي مطلعها:

أئمتنا لهم كل الفضائل           وأن لهم على الناس الطوائل

قالا بيتاً في آخر القصيدة:

فصيرنا الزمان ولا عتاب      رعايا بعدما قدنا الجحافل

هذا إحساس منه بالتهميش في الحياة، فأنا أربط دائماً التصوف سواء كان في سلوكه الفكري أو في ممارساته الطقوسية بالإحباط في الحياة، فالشيخ أبو نبهان رضي الله عنه تبنى التصوف فكراً وليس ممارسة طقوسية، فوضع في ذلك كتبه.

ثم لما جاء الشيخ ناصر بن أبي نبهان، وقد كان نفس الجو الفكري في العالم الإسلامي وتأثرت به عمان، فأوغل الشيخ ناصر في ذلك، وأتوقع أن الذي جعله يوغل أكثر هو بعد ذهابه إلى شرق إفريقيا، فقد كان له في عمان معارضة للحكم السائد بها، ولما استقطبه السيد سعيد بن سلطان وأخذه من الجو العماني إلى الجو الإفريقي، وهنالك في إفريقيا تأثر أكثر بالتصوف، وفي نفس الوقت التقى هناك بأناس من غير العمانيين يمارسون التصوف الطرقي، فلعل الشيخ هناك تفرّغ وتعمق أكثر في التصوف، ولكنه أيضاً فكري، إلا أن الشيخ ناصر أعطى التصوف البعد الفلسفي، فربط التصوف بالفلسفة والعقل، فقد كان يأخذ بالفلسفة، ويحترم الفلسفة والفلاسفة وينقل عن الفلاسفة، وربط ذلك بالعقل..

العدوي: حاول أن يعقلن التصوف.

السيابي: يعقلن التصوف ويفلسفه، كان عند الآخرين هو حاجة وجدانية وتعبيراً رمزياً، أحاسيس وعواطف، الشيخ ناصر بن أبي نبهان رحمة الله عليه ربطه بالفلسفة، فممكن أن نقول إن التفلسف التصوفي وجد عند الشيخ ناصر بن أبي نبهان، وتعمّق في ذلك وشرح تائيتي ابن الفارض، وألّف كتابه “إيضاح نظم السلوك إلى حضرة ملك الملوك” وغيره من الكتب التي طرح فيها المفاهيم والعبارات التصوفية والفكر الصوفي.

العدوي: قبل أن ننتقل إلى الشيخ سعيد بن خلفان، عندي وقفة في موضوع الشيخ ناصر بن أبي نبهان على اعتبار أني درست موضوعه بشكل خاص، ووجدت من خلال خارطته التأليفية أن كتب الأسرار والحروف والطلسمات التي ينشد بها الخلاص –إن صحت العبارة– كانت في نزوى، بعد أن رحل من العليا وذهب إلى نزوى، والتي آل به الأمر فيها –وهذا ربما يؤيد نظريتك في قضية الإحباط– أن يكون رجلاً فقيراً غذاءه القاشع والماء.

السيابي: نعم؛ كان الشيخ ناصر قد قال بيتين من الشعر في ذلك:

معيشتنا خبز لغالب قوتنا        وماء وليمون وملح وقاشع

فإن حصلت مع صحة الجسم            والتقى فيا حبذا هذا بما هو قانع

العدوي: وخاصة حصلت بينه وبين الدولة القائمة حينذاك جفوة، لكن عندما جاء إلى مسقط بدأ مرحلة عقلنة التصوف في هذه الفترة، خاصة عندما دخل في كنف السلطان سعيد بن سلطان وانتقل إلى زنجبار، تغيّرت نظرته من التصوف البسيط الذي ينشد به الخلاص من خلال الطلسمات والأسرار ونحوها، إلى محاولة فلسفة وعقلنة الفكر التصوفي، ما رأيك في هذا؟.

السيابي: هذا سليم، ونحن متفقون على الرأي الذي طرحته، فهي مراحل مر بها الشيخ ناصر بن أبي نبهان في التصوف، وأقول: إن له فضلاً على الفكر التصوفي، فقد جعله فكراً فلسفياً، ربطه بالفلسفة والعقل.

العدوي: ما نظرتك إلى المحقق الخليلي في تجربته الصوفية؟.

السيابي: يأتي الشيخ سعيد بن خلفان في نفس السلسلة التي ذكرتُها سابقاً، وقد مر أيضاً بمرحلة إحباطية، لمّا كان في شباب العمر ذهب هو ومن معه إلى الرستاق، وكانت تحت حكم السيد حمود بن عزان بن قيس بن الإمام أحمد بن سعيد فسلّمهم المنطقة لكي يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وحتى أنه سمح لهم بأن ينصبوا إماماً، فحاول الشيخ سعيد بن خلفان أن ينصّب إماماً إلا أن الناس تعذّروا عن قبول منصب الإمام، وبقوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الأحكام وفق الفقه الإسلامي، ولكن بعد عام قلب عليهم حمود بن عزان بن قيس ظهر المجن، وأخرجهم من الرستاق، وعاد ليمسك بزمام الأمر وحده، فرجع الشيخ سعيد بن خلفان إلى بلده، وكان يسكن بلدة بوشر؛ وهي في العاصمة حالياً، واشتغل –كما يقول الإمام السالمي– بعلم الأسرار والأوفاق، فكما قلت لك: إن الإحباط له دور في توجه الإنسان إلى التصوف.

ثم لما تهيأ للشيخ سعيد بن خلفان بحكم فكره المذهبي وأطروحاته السياسية في المذهب بأن يقوم مرة ثانية بأمر الإمامة؛ شغل بإنشاء دولة الإمام عزان بن قيس البوسعيدي.

العدوي: يعدّ أبو مسلم ناصر بن سالم بن عديّم البهلاني شاعر التصوف العماني وخاتمته.

السيابي: الشيخ أبو مسلم البهلاني تربى على مدرسة الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، لأن الشيخ أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلي والشيخ أبا مسلم عاشا زميلين وصديقين معاً في وادي محرم من عُمان، فقد صار فكر الشيخ أبي نبهان وفكر الشيخ ناصر بن أبي نبهان وفكر الشيخ سعيد بن خلفان، ومفاهيم التصوفية التي ربطوها بالسلوك وليس بالممارسة الطقوسية، هي الفكر المهيمن في عمان، فأصبح الجميع يتحدث بمفاهيم تصوفية، فالأشعار والأدبيات جاءت في هذا الإطار، والعلماء كانوا يتحدثون بهذا المنطق، وكثرت الخلوات.

حتى الخلوات الرياضية لطلب العلم جاءت في تلك الفترة، أنا اعتبر مساجد العباد في نزوى، والخلوة والابتعاد عن الحياة في بهلا والداخلية جاءت في هذه الفترة ، لأنا لم نكن نسمع قبل ذلك عن عابد يذهب ليعبد الله تعالى في جبل، وفي هذه الفترة ظهر الانعزال حتى أن أحد السادة وهو السيد سيف بن محمد البوسعيدي المعروف بالزاهد انعزل عن الحياة، وأخذ يعيش منفرداً بين الجبال يعبد الله تعالى وحده.

كل هذه المفاهيم جاءت في هذه الفترة إلى عمان ، فما من عالم إلا ومارس الخلوة الرياضية؛ حتى يتحقق له كسب العلم لكي يكون عالماً وحافظاً، فمعظم العلماء من عهد الشيخ أبي نبهان إلى عهد الشيخ السالمي كان الجو المسيطر عليهم هو الجو الفكري التصوفي؛ نتيجة آراء الشيخ أبي نبهان وابنه ناصر والشيخ سعيد بن خلفان، وعلماء كبار كانوا ممسكين برئاسة العلم في عهدهم، فالشيخ أبو نبهان كان المرجع الديني والعلمي الأعلى في عمان في عهده، ثم الشيخ ناصر بن أبي نبهان حل في هذه المنزلة بعد والده، ثم الشيخ سعيد بن خلفان حل هذه المنزلة بعد الشيخ ناصر، فهؤلاء كانوا مراجع علمية ودينية ضخمة، والناس تتبعهم وتسمع لقولهم وكلامهم، وتتبع مراشدهم وعلومهم، وتتناقل معارفهم، فصار فعلاً الجو جو تصوف فكري، حتى الشيخ السالمي الذي لاحقاً أنكر هذا الأمر وقلب عليه ظهر المجن، كان قد تأثر بهذا الجو في بداية عمره، لأنه كان يعيش مع الشيخ راشد بن سيف اللمكي في الرستاق، وذهب إلى الشيخ محمد بن سيف السيفي في نزوى لكي يمارس الخلوة الانعزالية الرياضية ليكون عالماً، فكان متأثراً بنفس الجو، إلا أن الشيخ السالمي لاحقاً عندما اطلع على المعارف والعلوم رأى أن هذه كلها أوهام في أوهام، وأن علوم الشريعة لا يمكن أن تؤخذ بمثل هذه الممارسات.

العدوي: ولا الحياة تبنى بهذه الطريقة.

السيابي: نعم؛ ولا الحياة تبنى بهذه الطلاسم ونحوها، فبالفعل قلب ظهر المجن، وأنكر كل ذلك، لذلك فالمدرسة السالمية فعلاً قلبت الوضع، ويكاد قد قضت على التصوف في عمان، أو حجمته على الأقل، وبقي بعض الممارسات الاجتماعية البسيطة، ولكن كتصوف فكري وحتى كتصوف سلوكي فعلاً المدرسة السالمية قضت عليه، إذاً أقول إن هؤلاء الأقطاب الثلاثة، هم الذين بنوا الحياة الفكرية الصوفية في عمان من منظورها السلوكي.

ألخص كلامي أن الكثير من المفاهيم الصوفية وجدت في هذه الفترة؛ كالانعزال عن الحياة ومن عرف بالسائحين والعباد والزهاد، وكذلك ما عرف بمساجد العباد؛ مساجد صغيرة على رؤوس الجبال وفي أمكان منعزلة بنيت في هذه الفترة.

العدوي: حتى أن حركة نسائية قد قامت؛ كعابدات الفرفارة وعابدات الحجريين.

السيابي: نعم كلهم وجدوا في هذه الفترة، لكن يبقى أن نقول: إن الإباضية في عمان لم يأخذوا بالتصوف كطرق وممارسة طرقية، إنما أخذوا به في جانب التأمل، وفي الجانب التعبدي نسبياً، وهو ما يعبّر عنه بالسلوك ، وظهر أكثر ذلك في أدبياتهم.

العدد السادس ثقافة وفكر

عن الكاتب

خميس بن راشد العدوي

كاتب ومفكر اسلامي