( فلنعط هذا العالم ما يشاء , ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني , فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة , وتحرر العملاق من عقدة عجزه الفني والصناعي , أصبح خطر ” العالم العربي ” وما وراءه من ” الطاقات الإسلامية ” الضخمة , خطرا داهما ينتهي به الغرب , وينتهي معه دوره القيادي في العالم ).
هكذا تحدث المستعمر الأجنبي لبلادنا العربية منذ أكثر من نصف قرن , ووراء ذلك الهدف قد سعى بتعاون مع أعوانه من العملاء والمرتزقة في الداخل العربي على تنفيذ مخططاته الإجرامية السياسية منها والثقافية والاقتصادية , فنجح الى حد بعيد في تحقيق غاياته الاستراتيجية الدنيئة , وعلى رأسها تحويل الأوطان العربية الغالية الى كيانات اقتصادية هامشية هشة ومهمشة بين أمم الأرض , تتبع إرادته وإدارته العابرة للقارات , وتحويل الإنسان العربي فيها الى كائن بشري مستورد في كل شئ , وذلك بفقدان القدرة على الاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية الوطنية والقومية وتحديد الأولويات المستقبلية .
فتحولت مدننا العربية الى مصانع وأسواق تقليدية كلاسيكية لترويج البضائع الأجنبية المستوردة , بهدف تسمين المواطن العربي بالسعرات الحرارية والدهون النباتية والحيوانية , فلم نعد نشاهد في الشوارع غير ملايين الجثث الآدمية المتحركة التي أشبعها ملح الطعام تكلسا وتصلبا وفساد , ففقدت إمكانية التفكير والإبداع والإنتاج بسبب عسر الهضم الذي لم ” ولن ” نجد له دواء من الخارج , ان كان منا من ينتظر ذلك يوما.
فكل شئ أصبح مستوردا – وللأسف الشديد – في بلادنا العربية , بداية بأدوات الثقافة والتعليم والفكر , كالقلم والحبر والورق , ومرورا بالطائرة والجرار الزراعي ومن في شاكلتها من أدوات التنمية والتطور التكنولوجي الحديثة , وأدوات البناء والعمران والصناعة , وأدوات الدفاع عن الوطن والدفاع عن الجسم البشري , وليس انتهاء بطعامنا وشرابنا وملابسنا الداخلية التي يستحي البعض منا أن يشاهده الناس وهو يقتنيها من المحلات التجارية الكبرى , والتي تحولت الى حصالات استثمارية وصناديق ادخار للرأسمالية وأصحاب رؤوس الأموال الأجنبية , والذين تعاونوا مع أمثالهم في الداخل على تفريغ عقولنا وجيوبنا وخيرات أوطاننا تحت أسماء وشعارات تجارية واقتصادية واستثمارية لا حصر لها .
وكل شئ أصبح يأتينا ببراءة اختراع ومناقصة خارجية , وباتفاقية أجنبية مختومة بختم الاستعمار الاقتصادي والأسواق الحرة , وكأن هذا العالم العربي قد أصابه العقم أو الجنون أو الموت السريري , فلم يعد يقدر على الصناعة والإنتاج والاختراع والإبداع وتلبية متطلبات أبناءه وحاجاتهم من خيراته وثرواته وإمكانياته الداخلية الغير محدودة , فتحول فيه الإنسان الى مجرد كائن للتعبئة والتفريغ والاستهلاك , والوطن الى محرقة لكل بضاعة رخيصة فاسدة وغير قابلة للاستهلاك البشري في مصادرها الطبيعية.
نعم … لقد فقدنا الاستقلالية الصناعية والتجارية والاقتصادية , فتحولنا الى أذناب تابعة للاستعمار الاقتصادي والصناعي الغربي , مع ان وطننا العربي الكبير قادر على تلبية رغبات الشعب العربي بأكمله من الغذاء والكساء , بل ومن العقول العظيمة التي لن تعجز عن صناعة الصاروخ والطائرة والسفينة وغيرها من أدوات الحضارة والتقدم , وهذا ما هو حاصل بحق في بلاد الغرب كالولايات المتحدة الاميريكية وأوربا , والتي تشهد بان جزء كبير من بناءها الحضاري والتكنولوجي ونهضتها الصناعية قائم على تلك العقول الإسلامية والعربية العظيمة .
لقد كنا نحن السبب المباشر في هذا التخلف الصناعي , وهذا التراجع الاقتصادي والتكنولوجي الذي يلف العالم العربي بخناق قاتل من الجهل والتبعية منذ أكثر من نصف قرن , كنا السبب لأننا عجزنا عن تحقيق الاستقلال والوحدة ولم الصف العربي تحت راية واحدة , وقوة واحدة , ومرجعية واحدة , كنا السبب وراء هذه الظاهرة الاقتصادية البغيضة التي باتت تغلب على حياة الإنسان العربي وحكوماته – واقصد – ظاهرة الاستهلاك , فلم يعد يقوى على الحراك سوى ان مد الغرب له يده , ولا يقوى على الكلام والتفكير سوى ان علمه الغرب ثقافته وعلومه وحضارته , ولا يقوى على الإبداع والصناعة والإنتاج إلا بأدوات مستورده.
نعم … لقد استوردنا كل شئ من الغرب , فلم نكتفي بالآلات والأدوات حتى بتنا نستورد الأفكار والديمقراطيات والحريات , لقد جربنا كل شئ تقريبا على الطريقة الغربية , حتى بات الواحد منا أشبه بإنسان مستورد بالكامل , فكره وتعليمه وثقافته وطريقة حياته وممارساته اليومية والحياتية , فإذا نزلت الشوارع فانك لن تجد الإنسان العربي , ولن تسمع اللسان العربي , ولن تشاهد العالم العربي المفقود .
فلقد باتت شوارعنا – وللأسف الشديد , وبالطبع فإننا هنا لا نعمم – مليئة بالرث من ثقافة الشوارع الغربية المنحلة , فأينما تتجه ببصرك في بعضها ستجد أنسانا فاقدا لدينه وعروبته وعاداته وتقاليده العربية الأصيلة , لا يعرف للانتماء الوطني , أو الفكر العربي طريق , ستشاهد أقواما لا يعرفون سوى ثقافة الجينز والهمبرغر , ولا ” يرطنون ” سوى باللغات الأجنبية , ولو سألتهم أين يقع المسجد الأقصى الشريف لأجابوك في إسرائيل ؟!!!.
إن العالم العربي اليوم لا يستطيع ولن يستطيع أن يحارب الاستعمار والاحتلال الأجنبي لأنه ( مدين له في ماله , عيال عليه في لباسه وبضائعه , لا يجد قلما يوقع به على ميثاق مع الغرب إلا القلم الذي صنع في الغرب , ولا يجد ما يقاتل به الغرب , إلا الرصاص الذي فرغ في الغرب , ان عارا على هذه الأمة العربية ان تعجز عن الانتفاع بمنابع ثروتها وقوتها , … وان يدرب جيوشها وكلاء الغرب وضباطه , ويدير بعض مصالح حكوماتها رجاله , فلابد للعالم العربي ان يقوم هو بنفسه بحاجاته : تنظيم التجارة والمالية , وحركة التوريد والتصدير , والصناعة الوطنية , وتدريب الجيوش , وصنع الآلات والماكينات ).
إننا اليوم بأمس الحاجة الى نشر ثقافة الاستهلاك بين أبناء الشعب العربي , والوعي بطرق الاستقلال والوحدة , بأمس الحاجة الى ان تفهم حكوماتنا العربية بأنها مستهدفة من الخارج والداخل , من الخارج من خلال التبعية السياسية والاقتصادية وغيرها من أشكال الاستعمار والاحتلال والابتزاز , ومن الداخل من خلال بعض من يدعي انه من أبناءها والخائفين عليها والحريصين على سلامتها , وهو في حقيقة الأمر أول من يسعى الى تفتيتها وإضعاف بناءها الاقتصادي والسياسي , وذلك من خلال ترسيخ مفهوم العجز الصناعي والتجاري , وزيادة مستوى الخنوع والتبعية والاستهلاك , ونشر عادات الاتكال والضعف والاستسلام.
ان المسؤولية الأولى عن تنمية وتطوير البلدان النامية تقع على عاتق حكوماتها ومن ثم على أكتاف أبناءها , وذلك من خلال الالتزام بتحمل المسؤولية الفردية والجماعية ( ان البلدان النامية , مطالبة بأن تتفحص وتفحص جيدا ما هي التكنولوجيا التي تحتاجها وتتطلبها مسيرتها التنموية , حتى لا تشتري أو تمتلك تكنولوجيا لا تستطيع تشغيلها , ومن ثم الإفادة منها الفائدة المرجوة ) , كما هو حال الكثير من بلداننا العربية اليوم – وللأسف الشديد – والتي تشتري احدث النظم والحواسيب والتكنولوجيا وغيرها , في وقت لا يفقه فيه الإنسان فيها كيفية العمل على تلك الأجهزة وغيرها , وتبني البنايات الفارهة ذات النمط العمراني الحديث والمتطور , بينما يعيش أبناءها بعقلية أكواخ القش والطين.
كفانا أيتها الحكومات العربية اتكالا على الآخرين في الإنتاج والصناعة والاقتصاد والسياسة , كفانا تبعية للاستعمار وأعوانه في كل شؤون حياتنا , فقد آن الأوان للاعتماد على النفس والذات والعقل العربي , وقد آن ان نتنبه لما يحاك لأوطاننا العربية الغالية في الخارج والداخل من مؤامرات وحيل ومكائد لتقسيمها وإضعافها , وبالطبع فان ذلك لن يكون سوى من خلال الدفع بالتنمية والتطوير من الداخل أولا , من خلال تطوير الإنسان وعقله وفكره قبل العمران وناطحات السحاب , وبناء العقول من خلال التعليم المستمر الى ما لا نهاية , وتطوير الرؤى المشتركة بين مختلف القطاعات لرسم سياسات موحدة تمكن الحكومات من إتاحة الفرصة أمام مواطنيها للمشاركة الفعلية في اتخاذ القرار , وغيرها من أساليب رفع مستوى الوعي بأهمية الصناعات الوطنية والعربية والانتماء الوطني .
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية