قصيدة النثر في عمان بين غياب الرومانسية وحضور السريالية (5/5)

ومع سعي شعراء هذا الاتجاه إلى نقض “البلاغة التقليدية” ، وإقامة “بلاغة الصدمة ” مقامها كما يسمونها ، والتي تنزع إلى إعطاء التراكيب إمكانيات إضافية قادرة على اختراق قوانين اللغة والبلاغة العربية ، فإنهم كثيرا ما يستخدمون الاستعارات والكنايات وأساليب لغوية وإنشائية تدلل على عدم قدرتهم على الخروج عن هذه القوانين التي يحاولون هدمها أو إقامة بديل عنها .

gono3

سادسا : تبني الرموز الغربية أو رموز مختلقة ليست ذات صلة بواقع الكاتب

تبدو قصيدة النثر في مراوحتها بين الرؤية العربية والرؤية الغربية تكاد تكون مشوشة الرؤية والتفكير وتعاني من ضبابية في توجهاتها الفكرية والرويؤية ، ويمكن ملاحظة ذلك في استخدام كتاب قصيدة النثر للرموز والشخصيات الغربية والإكثار منها ولست أدري هل هذا التوجه يعبر عن رغبة شخصية لدى هؤلاء الكتاب لتعبير عن ثقافتهم الغربية أو هو نوع من التمويه ومحاولة إيهام القارئ بأن لديهم ثقافة ومعرفة بالفكر الغربي

– سيف الرحبي

–         بينما كلب المقهى يزداد نباحا

كأنما حدأة ستمزق مضجع الحارة بعد قليل

الشاحنات عبرت في اللحظة حدبة الجسور

لتستوطن قلب مشرد (خاصة وقت النوم)

أراها تهرش اللحم كالطيور الجارحة

وتختفي في أزقة الشرايين

لكن المطر لا يزال ينزل أمام دكانها وهي

ترتب الفطائر بهلوسات ملاك

فطيرة واحدة

4 فرنكات

وتختفي الشاحنات والنباح في

أنفاق المترو ، أستمع إلى عازف الجاز الذي لم يتحدث عن أية أحلام

“كلوشار” نائم بين تعاريج صرخاته ، أرى قطيعا من الثيران الوحشية ” معجم الجحيم ، ص 13

ويشير فهد المعمري في دراسة عن سيف الرحبي لتأثر الرحبي بالرموز وبالأسماء الغربية وخصوصا الباريسية منها فيقول : “كما تتوالى في نصوص الديوان “رأس المسافر ” كلمات غربية غريبة تفصح عن غربة واعتزال صاحبها مثل أوركسترا ، اكلوشار ، المترو ، ديكور ، مايسترو ، السان ميشل ، عازف الجاز … فالملاحظ أن هذه الكلمات أغلبها أجنبية قد مرت في حياة الشاعر ، وحضرت في ذاكرته ذكريات لا تنسى ، بل تلازمه ملازمة الظل ، وهذا القاموس يوحي بفضاء غربي هو فضاء باريس الذي يعيشه الرحبي بتفاصيله وعمومياته مقيما علاقة احتفاء خاصة بالتفاصيل اليومية الأكثر دقة “، ويرجع المعري الفضل لتطور بلاغة سيف الرحبي لهذه التجربة الباريسية ، فيقول ” هذه العلاقة التي أدت إزاء تجربته الباريسية إلى تطوير بلاغته الشعرية إذ بدون التجربة الجهاتية لن يتحقق إنجاز متطور في الكتابة كما يبدو هذا القاموس تافها نوعا ما بالنسبة للقريض فهو يشير إلى أشياء وكائنات كان يعتقد طبيعة كانت تبعدها عن الشعر لكن بمجرد ما أن فتح الشاعر لهذه الأشياء والكائنات صدر قصائده الرحب حتى أثبتت جدارة ولوجها كان مقتصرا على الأمكنة والحدائق فحسب ” تجربة سيف الرحبي الشعرية ، ص 35 .

أن المعمري يفرغ كل كتابات سيف الرحبي من أي إبداع وينسب هذا الإبداع لهذه الرموز والأسماء الغربية التي ينسب لها تقريبا كل شيء من تطوير بلاغة سيف الرحبي وهي أيضا السبب في إلهامه الشعري فهو ما أن فتح صدر قصائده الرحب حتى أثبتت جدارته الشعرية .ويدلل المعمري على تحليله ذلك بمطلع من نص “مشهد مكرر” ، الذي يقول فيه :

ما بين شارع الشهداء في الحي التاسع

و”السان ميشل”

تحلق حكمة اليوم بأنفاق المترو

الطيور تحتل الثكنات بصياحها العجيب

المهاجرون ينتظمون صفوفا أمام التفتيش

وصداع الرأس لا يأتي إلا بمزيد

من المحبة للفئران” رأس المسافر ، ص 27

والسؤال الذي يطرح نفسه أين هي البلاغة المتطورة أو الجدارة التي أبدعها الرحبي خلال هذا النص السردي الذي لا يحمل أية بلاغة ولا جدارة شعرية أنه مجرد وصف سردي ونثري للذي يحدث كل يوم ما بين شارع الشهداء في الحي التاسع ، و و”السان ميشل” ، فالطيور تحتل الثكنات والمهاجرون ينتظمون صفوفا أمام التفتيش ، ثم لاحظ هذا التعبير السريالي العبثي الذي لا يوحي إلى شيء في قوله أن صداع الرأس لا يأتي إلا بمزيد من المحبة للفئران”

buddha-with-flower

يقول محمد الحارثي في قصيدة بعنوان بطانيات بوذا :

يسقط شكوك الظل

من أطرافه

كموجة مخضلة في السرير

يصغى لرنين الغيب

ينقر قنديل الطاولة

بساحل من الخشب

يصطاد فم الماء

من نافذة مثلومة

في غفلة الأساطير

أنى تثاءب بندول في الصندل

ملتحفا بطانيات بوذا

حالما في الكوكايين

بدم نارد

يسيل من فم تنين

يذرع لؤلؤة الزرقة

بصالات وداع ملكية وجنود “كل ليلة وضحاها ، ص 33

ونلاحظ الرموز التي استخدمها الحارثي ” ببطانيات بوذا ، الكوكايين ،فم التنين ، الأساطير ، لؤلؤة الزرقة “. وهي رموز غربية ليس فيها أي رائحة شرقية .

ومن أمثلة عدم توظيف الرمز والعناصر التراثية بشكل مناسب داخل النص ، نص للشاعر محمد الحارثي  بعنوان ” زنجبار” ، يقول فيه :

أمحت عيون الحديقة

وأزهر الماء

وضحكت ليلي

وأصغت رملة

مضى النادل

بيده / الطاولة

وأتت جوزفين بحكاية

.. وها كأس مزدوج من البورت

للقبطان العائد من ممباسا

وآخر من جوز الهند للعائلة

ها رجل من أسمره يشرب كأسا

حياته الأولى ، وها تمثال لا يثمل

ها قنديل في الروزنة

يصطاد عصافير الفراشات

وها جون ليون يتخيل هنديا

بلل في كأسه الثقة بالدولار

ها هكونامتاتا

وها هم الطيارون الاسكندنافيون يمرحون وعلى أكتافهم

حكمة الأسلاف :

قص جناحيك

وأدر كأسك

وامضغ عشبة الجزيرة ([1]) .

ويتخذ هذا النص منحى الإيقاع السردي ، فيغدو النص أشبه بحكاية يسرد فيها تفاصيل حكاية ليلى . لكنه يخفق في توظيف الرموز والعناصر التراثية التي أختارها الشاعر.

وينطلق النص من خلال رمزين أساسين في عالم الشعر العماني زنجبار والقبطان العائد منها أي ” الملاح والربان” ، و يمثل هذان الرمزان الكثير من الأبعاد  والدلالات في الواقع التاريخي والاجتماعي العماني ، فزنجبار كانت جزءا من الإمبراطورية العمانية في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين حينما قام الأفارقة بثورة ضد الحكم العربي، واستولوا على الحكم فيها ، أما الرمز الآخر فهو القبطان أو الربان وما تمثله هذه المهنة من بعد اجتماعي وتاريخي ، فلقد أرتبط الإنسان العماني بالبحر ، ومن خلال ارتباطه هذا قامت مجموعة من الأعمال والمغامرات البحرية والحكايات الشعبية حول هذه المهنة البحرية نحو حكاية السندباد .

ونلاحظ إخفاق النص في توظيف رمز زنجبار وقد جاء عنوان النص عرضيا دون أن يكون هناك ارتباط بين العنوان ومضمون القصيدة أو أية علاقة برمز زنجبار التاريخي والحضاري ، وذلك لإضفاء مزيد من المراوغة وإدخال القارئ في متاهات النص ودلالاته . وهذه صفة بارزة  تتصف بها قصيدة النثر التي يكتبها بعض الشعراء ؛ وذلك أنها قصيدة مراوغة ، فهي لا تصور وقائع ورؤية محددة متصلة بموضوع القصيدة ولا تلتزم بإطار محدد  في التناول والرؤية ، ولهذا فإن الدكتور نجيب العوفي يرى النص الحداثي ” يبدو في حل من أي التزام أيديولوجي ، وكأنه يتحرك على عواهنه بلا قضية أو أطروحة ، أو هاجس تاريخي محدد ، يقود خطاه ويوجه مسعاه ، وتبدو ملامح الإنسان والمكان ناصلة ماحلة في هذا النص ” ([2]) ، وهذه النقطة تبدو واضحة في قصيدة الحارثي .

ونلاحظ في نص الحارثي وجود خليط من الرموز العمانية والغربية  ، ويشير النص أسميا فقط إلى زنجبار  لكن الشاعر لم يستطع تطوير رؤيته التاريخية والحضارية بعد استثارة القارئ بالعنوان ومرورا بالقبطان العائد من ممباسا وانتهاءً بمضغ عشبة الجزيرة ، فإن الشاعر لم يعطي القارئ أية رؤية محددة عما يقصده بعنونة القصيدة باسم زنجبار أو رؤيته حول القبطان ، وبالعودة إلى النص نلاحظ أن القبطان العائد من ممباسا وهي مدينة أفريقية  يقدم له” كأسا مزدوج من البورت وآخر من جوز الهند” ، وهو ما يخالف صورة الربان العماني الذي يتمسك بعاداته العربية وتقاليد الملاحة المعروفة . ثم لنتصور قليلا الأسماء التي وردت في هذه النص ، “ليلي ، رملة ، جوزفين ، جون ليون ، هكونامتاتا ، الطيارون الاسكندنافيون” ، وهي أسماء يختلط فيها العربي بالغربي دون وجود أية مسوغات أو هدف محدد لوجودها .

ونلاحظ على نص الحارثي وجود بعض الرموز المضللة والبعيدة عن عنوان  النص وموضوعه نحو القبطان والتمثال والقنديل ،  وان الشاعر لم يحافظ على عنوان قصيدته ورموزها ولم يحافظ على وحدة الموضوع أصلا ،والنص بوجه عام  يعاني من القطيعة الفكرية مع الموضوع الذي كتب من أجله ، فلا هو كتب عن زنجبار التي سمي بها النص ، ولا هو التزم بموضوع الحكاية التي بدأها عندما أمحت عيون الحديقة وأزهر الماء وضحكت ليلى ، ولكنه في مراوحته بين الفكرتين ضيع رمز زنجبار والحكاية الأخرى .

وتبدو الرموز التي استعملها الحارثي في نصه رموز مضللة وبعيدة عن عنوان وموضوع النص وان الشاعر لم يحافظ على موضوع النص ورموزه ، ونحن لا ندعو الشاعر بالالتزام بعنوان أو موضوع القصيدة بقدر ما ندعوه إلى المحافظة على روح ومضمون الرموز الحضارية العمانية التي أثارها في قصيدته حتى يبزر النص روحه وملامحه العمانية .

وفي مجال توظيف رمز زنجبار والقطبان العائد من ممباسا يمكن أن نستشهد بقصيدة لهلال العامري يتحدث عن زنجبار ، ويصور الشاعر هلال العامري أحداث زنجبار من خلال حكاية بحار عماني التقاه الشاعر على ظهر سفينة عابرة ، والقصيدة بعنوان ” كان يصلي الفجر على شواطئ ممباسا ” :

وبدا يقص حكاية الشاخوف

من ميناء صور

ووسادة كانت له في البوم

وجراب تمر

كيس به بعض النقود

وبقية من ذكريات

وبخور

ورأيته يجتر ذكرى الأمس

ويقول : ضاعت زنجبار

والدمع تحبسه مآقيه

كبرا وعندا واقتدار

وتنهد المسكين من ألم

أترى تذكر زنجبار ؟

وانبرى تحدوه آمال كبار

وحنين ماض في السويداء

وتلفت المسكين في وجل وقال :

سأراك في أرض الطفولة يا بني

إن كان في عمري بقية

ورأيته يطوي عمامته القديمة

ومع البخور

يلف أشلاء يتيمة

هي ما تبقى من مزايا الانتظار ([3])

ويربط هلال العامري حكاية الربان العائد مع ضياع زنجبار التي تمثل حالة الفقد في القصيدة ، وقد نجح في توظيف رمز البحار العائد من زنجبار وفي تقديم الحكاية السردية من خلال البحار ، وما تمثله زنجبار كرمز في ذاكرة الشعر والحضارة العمانية .

وتبدو المقارنة بين نص الحارثي وقصيدة العامري أكثر واقعية ، فالقصيدتان تشتركان في الحديث عن قبطانين عائدين من ممباسا أحدهما يحتفظ بوسادة كانت له في البوم وجراب تمر وكيس به بعض النقود وبقية من ذكريات وبخور ، وهي رموز تاريخية وحضارية تمثل تراث الشعب العماني وحضارته البحرية والإنسانية  ، بينما نجد في قصيدة الحارثي خليطا من الرموز الغربية ،فالقبطان العائد من ممباسا أيضا يحمل كأسا مزدوج من البورت وآخر من جوز الهند ، وجون ليون يتخيل هنديا بلل في كأسه الثقة بالدولار ، وقطة تلعب الدمينو ، وزرافة تضع على الطاولة شوكة وسكينا وشريحة خرتيت وهكونامتاتا والطيارون الاسكنافيون يمرحون وعلى أكتافهم حكمة الأسلاف ، وبعيدا عن بعض الرموز المشتركة تبدو القصيدة وكأنها سيرك مختلط بالرموز العربية والغربية .

وشتان ما بين الرموز التاريخية والحضارية التي ذكرها هلال العامري في قصيدته وما بين الرموز والأسماء التي ذكرها الحارثي في نصه والتي لا يمت أكثرها لموضوع القصيدة ، وهناك الفرق بين توظيف كل من الشاعرين لهذه الرموز التي جاءت في قصيدة العامري ضمن نسيج الموضوع والصياغة الشعرية ، بينما نجدها في قصيدة الحارثي مقحمة ومركبة تركيبا لغويا مفتعلا ، ولا علاقة بين أكثرها وبين موضوع النص .

arabic art

سابعا : استخدام البلاغة العربية

عندما ظهرت قصيدة النثر كان في أول سلم أولياتها هي القضاء على البلاغة التقليدية وقطع الصلة بالتراث لكن كتاب قصيدة النثر في سعيهم الجاد للتعويض عن فقدان الإيقاع وجدوا أنفسهم مضطرين للبحث عن بدائل أخرى تعيد لقصائدهم شيئا من الموسقة فاتبعوا أنواعا أخرى من فنيات القصيدة العربية القديمة نحو التسجيع والتقفية واستخدام أساليب البلاغة العربية المعروفة التي كانوا يريدون التخلص منها

ومع سعي شعراء هذا الاتجاه  إلى نقض “البلاغة التقليدية” ، وإقامة  “بلاغة الصدمة ” مقامها كما يسمونها ، والتي تنزع إلى إعطاء التراكيب إمكانيات إضافية قادرة على اختراق قوانين اللغة والبلاغة العربية ، فإنهم كثيرا ما يستخدمون الاستعارات والكنايات وأساليب لغوية وإنشائية تدلل على عدم قدرتهم على الخروج عن هذه القوانين التي يحاولون هدمها أو إقامة بديل عنها .

يقول سيف المعمري عن قدرة سيف الرحبي على اختراع الصور الجادة ، ومشيرا إلى سعي الرحبي إلى نقض البلاغة التقليدية وإقامة بلاغة الصدمة مكانها ، ” وميزة سيف الرحبي تكمن في قدرته التصويرية ، وتنوع موضوعات شعره ، إذ تبدو لدى الشاعر طاقة وافرة على الاستمرار في اختراع الصور الجادة ، الصور التي تتجدد أمام القارئ ، باتجاه متصاعد يسمو بها إلى فضاءات من الصخب . فالتصوير بهذا المعنى ليس شخصيا أو هادئا أو جمالية محايدة إنه يصدر عن علاقة مضطربة بالمواد التي تتشكل منها الصور . وهذه العلاقة سمة اللغة الشعرية عند الرحبي ، تلك اللغة التي تسعى إلى نقض البلاغة التقليدية لتقيم مقامها بلاغة الصدمة ، فالتراكيب نفسها تنزع إلى إعطاء التراكيب إمكانيات إضافية على الإدهاش في اختراقها للقوانين المعروفة باللغة العربية ” تجربة سيف الرحبي ، ص 20

لكن المعمري يعود في صفحات لاحقة من بحثه يعدد الصور الشعرية التي استخدم فيها الرحبي أدوات البلاغة العربية في التصوير ، فهو يقول في ص 37 من بحثه ، وما أكثر الاستعارات والكنايات والتشبيهات التي تزخر بها معظم صوره الشعرية كما في قصيدة سهرة ، ويقول في موضع أخر ،” أما فيما يتعلق بالاستعارة ، فنشير إلى أن الصورة الشعرية عند الرحبي تستخدم الاستعارة بنوعيها التصريحية والمكنية مما يجعلها تسقط في فخ المباشرة والتقريرية وكمثال لاستعارته التصريحية نذكر هذا البيت من قصيدته “نجمة الأعاصير ” :

حين تدخل ريح الجنوب إلى رأسها

الخضب بعواء

المقاهي والقطارات

وإذا كانت تسمية الشيء تقضى على ثلاثة أرباع المتعة بالقصيدة كما يرى ملارمي فإننا نلاحظ المستعار له الذي هو : كيف حذف الشاعر من البيت أعلاه – الضجيج- ووضع محله المستعار منه الذي هو – العواء- مما جعلنا أما صورة توحي و لا تقول” تجربة سيف الرحبي ، ص 37 . ويقول في موضع أخر “وإذا كان للاستعارة دور في تجسيد معاني الصورة وإخراجها محسوسة زاخرة بالحركة والحياة فإن للكناية دورها هي الأخرى في “رأس المسافر” ، لا من حي اختزالها لعدة مدلولات في دال واحد ، بل من حي انتهاؤها إلى العصر والفضاء المعيش ” المصدر السابق ، ص 38 .

يقول محمد الحارثي في مقطع مليء بالاستعارات وفيه كناية واحدة :

–                     أنت الباحث

عن عسل الأيام

في قارورة الصبر

تخفي دمعة الشمعة

في مشكاة البيت و ترحل

بفرحة نمر يخمش قصيدته الأولى

في السماء  ([4])

– طردتنا الأيام من بهائها العالي

ومن الحلم الذي حلمناه

أبجدية تضفر عروق السفر فينا بجزر الوهم الأول ([5])

وفي تصوري إن تزاحم الاستعارات والتشبيهات في القصائد الماضية تدل على حاجة الشاعر الحداثي للبلاغة العربية ، وعلى عدم استغنائه عنها ، كما تدل على أنه أكثر اعتمادا عليها في كتابته النثرية حتى يعوض نقص الإيقاع في النص . وإن أية مقارنة مع نصوص إيقاعية ( شعر عمودي أو تفعيلي ) تجعلنا نتساءل : لماذا تتجرد التجربة الصادقة من تزاحم الاستعارات والتشبيهات ؟ ولِماذا  تختار تجربة قصائد النثر مشهدا غامضا يكون المضمون فيه غامضا تعجز قدرات الشاعر عن البت في أمره ، فيلجأ إلى الاستعارات والتشبيهات الكثيرة حتى يوهم المتلقي بقوة نصه ؟ ولِمَ يتداعى الخيال في قصائد الشعر الحر والتفعيلي بفعل قوة سحرية في الموسيقى حتى ليبدو الشاعر حراً تماما ، يختار ما يشاء من أساليب اللغة وأدواتها وعناصرها ويوظفها في قصائده دون الاعتماد على شكل بلاغي معين ؟


([1]) الملحق الثقافي لجريدة عمان تاريخ يونيو 1996 ، نص زنجبار .

([2]) منطوق الحداثة ومسكوتها ، د.نجيب العوفي ، مجلة نزوى عدد إبريل 1996 ، ص 114 .

([3])  الكتابة على جدار الصمت ، قصيدة كان يصلي الفجر على شواطئ مماسبا ، ص 49 .

([4]) كل ليلة وضحاها ، نص الصائد ، ص 24 .

([5]) عيون طوال النهار نص كمبيوتر  ، ص 30 .

العدد السادس ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. شبر الموسوي

.
.
.
.