الحرية بين الإباضية والمعتزلة – تعليقا على مقال الليبرالية والإسلام

نرى أنّ هناك عدة اعتبارات أو معايير يمكننا من خلالها أنْ نثبت أو ننفي أنّ هناك حضوراً للحرية أياً كانت درجته في مذهب من المذاهب أو فرقة من الفرق، أهمها: الموقف من دور العقل ومدى أهميته-فحرية العقل مكافئة لحرية الإنسان-، ويرتبط به مدى قدرة الإنسان على الاختيار واستطاعته وإرادته، فهذه الاعتبارات يمكن من خلالها الحكم، أما الرواية فلا أرى أنّها تصلح أنْ تكون معياراً لذلك، والسبب أنْ الجميع وظف الرواية في خدمة مذهبه وآراءه-وإنْ كان بدرجات متفاوتة-.

tyranny-in-arabic-and-islamic-culture

نشر الدكتور زكريا المحرمي مقاله”الإسلام والليبرالية” في مجلة نزوى العدد 62، وفي العدد الأول من مجلة الفلق في شهر فبراير 2010 الماضي، حيث توصل في نهايته إلى مجموعة من النتائج، منها: أنّ الكاتب يرى “حضوراً مكثفاً للحرية في التراث الإسلامي من خلال الإباضية والمعتزلة”، ويدلل على كلامه من خلال قلة الروايات عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهو يعتبر إن كثرة الروايات هي السبب في فقدان الحرية وعدم حضورها في بعض المذاهب والفرق، والإقلال منها سبب لحضور الحرية بكثافة في أخرى، وبما أنّ الإباضية والمعتزلة مقلين منْ الروايات فالحرية حاضرة بكثافة في أفكارهما، والمذهبان متفقان في هذه القضية.

من الطريف في هذا السياق أنّ الإباضية يتفقوا مع المعتزلة في أغلب المسائل الرئيسية في علم الكلام: كالصفات الإلهية، ومصير مرتكب الكبيرة، وخلق القرآن، والرؤية، والشفاعة، والإمامة، لكن الاختلاف الرئيسي بينهما كان في قضية العدل، أو ما سمي القضاء والقدر أو أفعال الإنسان.

وفي تاريخ الفكر الإسلامي ارتبطت مسألة حرية الإنسان بقضية القضاء والقدر، حيث يمكن تصنيف آراء الفرق-في هذه القضية- إلى ثلاث أقسام: الأول المعتزلة القائلون بحرية الإنسان الكاملة، في الجانب المقابل لهذه الإتجاه الجبرية التي تنفي الحرية نفياً كاملاً، والثالث حاول التوفيق أو التلفيق بين الرأيين السابقين، فتهافت لعدم اتساقه المنطقي والمنهجي، وفشله في التعبير عن حرية الإنسان.

نرى أنّ هناك عدة اعتبارات أو معايير يمكننا من خلالها أنْ نثبت أو ننفي أنّ هناك حضوراً للحرية أياً كانت درجته في مذهب من المذاهب أو فرقة من الفرق، أهمها: الموقف من دور العقل ومدى أهميته-فحرية العقل مكافئة لحرية الإنسان-، ويرتبط به مدى قدرة الإنسان على الاختيار واستطاعته وإرادته، فهذه الاعتبارات يمكن من خلالها الحكم، أما الرواية فلا أرى أنّها تصلح أنْ تكون معياراً لذلك، والسبب أنْ الجميع وظف الرواية في خدمة مذهبه وآراءه-وإنْ كان بدرجات متفاوتة-.

بالنسبة للمعتزلة فنتفق مع الدكتور على ” الحضور المكثف للحرية” في مذهبهم، يؤكد ذلك إعلائهم من شأن العقل، ومقولتهم أنّ الإنسان خالق لأفعاله ليؤكدوا على حرية الإنسان وقدرته واستطاعته وفعاليته، يقول أبو طاهر الطريثيثي في كتابه متشابه القرآن:”.. وبعد فقد بينا أن تفسيرهم رد منهم لدلالة العقل والكتاب والسنة والإجماع”، فالعقل أول الأدلة، ويقول القاضي عبدالجبار(415هـ) في كتابه شرح الأصول الخمسة:”إن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وإنهم المحدثون لها، فالله تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأفعال العباد…، يقول تعالى:(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)،فقد فوض الأمر في ذلك إلى اختيارنا”، أي أنّ الإنسان يحدث أفعاله وتصرفاته، لذلك فهو يتمتع بالحرية الكاملة في أنْ يختار بين الإيمان والكفر.

أما في المذهب الكلامي عند الإباضية فلا نجد فيه هذه المعايير -بهذا الاتجاه- التي من خلالها يمكن أنْ نقول بحضور الحرية فيه، فالإباضية يقدموا النقل على العقل ويكبلوه به، ولا يؤمنوا أنّ الإنسان يخلق أفعاله- المعبر عن أقصى ما يمكن في التأكيد على حرية الإنسان-، بل يؤمنوا بنظرية الكسب-وأول من قال بها ضرار بن عمرو الذي عاش في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث الهجري- وهي تعبر عن تناقض وعدم اتساق فكري، بقصورها في التعبير عن حرية الإنسان المقابلة لعدل الله عزوجل.

يقول ابن بركة(362هـ)-وهو من أبرز علماء الإباضية-، في كتابه الجامع في الصفحتين 159-160:”.. لم يفوض الأمرَ إلى عباده ليستبد كل إمرئ منهم بمراده،…..أفليس في هذا القرآن دليل لأولي التمييز والأبصار على أنّه لا يستطيع من سبق له الخذلان أنْ يدخل في ملة أهل الإيمان، ولا يقدر أحد ممن سعد بالإسلام على الخروج من الإيمان إلا بمشيئة الله تعالى فلا سابق لأمره ولا راد لحكمه، خالق الخلق ومدبر الأمر، تعالى الله عما يقول المبطلون”، فالإنسان كما يرى ابن بركة:”لم يفوض الأمر إليه،..لا يستطيع…ولا يقدر..”، هل يمكن أنْ نفهم من هذا التراكيب أكثر من أنّ الإنسان مجبر، وكيف يمكن أنْ نثبت حضوراً مكثفاً للحرية في المذهب الإباضي، ونحن لم نستطع حتى أنْ نثبت حضورَ أقلَ قدرٍ من حرية الإنسان.

ومن الطريف-أيضاً- أنّ ابن بركة(362هـ)، يرد بكلامه هذا على من يصفهم بالمبطلين، لا بل الملحدين المنكرين لأحكام كتاب الله، وهو هنا يقصد المعتزلة بالتأكيد، يقول عنهم:”..إذ قالوا: فقد شاء الله من الخلق أنْ يؤمنوا وكره منهم أن يكفروا، وأحب الكافرون أنفسهم أنْ يكفروا فكانت محبتهم غالبة لمحبته، ومشيئتهم ظاهرة على مشيئته، فهم إن شاءوا أن يكفروا نفذت مشيئتهم..”.

لذلك فكلام الدكتور غير دقيق في جمعه بين الفرقتين في قضية الحضور المكثف للحرية، لاختلاف موقفهما- الاختلاف هنا يصل إلى أقصى مدى، حيث يعبر ابن بركة عن حدته من خلال وصف المعتزلة بالمبطلين والملحدين والمنكرين للقرآن- من المعايير التي تؤسس لحرية الإنسان، ويمكننا من خلالها قياس مدى حضورها، فهاهنا لا يمكن الجمع ألبتة بين الإباضية والمعتزلة في سلة واحدة في هذه القضية.

العدد السابع ثقافة وفكر

عن الكاتب

سعيد الطارشي

-الاسم/سعيد بن مبارك بن علي الطارشي
-تاريخ الميلاد/29/1/1978
-بكالوريوس تربية كلية المعلمين بصلالة 2000
-دبلوم عالي علوم سياسية 2006
-دبلوم عالي في الإسلاميات 2008
-معلم تربية إسلامية في وزارة التربية والتعليم
-باحث في الفكر الإسلامي