قتال المشركين في السنة النبوية والحديث والفقه

من يتتبع سيرة النبي عليه السلام ونهجه في التعامل مع المشركين يجد أن كثيراً مما شاع فقهاً في مراحل لاحقة لم يكن حاضراً في تعامل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، إذ كانت طريقته عليه السلام وسيرته تمثلاً لقيم الكتاب العزيز التي كان عنوانها: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة:190

jihadist2

تحدثت في مقال سابق نشر في أحد أعداد مجلة (الفلق) عن قتال المشركين وفقاً لمحددات القرآن ومفاهيمه، وقلت هناك إنه لا يوجد قتال على أساس الكفر بعينه، فالقرآن كان صريحاً وحاسماً لهذه القضية، إذ (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) البقرة:256، أما بخصوص آيات القتال العامة فهي تتحدث عن حرب قائمة بالفعل، وهي مبررة بمبرراتها الشرعية في آيات أخرى من صد للعدوان ونصرة الضعفاء والمظلومين ومواجهة من يهددون بالفعل كيان الجماعة المؤمنة تهديداً فعلياً، وعالج المقال كذلك موضوع الآيات الأولى في سورة التوبة والتي عرفت في الفقه بآية السيف، وقد تسبب الفهم المغلوط لها في التشويش على مجمل النظام القرآني في التعامل مع مختلف الملل والنحل؛ حتى وصل الأمر بكثيرين إلى ادعاء نسخ آية السيف لعشرات الآيات من القرآن.

قتال المشركين في السنة النبوية

سنة النبي عليه السلام هي نهجه وسيرته، وهي تَمثلٌ لقيم الكتاب العزيز ومقاصده العليا، إذ السنة تمثل الحكمة النبوية في تطبيق القرآن (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) آل عمران: 164، قال أبو سعيد في المعتبر: (والسنة كلها تأويل لكتاب الله تبارك وتعالى)([1])، وقال ابن بركة: (وأحكام الشريعة كلها مأخوذة من طريق واحد وأصل واحد، وهو كتاب رب العالمين… والسنة أيضاً مأخوذة من الكتاب)([2]).

ورسالة النبي عليه السلام هي رحمة للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107، ودعوة الأنبياء جميعاً قوامها الإقناع بالحسنى وترك مسألة الإيمان خياراً للعباد بينهم وربهم:

– (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل:125

– (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس:99

– (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) الكهف: 29

لما بدأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة في مكة واجه عتواً من كفار قريش، تحول الأمر بعدها لإيذاء من آمن بالدعوة، وبعد سنوات عديدة من الاضطهاد هاجر المؤمنون إلى المدينة ومنهم من هاجر إلى الحبشة قبل ذلك، وكان مجتمع المدينة بداية تكون المجتمع المسلم، وكان مجتمع المدينة بداية تكون المجتمع المسلم، واكتمل عقد المؤمنين في المدينة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها.

وكان أول تفاهم جرى مع أهل الكتاب من اليهود الساكنين في المدينة ما عرف بصحيفة المدينة، والتي كانت افتتاحيتها: (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا كتابٌ مِنْ محمدٍ النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينَ المسلمينَ والمؤمنينَ من قريشٍ ويَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وجاهَدَ مَعَهُمْ، إِنَّهُمْ أُمَّةٌ واحدةٌ دونَ الناسِ، المهاجرونَ من قريشٍ على رِبَعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ، وهم يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بالمعروفِ والقِسْطِ بينَ المؤمنينَ، وبَنُو عوفٍ على رِبَعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الأُولَى، وكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بالمعروفِ والقِسْطِ بينَ المؤمنينَ…)، ووفقاً للعديد من الروايات الواردة في الصحيفة فقد نصت بعض بنودها على:

1ـ أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وكذلك لغير بني عوف من اليهود.

2ـ وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

3ـ وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم‏.‏

4ـ  وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه‏.‏

5ـ وأن النصر للمظلوم‏.‏

6ـ وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏.‏

7ـ وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ‏.‏

8 ـ وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها‏‏.‏

9ـ وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب‏.‏‏.‏ على كل أناس حصتهم من جابنهم الذي قبلهم‏‏.‏

10ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم‏‏([3]).‏

وهذه البنود تكشف عن تفعيل لدلالات القرآن في التعامل مع غير المسلمين بناء على مبادئ العيش المشترك وعلى القيم الإنسانية من العدل والإنصاف وترك الظلم والاعتداء.

وهذا التحالف مع غير المسلمين على أساس هذه القيم كان مع غير أهل الكتاب من الوثنيين، فقد كانت قبيلة خزاعة حليفة للنبي صلى الله عليه وسلم([4]) وكان سبب فتح مكة هو إعانة قريش لبني بكر على خزاعة، فقام على إثرها عليه السلام بفتح مكة([5]).

والحروب التي خاضها النبي الكريم عليه السلام كانت لأجل رد الاعتداء ودفع الظلم أو لقيام خطر فعلي يهدد الجماعة المؤمنة، ومن ذلك:

• غزوة بدر: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) آل عمران: 123، وكانت بحسب التاريخ في السنة الثانية للهجرة، وكانت قريش قد أخرجت المؤمنين من أهل مكة من ديارهم بغير حق (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) الحج: 39-40 .

• المعارك مع اليهود: وهي بحسب ما تذكر كتب السير كانت مع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ويهود خيبر بسبب خيانتهم ونقضهم العهد مع المسلمين، (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ،ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الحشر:2-4.

• غزوة أحد: وهي معركة كانت في مواجهة التهديد المستمر لقريش ورغبتها في الانتقام مما حصل لها في بدر.

• غزوة الخندق: وهي غزوة حوصر فيها المسلمون داخل حدود المدينة وهددوا فيها بالاستئصال، (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) الأحزاب: 10-11.

• غزوة الحديبية: وكان المسلمون راغبين في تأدية مناسك العمرة التي حرموا منها بسبب استئثار كفار قريش بالأماكن المقدسة وحرمان المسلمين منها، فكان اتجاه المسلمين إلى تأدية المناسك دون شن حرب على أحد، وساقوا الهدي دليلاً على صدق نواياهم (هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) الفتح:25.

• فتح مكة: وهو فتح بسبب نقض قريش للعهود والمواثيق التي تم إبرامها في الحديبية بإعانتهم حلفاءهم من بني بكر على خزاعة حلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض فيه النبي محمد عليه السلام لأهل مكة وعفا عنهم ولم يطالبهم بالإسلام أو السيف كما صار حال بعض النظريات الفقهية من بعد.

• غزوة العسرة (=تبوك): وكان تجهيزاً حربياً موجه ضد الروم وحلفاءهم في بلاد الشام، بعد أنباء مفادها قيام الروم بتجهيز حملة ضخمة لغزو الجزيرة واستصال القوة الجديدة الناشئة (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) التوبة: 117 .

قتال المشركين في الحديث أو الرواية

من يتتبع سيرة النبي عليه السلام ونهجه في التعامل مع المشركين يجد أن كثيراً مما شاع فقهاً في مراحل لاحقة لم يكن حاضراً في تعامل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، إذ كانت طريقته عليه السلام وسيرته تمثلاً لقيم الكتاب العزيز التي كان عنوانها:

–         (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة:190

–         (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة: 8

–         (فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) النساء:90

لكن على الرغم من ذلك وجدت بعض الروايات التي رويت لا تمت بصلة لهذا النهج القرآني والطريقة النبوية، وهي عند التحقيق نتاج مختلف العوارض في الرواة الذين نقلوا الأخبار، يقول البسيوي (ق: 4هـ) معالجاً موضوع مخالفة الرواية للقرآن: (فمن حدثكم بحديث يخالف القرآن فلا تصدقوه واتهموه، إلا ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما يؤيد القرآنُ مثلَه)([6]) .

ومما روي في الروايات التي نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح نسبتها إليه؛ ما روي عن ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)([7]).

وهذه الرواية بألفاظها هذه لا تصح لمخالفتها القرآن، وقد تفطن هلال بن عطيه (ت:134هـ) لمشكلة بعض ما يسند إلى النبي عليه السلام؛ عندما قال إن (هناك من يسندون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم روايات أحاديث، يتركون من الحديث بعضه ويأخذون بعضه، فيظهر اللفظ مخالفاً لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) ([8])، فأغلاط الرواة في الأحاديث التي يروونها عن النبي عليه الصلاة والسلام تؤدي أن يظهر لفظ الحديث مخالفاً للكتاب والسنة.

ومخالفة هذه الرواية للقرآن تكمن في أن آيات القرآن قررت من أوله إلى آخره مبادئ:

–         (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) البقرة:256

–         (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) البقرة:272

–          (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) آل عمران:20

–         (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس:99

فليس في القرآن أمر بقتال الناس لفرض عقيدة التوحيد عليهم، فالإيمان ينشر بالدعوة والحجة والبرهان وليس بالقتال، وهذه كانت طريقة كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما القتال المشروع فهو لقتال المعتدين والمهددين للسلم والأمن الداخلي والخارجي (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة:190، ولعل أبرز مثال على القتال المشروع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قتال المرتدين ومانعي الزكاة؛ لما شكلوه من تهديد لكيان دولة قائمة على أسس التوحيد، فكان من الواجب قتالهم وإخضاعهم لسلطة الدولة.


قتال المشركين في الفقه

تباينت اتجاهات الفقه المأثور عن مختلف المدارس الإسلامية في معالجة موضوع قتال المشركين، ومن المعلوم أن الفقه في جانب منه هو انعكاس للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تسود المجتمعات، وكذلك هو معبر عن منظومة التفكير السائدة فيها، وإذا جئنا نقرأ الآراء الفقهية في التعامل مع القضية فسنجد كل ذلك حاضراً، وهو أمر يمكن تفهمه والتماس العذر لقائليه، لكن الأمر الذي لا يمكن فهمه هو أن تتحول الآراء الفقهية إلى قناعات راسخة غير قابلة للمراجعة والعرض على ثوابت الدين.

ويمكن إجمال مواقف الفقه الإسلامي بمدارسه التاريخية القديمة والحديثة على اتجاهين رئيسين هما:

1. الاتجاه القديم: وهو الاتجاه الذي يرى قتال المشركين على اختلاف أصنافهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وذلك بناء على اعتبار وصف الشرك والكفر، وهو اتجاه له حضور كبير بين الفقهاء المتقدمين كاد أن لا يكون له مخالف بينهم.

2. الاتجاه الحديث: وهو اتجاه يرى الدعوة وسيلة لنشر الدين وقيمه، ويرى التعايش مع المجتمعات التي يسودها الشرك، والقتال موجة لأولئك الذين يعتدون أو يهددون السلم السلم والأمن الداخلي والخارجي، وهو الاتجاه الذي شاع لدى العديد من الفقهاء المتأخرين من كافة المدارس الإسلامية، وكان للمدرسة الإصلاحية التي تزعمها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا الدور الأكبر في إعادة طرح المسألة وبحثها من جديد، وتتالى الفقهاء من بعد ذلك في تأييد طرحهم والانتصار له حتى صار هو التوجه الشائع لدى جمهور الفقهاء المتأخرين.

itihad

وفي العقد الأخير دُعم هذا التوجه بقوة من قبل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو تجمع مستقل لعلماء المسلمين، ضم رموزاً من فقهاء المسلمين من كانة المدارس الإسلامية، ويرأس الاتحاد الدكتور يوسف القرضاوي، وللرئيس ثلاثة نواب من الفقهاء هم: عبدالله بن بيه من موريتانيا، وواعظ زادة من إيران، وأحمد بن حمد الخليلي من سلطنة عمان([9])، وقُرر هذا التوجه في ميثاق الاتحاد-الذي يمثل الخطوط العريضة له- تحت عنوان (الإسلام والسلام والجهاد):

(( ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما في مكّة المكرّمة  يدعو الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لا يسألهم أجرا، ولا يبتغي منهم أمرا، إلا أن يقولوا: ربنا الله.

ولكن قومه عليه الصلاة والسلام من قريش، وحولهم مشركو العرب، قاوموا دعوته بالأذى والاضطهاد والفتنة والمقاطعة والتعذيب، الذي انتهى بالاخراج من الديار.

وكان المسلمون يأتون الى النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مشجوج ومجروح، ويستأذنون أن يحملوا السلاح ليدافعوا عن أنفسهم، فيأمرهم بالصبر واحتمال العذاب، ويقول لهم: …(كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة)… [النساء 4/77].

استمر المسلمون طوال العهد المكي  في جهاد مستمر، ولكنه لم يكن جهادا بالسيف والسنان، بل كان كان جهادا بالدعوة والبيان والتبليغ للرسالة، وهو ما سماه القرآن جهادا كبيرا في قوله تعالى: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به – أي بالقرآن – جهادا كبيرا) [الفرقان25/52].

وكان جهادا بالصبر على البلاء والايذاء، ومنه المقاطعة التي أكل المسلمون معها أوراق الشجر، ومنه الهجرة الى الحبشة مرتين، وفي هذا جاء قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُـفتـنون) [العنكبوت29/2].

إن المسلم أبدا مجاهد على امتداد حياته: مجاهد لنفسه وشيطانه، مجاهد للشر والفساد من حوله، مجاهد بلسانه وقلمه في تبليغ دعوته، ولكنه ليس دائما مقاتلا.

إن القتال لا يجب في كل حال، بل يجب بوجود أسبابه التي سنذكرها بعد.

ولا غرو أن عاش الرسول وصحابته طوال المرحلة المكية مجاهدين، ولكنهم لم يقاتلوا إلا بعد الهجرة.

لقد ظلوا كذلك حتى هاجروا الى المدينة، ونزلت أول آية تأذن لهم بالقتال دفاعا عن أنفسهم وحرماتهم. وهي قوله تعالى: (أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُـلموا وان الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله…) [الحج22/40].

وقد ظلّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم خلال المرحلة المدنية – عشر سنوات – يقاوم الجبهات التي أعلنت عداوتها لدعوة الاسلام: جبهة الوثنية العربية، والجبهة اليهودية، ودولة الروم البيزنطية، وهو ما اضطره عليه الصلاة والسلام أن يغزو نحو (27) غزوة يشهدها بنفسه، وأن يبعث من أصحابه بضعا وخمسين سرية. لم يكن في أي منها هو البادىء بالغزو، أو المتعدي على الآخرين، بل كانت كلها ردا على غزو واقع، أو غزو متوقع، كما يشهد بذلك كل دارس منصف لتاريخ غزوات الرسول، من بدر الى تبوك. بل كان بعضها غزوا مباشرا للمسلمين في عقر دارهم كما في أحد والخندق. ولهذا قال المحققون من علماء الأمة: إنّ الجهاد لم يشرع إلا دفاعا عن الحرمات، وهو ما يدل عليه بوضوح: مجموع آيات القرآن، وصحاح الأحاديث.

وحسبنا قوله تعالى: في شأن المشركين: (… فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) [النساء4/90]، فهذا يفيد تحريم قتالهم))([10]).


===========================

المراجع

[1] أبو سعيد الكدمي، المعتبر، ج1 ص14.

[2] ابن بركة، الجامع، ج1 ص280. انظر تفصيل مسألة تبعية السنة والحديث للقرآن من كتاب (السنة: الوحي والحكمة)، العدوي والمحرمي والوهيبي.

[3] سنن البيهقي الكبرى (16703)، وانظر: سيرة ابن هشام، الأموال للقاسم بن سلام.

[4] مصنف ابن أبي شيبة (32692).

[5] ابن حجر، تلخيص الحبير، ج4 ص130.

[6] البسيوي، جامع أبي الحسن البسيوي، ج3 ص45.

[7] الربيع (464)، البخاري (390).

[8] أحمد بن يحيى الكندي، علوم السنة عند الإباضية، ص136، نقلاً عن هلال بن عطية، سيرة هلال بن عطيه، ص81 (مخطوط).

[9] انظر موقع الاتحاد على الانترنت: www.iumsonline.net

[10] انظر نص الميثاق على موقع الاتحاد: www.iumsonline.net

العدد الثامن ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي