العودة للكتابة بقلم رصاص

أعيتني أيقونةُ الملامةِ، شمسُها وضحاها المُتلألئ على صفحة الشاشة – أعيتني، ففكرت بالبحث عن آلةٍ كاتبة (كتلك التي استخدمتها ڤرجينيا وولف).. لا تملُّ من عزف سيمفونيَّتها الصَّداحةِ ببُطءٍ يتسارعُ أو بتسارعٍ يتباطأُ إيقاعاً مع ضربات الأصابع…
لكنَّ تلك الآلات الفاتنة اندثرت في أيامنا هذه وبالكاد، بالكاد يلمحها المرءُ تندبُ حظها (تحت الحراسة المُشدَّدة)
في ملكوت مُتحف لا يُزار.

Consuelo Mari o

العودة للكتابة بقلم رصاص

محمد الحارثي

I

مُستعمرة مُؤقتة

[إلى سماء عيسى]

ليس أبداً في تلك المُستعمرة الغارقة في دموع بحَّارتها

ينسون أبجديَّة أسمائهم على اليابسة..

ليس في تلك المستعمرة المؤقتة، ولا في سِجلِّ خطاياها

المليء بالأخطاء – بل في مراثي راينر ماريا ريلكه

تصلُ جَبَّانة المَجاز مُتأخرةً خلف إيقاعها

لتقتفي رائحة المعنى المُغلغل في قلعةٍ لم تُرمَّم أبراجُها

لاصطياد وديعة البُرتغاليين المُنحلَّة في بُحيرة اللغز.

ليس في تلك المُستعمرة، ولا في سجلِّ خطاياها..

ففي الطوفان، في طوفان الآتي حدثت أشياء كثيرة

ما زالت تحدث في الماضي، ولكن بصيغة المستقبل

بصيغته المُستعادة في مُخيخ الخروف

الذي طال انتظاره لشاحذ السِّكين

حتى انفلقت حُصيَّةُ قلبه الصغير قبل اقتراب

خطوة الجَزَّار من حبل مَربَطه

لأنها تعرفُ أنَّ ضربة هيتشكوك

لا تُرعِب؛

ما يُرعِبُ هو انتظارها.

سننتظرُ إذاً، سننتظر…

عَلَّ ذئبَ المُستعمرة، علَّهُ حين يتملى الخريطة بعينه العوراء

يهتدي إلى دروبها المُعبَّدَة لا لينجو بغنيمة الجغرافيا، بل ليستعيد

مَلكَتهُ على كتابة التاريخ بالمقلوب:

سُقوط دون قيامة.

سقوطٌ قد يُغنيهِ عن فكرة الجزّار، تشويقِ النهايات في أفلام

هيتشكوك وحُصيَّةِ قلبِ الخروف تبدو، عن بعد، صقيلةً على الشاشة

بعد تطوافٍ كلُّ طُرقاتِه مسدودةٌ، مفتوحةٌ كُلُّها…

لأنَّ جمرة الحقيقة لن تُستنطق في البئر

ولن تُترك على السطح تذرو رمادها في مرآةٍ مكسورةٍ

لن ترى فيها حتى شبح انعكاسها المثلوم.

من، إذن، سيتكفلُ برتقِ النهايات؟ من سيُجصِّصُ تماثيلَ الأمثولة..

(في الواقع، كما في الأفلام)

ولو بأقلِّ خسائر القوافي المُتبقية في دَواةِ الأسلاف..

إن كان لا بُدَّ من رُقعةٍ، من ريشةٍ تُغمسُ في دَواتها

من فأسٍ ومن حَطاب نهاياتٍ قد يتحاشى شجرة البداية

قد يتحاشاها مرَّةً، ولن يفلعَ ظِلها المُستلقي تحتها

على مَفرش اليابسة..

قد يتحاشى الظلَّ، قد يتحاشاهُ لكنهُ لن يستبقي

شجرة النهاية في النهاية..

والقصيدة لن تنتهي بنقطة لن تختتمَ سطراً كهذا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لن تُستنطقَ جمرة الحقيقة، لن تُستنطق..

والنهايةُ لن تنتهي عند نقطتها الخاتمة –

فقد أضيفت إلى سِجلِّ الخطايا

وسَلفاً، سَلفاً أُغلِقَ ذلك الكتاب.

II

حاشية لفهرس المَصادر والمَراجع

[إلى خميس بن راشد العدوي]

لا تتوهَّقْ أبداً! لا تتوهَّقْ

ودعكَ الليلة مِن أبي مُسْلم البهلاني وفهرسِ آثاره الكؤود..

مِن آياتِ مقصورتهِ المَرقومَةِ على صفحة الماء

مِن عُود نونيَّتهِ المِرْنانِ في بوارقه الأولى

كما في بَخترَةِ القبائل…

ومِن رُبعه الخالي حتى من أقراص بسكويت زنجبار

الذي لم يُضمِّنهُ مدائحَ شايهِ السِّيلاني المُهرَّب

مِن منفى محمود سامي البارودي.

في مُفرد القصيدة، في مُفردها دعكَ منه

وفي المُثنى: شمعةِ الحقيقةِ ودَرْكِها، دعكَ مرَّتين..

وثلاث مرَّاتٍ، ثلاث مرَّاتٍ، ثلاث مرَّاتٍ دعكَ منه

في جُموع تكسير تفنَّقتْ آلاؤها

في هذه الطبيعةِ الغُبيراء، كما في حواشيها الإلهيَّةِ.

لا تتوهَّقْ!

ولا تلتفتْ إلى المَصادر والمَراجع في حاشية الفهرس

فدكَّانُها الإلهيُّ لا يبيعُ فاكهة المُعجزات..

ولكن لا بأس، لا بأس في هذه الفصحى أن تتركَ رمانة الاستعارة

كي تنضج حُبيباتُ حِكمتها في الجَبل

بعد أن تفلقَ جَوزةَ المَجاز مرَّتين، ثلاث مرَّاتٍ أو…

(بعد أن تشرب شايَ الضُّحى)

لتنحَلَّ الجَوزةُ استعارةً لا ترعوي عن نايها الصدَّاحِ

بسُلِّمِهِ الموسيقيِّ، دونما حاجة لمَصمصةِ القوافي

التي مَخرَت بُحورَ الخليلِ بلا جدوى –

دعكَ من أحفادِ أحفادهِ العاطلين عن العمل

في أكثر من مَنجَرةٍ لقصائد النثر.

لا البوصلةُ ستصلُ جزيرة البرزخ، ولا إبرتُها المُمغنطة

برواية فرقةٍ لم تنجُ من طوفانها – لأنَّ الوَحيَ والحِكمة

أدارا الدَّفة سَلفاً، دونما حاجةٍ لمَتنٍ حامضٍ أو حواشٍ

شاخت قيلولاتها من عَبث صبيَةٍ لن يكفوا عن حياكةِ

طُرَرٍ جديدةٍ لعمائمهم التي لم تُغسلْ

بأمواهِ التُّقى في أفلاج الأئمَّة..

تماماً، كما لن يكفوا عن صَنفرَةِ الأحاجي التي

مَلَّتها بَيضةُ السُّؤالِ القديم ودجاجتُه

بعد أن دَوَّتْ حَصاةُ الحُجَّةِ في المِحبَرة.

أمّا وقد شربتَ إكسيرَ الشاي..

أمّا وقد شربتهُ في الضُّحى دون سائر الأوقات –

فدعك من العِلّة، دعك منها في هذه الهاجرة

لترْقعَها الشمسُ على حَصير بائع الخضار..

دعكَ منها، دعكَ ولكن لا تدَعْ مَعلولها وحيداً

يُفلسِفُ حَصَاتهُ اليتيمة في قلعةٍ على وشك الانهيار.

III

استراحة في حديقة الوقفات

“الوقفات تغدو شيئاً أشبه بالاستراحات، ولا يمكن أن يستغني المرءُ عنها في القراءة؛ إن شاء أن يُعاني بصورة كاملة اللحظةَ الشعريةَ التي تتدفق من كلِّ بيت شعر مُستقلاً عن الانسجام الهارموني الكُلّي للقصيدة. فالوقفة ليست وسيلة طباعية، بل هي بالأحرى حالة سيكولوجية. وهي في بعض الأحيان أهم من بيت الشعر الذي يسبقها”.

الشاعر البيروفي البرتو إيدالجو

سنستريحُ أيها الشاعر، سنستريح..

سنقتفي إرشادات الطريق – تعثرنا أم لم نتعثر بحصبائها

سنقتفيها بالأصبع المبتور، بالأصبع المُضاف إليه

ولن نكفَّ عن إضافةِ أكثر من حَجَرِ عثرةٍ

بعد عُبور العَتبة:

حَصاةِ وقفةٍ ملساء لالتقاط الأنفاس بين الجُمل اللاهثة

أو صخرةٍ لم تزل في طريق هاويتها قبل أن يتأرجحَ

مصيرها في كُتلة الفراغ الذي نسيت تلوينه ريشةُ الرسَّام

بين حَجَر وليَم بطلر ييتسْ وجلمود مُعلقة امرئ القيس…

حيث كلُّ قصيدةٍ قبل ولادتها حملت في أحشائها الأحفاد والأسلاف –

قصُرتْ أم طالت العثراتُ بين بيت وآخر…

لسببٍ أو دونما سببٍ؛ افرَنقعَتْ أم لم تفرَنقعْ عنهُ جُملةٌ مُعترضة

قد تبطئ مجرى السَّيل، قد تبطئ مجراه ليتدفق سيَّالاً – إن لم تتلقفهُ

الأقـ(الفاتحة والغالقة)ـواس

إن وُجدتْ!

وإن لم توجد؛ فالمصيدة كامنةٌ بين السُّطور تُخفي

أو تُظهِرُ انقطاعاً مُفاجئاً لوتيرة الإيقاع.

دعك من الأسطر المنقوطة

(الأسطر التي لا تقول شيئاً)

. . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . .

رغم أنها تقول كُلَّ شيء في حديقة الوقفات

ما يُستغنى عنهُ وما…

لأنها ملاك القصيدة الحارس في مُراهنات الأبديَّة

لا تكتفي بيدمومةِ حَجرٍ أو حصاة؛ لتحيا القصيدةُ

لتحيا كُلَّ يوم حياتها التي لا تنتهي

بين صفحات الكتاب.

IV

قوَّادُ الخليقة

“عَجبتُ من إبليسَ في تِيههِ | وخبثِ ما أظهَرَ في نِيَّته

تاهَ على آدم في سجدةٍ | وصار قوَّاداً لذريَّته”

أبو نواس

هذان البيتان -الفاتحة- كانا قفلةً اختتمَ بهما

الحسنُ بن هانئ قصيدة شبَّبَ في أبياتها بغلامٍ

تمنَّع في قُبلةٍ عابرة..

لكنهُ بعد أن أثمَلتهُ الرَّاح؛ بعد أن أثمَلتهُ التي واللُّتيّا..

لم يلبث أنْ مَلَّكَ الشاعرَ مهمَّة حَلِّ تِكَّةِ سرواله المربوطة

بأكثر من عُقدةٍ وعُقدةٍ تحت فصٍّ سُرَّته –

حتى صار الغلامُ، حتى صار بعد حُميّاها لا يَدفعُ عن نفسه

(ناهيك عن التكَّة التي لم تعُد معقودةً)

هو الذي لم يكن يأذنُ للشاعر حتى بعبور النهر

لمُجرَّد تقبيلهِ في مطلع القصيدة.

بَيدَ أنَّ العِلَّة لم تكُن في القبلةِ المُحرَّمةِ

(قبل حُميّا الكأس)

ولا في عُقدةِ التِّكةِ التي تراخت حولَ خصر الغلام

بين أصابع الشاعر الباحثِ عن فالوذج التَّحت والفوق

(كحكايته الأخرى مع أبي طَوق)…

لم تكُن العِلَّةُ، لم تكنْ في الكأس ولا في فُصوص التشبيب

بل في مَعلولها الفلسفيِّ النَّضاح في قفلةِ القصيدة

أما الشاعرُ والغلامُ فلا أكثر من تِعِلَّةٍ طافيةٍ

في نهر العُبور لكتابتها.

V

قاربُ الكلمات يرسو أخيراً..

عجيبٌ أمرُ ثلاثتهم: الفأرةِ، لوحةِ المفاتيح ومُعالج الكلمات الذي

لا يُعالجها في مَصحَّةِ بيل غيتس، بل يفعل العكس تماماً

حين يُنسيني حفظها في الملف الصحيح..

لتقفز أيقونةُ المَلامة على الشاشةِ قبل أن ألوم نفسي، مُعالجَ الكلمات

والفأرةَ اللعوبَ إثر اختفاء أكثر من قصيدة ليلٍ

في شُموس الصَّباحات التالية..

أعيتني أيقونةُ الملامةِ، شمسُها وضحاها المُتلألئ

على صفحة الشاشة – أعيتني، ففكرت بالبحث عن آلةٍ كاتبة

(كتلك التي استخدمتها ڤرجينيا وولف)..

لا تملُّ من عزف سيمفونيَّتها الصَّداحةِ ببُطءٍ يتسارعُ

أو بتسارعٍ يتباطأُ إيقاعاً مع ضربات الأصابع…

لكنَّ تلك الآلات الفاتنة اندثرت في أيامنا هذه

وبالكاد، بالكاد يلمحها المرءُ تندبُ حظها

(تحت الحراسة المُشدَّدة)

في ملكوت مُتحف لا يُزار.

كدتُ أرفعُ الرَّايةَ، كدتُ أرفعها استسلاماً

لكنني آثرت الانصياع لنصيحة هيمنغواي؛ وعُدتُ للكتابةِ

بقلم رصاص عبرتُ بمجذافه المَبريِّ أكثر من صفحةٍ

ليرسو قاربُ الكلماتِ أخيراً على ضفةِ الوصول –

لولا أنني حين تماديتُ في مُجاراةِ صاحب النصيحة، حين تماديتُ

في مُجاراته بالكتابة واقفاً على الحائط فشلتُ في إتقانِ جُمَلهِ القصيرة.

أدب العدد التاسع

عن الكاتب

محمد الحارثي

شاعر وكاتب