ظلّت التّرجمة دومًا حراكًا ثقافيًّا حضاريًّا بين الشّعوب المختلفة؛ بيد أنّ هذا الحراك لم يكن قطّ نقلًا سلسًا للأخبار أو مزجًا بريئًا للعلوم أو تلاقحًا ثريًّا بين الثقافات وكفى، وإنّما كان ساحة صراع فيها من التأويلات المتباينة ما فيها من الأخطاء الصّرفة، فيها من تأثّر الترجمة بالسّياق ما فيها من تأثّر السّياق بالترجمة؛ سأناقش هذه الأطروحة من خلال كتاب المسيحيّين المقدّس تشابكًا بين الترجمة، والدين، والسياسة.
سأبدأ بتوطئة لغويّة تاريخيّة، وذلك لوضع الترجمة- نتاجًا وعملًا- في سياقها الثقافيّ العامّ؛ ولد السّيّد المسيح في فلسطين الواقعة تحت الحكم الروماني في بيئة متعدّدة اللغات، فهناك الآراميّة واللاتينيّة والإغريقيّة والعبريّة؛ وكانت جلّ أجزاء كتب اليهود المقدّسة مكتوبة أصلًا بالعبريّة وبعضها بالآراميّة، إلّا أنّ كثيرًا من اليهود كانوا قد فقدوا لغتهم العبريّة عند ولادة المسيح، فأغلب عوامهم كانوا يتحدّثون بالآراميّة وخواصهم بالآراميّة والإغريقيّة، الأولى حلّت محلّ العبريّة، وتبوّأت منذ القرن السادس قبل الميلاد حتّى القرن السابع الميلادي في بلاد الشام وبلاد الرافدين مكانة “اللنغوا فرانكا”- أيْ اللغة المتداولة لدى من تختلف لغاتهم الأمّ- أمّا الثّانية فقد كانت لغة العلم والفكر والثقافة، فترجمت إليها كتب اليهود في نسخة تعرف بـ”السبعينيّة”.
وإن كانت كتب اليهود قد ترجمت إلى الإغريقيّة فإنّ كتاب المسيحيّين المقدّس كتب أصلًا بالإغريقيّة بين عامي 50 و100 الميلاديَّين؛ ويشتمل على العهدين القديم والجديد، الأوّل يحيل إلى كتب اليهود المقدّسة لكن لا بنسختها الأصليّة العبريّة وإنّما بترجمتها السبعينيّة الإغريقيّة؛ أمّا الثاني فيتضمّن أناجيل المسيحيّين الأربعة: إنجيل متّى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنّا إلى جانب سفر أعمال الرسل وسفر رؤيا يوحنّا ورسائل القدّيس بولس الموجّهة إلى اليهود وإلى أهالي بلدان مختلفة؛ وكانت الدعوة مقتصرةً في بدئها على اليهود، ولكنّها تطوّرت لاحقًا لتضمّ غير اليهود ممن كانوا يُعرَفون بـ”الجنتايل”- أيْ رعايا الإمبراطوريّة الرومانيّة من غير اليهود؛ وبعد صلب المسيح وصل تلامذته والمبشّرون به إلى مدن بحر المتوسّط الرئيسة في ذلك الوقت مثل الإسكندرية والأناضول والقبرص وكريت وروما.
ارتبطت المسيحيّة في قرونها الأولى بمدينتين كبريين: روما وبيزنطة؛ الأولى- عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة الغربيّة- كانت أحد أنشط مراكز الدعوة الخمسة في القرون الأربعة الأولى، وكان القدّيسان بولس وبطرس من أبرز من وصل إليها من الدعاة المبشّرين؛ واكتسب دورها في نشر المسيحيّة زخمًا لافتًا في عهد قسطنطين الأوّل، فهذا الإمبراطور ما إن أحكم سيطرته على روما إثر خروجه ظافرًا من معركة جسر ميلفيو في عام 312 حتّى قرّر منع اضطهاد أتباع المسيح والسماح لهم بإقامة شعائرهم علانيةً، وقد أصبحت المسيحيّة لاحقًا الدين الرسميّ للإمبراطوريّة؛ أمّا الثانية- عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة- فقد كانت مقصد المبشّرين والوعّاظ، فجلّ الكنائس التي أقيمت في أوّل المسيحيّة كانت في آسيا الصغرى، ولعلّ أهمّها “الكنائس السبع” المذكورة في سفر الرؤيا، زد على ذلك أنّ أربعةً من المراكز الخمسة المشار إليها في أوّل الفقرة كانت من ضمن أراضيها، وهي بيزنطة والأناضول والإسكندرية والقدس.
على أنّ العلاقة بين جانبي الإمبراطوريّة شهدت على مرّ الزمن من المشاحنة والمنافسة ما أثّر في مسيرة المسيحيّة؛ فروما- الناطقة في المقام الأوّل باللاتينيّة- لم تستطع الصمود أمام القبائل الجرمانيّة الغازية، إذ سقطت في عام 475، فحكمها الغزاة “البرابرة” واستوطنوا فيها، فاختلطت لغتهم وثقافتهم بلغتها وثقافتها؛ أمّا بيزنطة- الناطقة في المقام الأوّل بالإغريقيّة- فقد حافظت على نفسها كيانًا سياسيًّا مستقلًّا مدّةً أطول من الزمن، ورأت بذلك نفسها أنّها الحاضنة الأحقّ بالمسيحيّة؛ فصارت المنافسة بينهما تصطبغ بصبغة عقديّة، فقد اختلفت رؤاهما حول موضوعات كثيرة مثل التثليث، واستخدام الخبز المخمّر في أثناء أداء الطقوس الدينيّة، ومكانة البابا والبطريك، ومكانة رجال الدين عامّةً إن كانوا سلطة روحيّة وحسب أم روحيّة وسياسيّة معًا؛ والناتج من هذه الاختلافات أنّ روما وبيزنطة صار لكلتيهما كيانها الكنسي الخاصّ بها: “الكنيسة الرومانيّة الغربيّة” المتمثّلة بالكاثوليكيّة من جهة و”الكنيسة الرومانيّة الشرقيّة” المتمثّلة بالأرثوذُكس من جهة أخرى؛ ومع مرور الزمن توسّعت الفجوة بين الكنيستين حتّى آلت إلى خلاف حادّ شديد اللهجة، إذ أخذت إحداهما تتّهم الأخرى بالهرطقة وتغلق دُور العبادة الخاصّة بها في 1054، عام ما يُعرَف بـ”الانشقاق الكبير”؛ فكان ذلك من جملة ما جعل كلتيهما عرضة لانقسامات داخليّة وأخطار خارجيّة؛ فالأولى واجهت حركةً إصلاحيّة قادها مارتن لوثر (1483-1546)، حركةً تمخّض عنها مذهبٌ جديد عرف بالبروتستانتيّة، والثانية سقطت في أيدي العثمانيّين في عام 1435، فتحوّلت أكثر مراكزها إلى حواضر إسلاميّة.
كانت ترجمة الكتاب المقدّس بعهديه تجسيدًا في وجوه وسببًا في وجوه أخرى لهذا التنازع عبر التاريخ؛ فقد مرّ ذكر الترجمة الإغريقيّة للعهد القديم، أمّا العهد الجديد المكتوب أصلًا بالإغريقيّة فقد كانت هناك ترجمات لاتينيّة له، غير أنّ القدّيس جيروم لم يكن راضيًا عليها مقتنعًا بها، فعكف على مراجعتها في أواخر القرن الرابع الميلادي، وأصدر نسخته اللاتينيّة المعروفة بـ”الفولغاتا”(1)؛ وهناك فروقٌ عقديّة جوهريّة بين اليهوديّة والمسيحيّة مردّها إلى الترجمة؛ فكلمة الـalmah، مثلًا، تعني في العبريّة “الفتاة التي بلغت سنّ الإنجاب”، ولكنّها ترجمت إلى “العذراء”؛ وكلمة الـsheol العبريّة تعني المكان المظلم الذي يمكث فيه الموتى، أمّا purgatorium اللاتينيّة فتحيل إلى مكان يمكث فيه المذنبون، حسب الكاثوليك الرومان، لفترة تطهيرًا لهم من ذنوبهم قبل لحاقهم بأهل الجنّة؛ وهناك تضاربٌ في التأويل بين اليهودية والمسيحيّة، فالأولى تؤوِّل “المسيح” على أنّه الشخص الذي سيأتي منقذًا للشعب اليهودي- أيْ إنّ هذا الشخص لم يأتِ بعدُ؛ أمّا الثانية فهي ترى أنّ الذي بُشِّر به قد أتى، وهو يسوع المسيح الذي خلّص البشريّة من آثامها(2).
لم يقتصر الأمر، ترجمةً وتأويلًا، على المسيحيّين واليهود، فالمذاهب المسيحيّة كان لها نصيبها منه؛ فمن أقدم المسائل الشّائكة مكانة الأيقونات والتماثيل المجسّدة للسّيّد المسيح والسّيّدة مريم والقدّيسين؛ فالإمبراطور البيزنطي أصدر في عام 726 أمرًا بمنع وضع مثل هذه الأيقونات في الكنائس ودور العبادة، فعارض بابا روما ذلك بشدّة، واجتمع رجال دين “الكنيسة الشرقيّة” في عام 786 في بلدة “نيقيّة”- مدينة إزنيق التركيّة حاليًّا- ساعين إلى تدارك الخلاف، فقرّروا أنّ الأيقونات لها منزلتها من الاحترام والتبجيل؛ بيد أنّ الكلمة الأخيرة نقلت إلى ملك الفرنجة شارلمان- أو تشارلز العظيم- مترجمةً إلى “العبادة”، فغضب الملك ورجال الدين في بلاطه مما عدّوه مروق بيزنطة من الدين؛ لم تكن هذه القراءة مخاض خطأ في الترجمة أو اختلاف في التأويل وكفى، وإنّما كانت موقفًا سياسيًّا أيضًا، وقد تأكّد ذلك في عام 800، فالبابا دعا شارلمان إلى روما، ونصّبه في يوم ميلاد المسيح إمبراطورًا عليها، فكان ذلك أصل ما بات يعرف لاحقًا بـ”الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة”؛ هذا التنصيب له- لا ريب- دلالاته، فهو ينطوي على تحدّي بيزنطة وإحياء روما بعد سقوطها قبل ثلاثة قرون من جهة، وعلى تعزيز دور البابا وتقوية شوكته من جهة أخرى، إذ لم يمضِ على التنصيب وقتٌ طويل حتّى صار البابا يتحفّظ على ما كان معمولًا به من قبل غير متنازع عليه، من ذلك أنّه عارض حقّ بيزنطة في تعيين البطريك من دون الرجوع إليه.
لعلّ الخوف على البابا، مكانةً وسلطةً، والمؤسّسات الهرميّة المنبثقة منه كان واحدًا من جملة الأسباب الرئيسة وراء استهجان ترجمة الكتاب المقدّس إلى اللغات المحلّيّة في القرون الوسطى؛ إلّا أنّ عهد النهضة الأوروبّيّة شهد شيئًا من الميل عن الفكر الديني القرو-وسطي إلى فكر أكثر ارتباطًا بالجماهير من الناس؛ فمع أنّ النهضة أحيت التراثين اللاتيني والإغريقي، فإنّها في الوقت ذاته رفعت من قيمة اللغات المحلّيّة؛ فدانتي أليغيري (1265-1321) كتب “الكوميديا الإلهيّة” بالإيطاليّة المحكيّة لا باللاتينيّة، فهذه كانت لغة النبلاء والقساوسة والأساقفة ورجال الدين عامّة، وهؤلاء كانوا قد نصّبوا أنفسهم الوسيط بين الربّ وبين الجماهير غير المتقنة للّاتينيّة؛ من هنا كانت ضرورة ترجمات يقرؤها المتعلّمون من العوامّ من غير وسيط ومن غير شفيع، فأقدم مارتن لوثر (1483-1546) على ترجمة الكتاب المقدّس إلى الألمانيّة في عام 1522، والواقع أنّ ذلك كان إقدامًا رائدًا، فقد احتذى به غير واحد من معاصريه، فكانت هناك ترجمة جاك لوفيفر الفرنسيّة في عام 1530 وترجمة ويليام تيندل الإنجليزيّة في عام 1535.(3)
ولما كانت مثل هذه الترجمات تنطوي على رفع شأن اللغات المحلّيّة ومن ينطق بها من العامّة فقد قابلها الخاصّة من رجال الدين والسياسة بمعارضة شديدة أودت ببعض المترجمين؛ ويليام تيندل، مثلًا، سأل أسقف لندن إن كان بإمكانه أن يترجم الكتاب المقدّس، فغضب الأسقف ورفض رفضًا قاطعًا، فاستشعر تيندل بالخطر، فغادر إنجلترا هاربًا إلى أوروبّا حيث أنجز عمله، وعندما بلغ الأسقف ذلك أصدر أمرًا بمصادرة الترجمة وإحراقها، فظلّ تيندل المتّهم بالهرطقة فارًّا حتّى قبض عليه وحكم عليه بالموت حرقا؛ لنا أن نقول من ذلك إنّ الترجمة لم تكن هنا وسيلة لنقل أفكار المصلحين الدينيّين وحسب، وإنّما كانت عملًا وحراكًا ضدّ بنى المجتمع القائمة، حراكًا كان المراد منه نقل السلطة من فئة إلى أخرى، أو فلنقُل بعبارة أدقّ، من الخواصّ إلى العوامّ؛ وإن كان من وسيلة فهي آلة الطباعة التي كان الألماني يوهان غوتنبرغ قد اخترعها في القرن المنصرم.
فالطباعة كانت أداة فاعلة في جعل ترجمة لوثر وكتاباته الإصلاحيّة الأخرى في متناول الكادحين والفقراء بسرعة مذهلة، وربما كانت هذه السرعة من جملة ما أدّى إلى قيام إحدى أكبر الثورات الشعبيّة التي شهدتها أوروبّا قبل الثورة الفرنسيّة، فقد انتفض بين عامي 1524 و1525 ما يقارب 300000 فلّاح في أجزاء من ألمانيا والنمسا وسويسرا ضدّ النبلاء والطبقات الأرستقراطيّة مطالبين بحقوقهم؛ أخذ هذا المنزع الجماهيري شكلًا لغويًّا، نحوًا وتركيبًا وأسلوبًا، في القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد نشطت الحملات التبشيريّة في آسيا وأفريقيا إبّان الاستعمار الأوروبّيّ لهما، فكانت هناك ترجماتٌ إنجليزيّة أريدَ منها أن تكون في متناول الشعوب المستعمرة ذات المستويات التعليميّة غير العالية إلى جانب ترجمات إلى لغات محلّيّة؛ كما شهد النصف الثاني من القرن العشرين ترجمات كانت قريبة من الإنجليزيّة الحديثة المتحرّرة من تلك السمات الأدبيّة التي لطالما ارتبط بها النص الديني؛ فـ”الكتاب المقدّس الحيّ” (1971) لكينيث تايلور، مثلًا، ترجمةٌ أقرب إلى إعادة السّبك منها إلى ترجمةٍ مبنيّة على مبدأ التكافؤ بين النصّ المصدر والنصّ المترجم.(4)
على أنّ هذا الحراك وهذا المنزع الجماهيري لم يكن خطًّا ثابتًا مطّردًا؛ فنحن هنا بين يدي جملة من المفارقات: أوّلًا، كُتِب الكتاب المقدّس أوّل مرّة بلغة غير لغة المسيح وغير لغة العوامّ المحيطين به، فقد رأينا في التوطئة أنّ اللغة السّائدة في القرن الأوّل الميلادي في المنطقة كانت الآراميّة لا الإغريقيّة؛ ولما كانت هذه الأخيرة لغة المتمكّنين أصلًا من ذوي الجاه والمنزلة، فإنّ مقولة تمكين العوامّ بالترجمة ليس لها معنى ذو بال؛ ثانيًا، دور السّلطة السّياسيّة في رفع كلمة المسيحيّة وإعلاء شأنها بين الشّعوب يوازي دورها في كسر شوكتها وتقسيمها إلى فئات ينازع بعضها بعضًا؛ فمن جهة أدّى إقرار الإمبراطور قسطنطين الأوّل بالمسيحيّة دينًا شرعيًّا إلى قبول واسع لها، ولكن من جهة أخرى كان التنافس بين روما وبيزنطة سببًا رئيسًا- أو ربّما السبب الرئيس- وراء “الانشقاق الكبير” وتقسيم المسيحيّة إلى الكاثوليك والأرثوذُكس؛ ثالثًا، تحدّى مارتن لوثر سلطة الفاتيكان وانتصر لعوامّ الناس، فترجم الكتاب المقدّس إلى الألمانيّة، ولكنّه في الوقت ذاته عارض بشدّة ثورة الفلّاحين التي مرّ ذكرها، وفي ذلك من التناقض والتضارب ما فيه؛ أمّا ذيوع أطروحاته في أوساط العوامّ على نحو غير مسبوق فإنّ مردّ ذلك أقرب إلى السياق المادّيّ منه إلى مثاليّة رؤاه، فالعامل الحاسم في ذلك كان، كما رأينا، آلة الطباعة.
وفي الختام لعلّ لي أن أختزل هذه المفارقات الثّلاث، انطلاقًا مما قلته بشأن ترجمات الكتاب المقدّس وربطها غير القابل للفكّ بالسّياق والسّياسة، فيما أراه المفارقة التاريخيّة الكبرى: إنّ ما نؤمن به مبدأً عقديًّا ثابتًا ساميًا هو في الواقع قرار سلطة نافذة أو مخاض تأويل غير دقيق أو ترجمة غير صحيحة؛ إن رأينا ذلك ربما أدركنا أنّ الجزميّة ليست بفضيلة، وإنما هي كلمةٌ ترادف قصورًا في نظرنا وفقرًا في وعينا التاريخي والإنساني؛ عليه إن تبنّيناها- أعني الجزميّة أو القطعيّة- كانت حكمًا علينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 Vulgate كلمة لاتينيّة الأصل، وتعني “الكلام الدارج”.
2 هذه الأمثلة ساحاتٌ لتأويلات في غاية التفصيل والتعقيد، ولها تاريخٌ يضيق المقام عن شرحه.
3 ثمّة مداخل وافية بعض الشيء عن ترجمة كتب اليهود والمسيحيّين المقدّسة وعن التراث الترجمي للغات مختلفة مثل اللاتينيّة والإغريقيّة والألمانيّة والعبريّة والإنجليزيّة والفرنسيّة في
Mona Baker (2001 [1998]) (ed.) Routledge Encyclopedia of Translation Studies. London: Routledge.
4 ربّما ينبغي لنا أن نتذكّر هنا أنّ ترجمة المعاني الدينيّة، أثرًا وتأثيرًا، لم تقتصر على الكتاب المقدّس، فالكتب الفلسفيّة الدينيّة كان لها نصيبٌ منها؛ لقد قلت بأنّ النّهضة الأوروبّيّة أحيت التراثين اللاتيني والإغريقي؛ على أنّ ما لم أقله هو أنّ هذا الإحياء جاء في غير وجه منه عبر ترجمات وتأويلات عربيّة إسلاميّة؛ فالمترجم مايكل سكوت (1175-1232)، مثلًا، تعلّم العربيّة ودرس أعمال ابن سينا وترجم أعمال ابن رشد؛ وكان لهذا الأخير أثرٌ كبير فيما يعرف بالـ”سكولاتيّة”، النهج الفلسفي المسيحي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديَّين في الجامعات الأوروبّيّة، المبني من جانب على التحليل الفلسفي الديالكتيكي ومن جانب آخر على الفهم الكاثوليكي اللاتيني؛ هذا الأثر لم يأتِ من مرور بريء للأفكار، فالكندي ترجم وفسّر فلسفة أرسطو على نحو سبّب “تشوّشًا”، حسب الفيلسوف البريطاني برتراند رسل، في فهم العرب له، فألبسوه ثوبًا أفلاطونيًّا محدثًا، و”المدرسة الرشديّة” كانت من الحضور في أوروبّا ما صار مرادفًا للإلحاد؛ ويقول رسل في ذلك إنّ من أهمّ الأدوار الفلسفيّة التي أدّاها توما الأكويني (1225-1274) في هذا الشّأن هو “تنقيح” أرسطو من أيّ أثر لابن رشد أو لغيره من الفلاسفة المسلمين؛ لتفصيل أوفى لهذه الآراء انظر الفصلين الخاصّين بالفكر الإسلامي والأكويني من كتاب رسل:
Bertrand Russel (2004 [1946] History of Western Philosophy. London: Routledge.