سلاحفٌ وتلالٌ:
فوق رابيةٍ صدفيةٍ تشرف على مستنقعٍ لأشجار القرم، مطلة على خليج عمان، تقع مقبرة ٌقديمة ٌجداً. دفنت فيها أميرةٌ يعتلي رأسها طوقٌ صدفيٌ من ورق الغار، تخفي وجهها بصدفةٍ عملاقة،ٍ وترافقها حقيبةٌ جلديةٌ تضم قوالب من أكسيد المنجنيز والحصى الوردي، إلى جانبها حاويةٌ صدفيةٌ مملوءةٌ بكحلٍ مجلوبٍ من بلاد الرافدين، وبيدها لؤلؤة. على اليمين منها قبرٌ لبحارٍ قديمٍ، له سقف من الحصى المصقول، مصفوف كبيوضٍ في عشٍ، وفي المدفن عظام إنسانٍ تحورت إلى هيئة سلحفاة.
تحوي معظم المدافن في هذه المقبرة قرابين شعائرية، أو عشاء جنائزياً، مكوّناً من الرخويات والأسماك والسلاحف الخضراء. ذكر الكتاب الإغريق، أن آكلي السمك الذين استوطنوا سواحل بحر العرب، اعتبروا السلاحف البحرية أسلافاً لهم. إن رمزية السلاحف كبحارة قدماء، تميز معتقدات العديد من مجتمعات الصيادين حول المحيط الهندي (1).
لنعد إلى رابيتنا الصدفية في رأس الحمراء… تقود سيارتك باتجاه فندق كراون بلازا، عبر ما يسمّى بشارع الحب، هنالك مطاعم ومقاهٍ عن يمينك، وإلى يسارك شبانٌ يخلطون مفهوم الحب، بما يمارسونه على طول هذا الشارع. من خلال الفندق ذي النجوم الخمسة، يمكنك الوصول إلى تلك الرابية الأثرية. عبر طريقة واحدة فقط، وهي تسلقها؛ لأن الباب المؤدي إليها هو بابٌ معلقٌ على المنحدر الصخري.
قدم موريسيو توزي، في عام 2008، خطةً لتحويل هذا الموقع المؤرخ كأقدم مستوطنةٍ للعصر الحجري في شبه الجزيرة العمانية إلى منتزه أثري، يقدم المشروع تصوراً كاملاً لقرية الصيادين، إضافة الى زراعة نفس النباتات التي كانت تنمو فيه، وبناء أكواخٍ لتغطية منظر البيوت السكنية الحديثة وعرض المدافن ضمن حاوياتٍ زجاجية، فيما يترك جزء منه لإكمال أعمال علماء الآثار والانثروبولجيا والطلبة، لم ير هذا المشروع النور، وما يزال الموقع مدفوناً فيما أكتب هذه القطعة القصيرة عنه(2).
ثنائية أعلى وأسفل:
فوق تلال جبال الحجر، سترى دائماً حجارةً مكوّمةً، صنعها قوم عاشوا قبلنا بخمسة آلاف سنة. ربما تركوها هناك لتدلهم على الطريق في الليالي المعتمة. كشف علماء الآثار أنها مدافن تطوق الواحات وخيراتها، يحتمي ساكنو هذه الواحات ويستظلون بأرواح أسلافهم. ويصل عدد هذه الركامات الحجرية إلى ما يقارب المئة ألف مدفن، ممتدة شمالاً من مسندم وتنتهي في آخر حدود رأس الحد. بعدها بألف عام، جمعوا موتاهم في مدافن فخمةٍ وهائلة الحجم، نزلوا بها إلى المصاطب المنخفضة والمستوطنات. نقشوا بواباتها بثنائيات الخصوبة والحب والقوة والخلود. شيّدت هذه المدافن الجماعية بحجارةٍ بيضاء مشذبّة وذات لون سكري. جمعت عظام كل من يعيشون في المستوطنة. جميعهم دون تمييز(3). كان لي تجربةٌ شخصية في التنقيب في أحد هذه القبور التي يرجع تأريخها إلى العصر البرونزي. ضم المدفن الدائري، الذي يحوي ست غرف للدفن، تشكيلة ٌ فريدة من الخواتم الفضية، والجرار التي تحوي بداخلها عظام أطفالٍ رضعٍ، هنالك أوانٍ من المرمر جاءت من بلاد فارس، بالإضافة إلى مشطٍ عاجيٍّ وجرارٍ فخارية رسمت عليها أحصنةٌ وأسماكٌ جاءت من الإندوس. يقول القبر الواقع بمستوطنة دهوى على الطريق الواصل بين صحم والبريمي، أنه ضم مجتمعاً ثرياً له صلات بحضارات العالم القديم.
اختفت إلزامية الدفن الجماعي في الفترة التي تلتها، التي تميزت بدورها بنوع من العشوائية في العمارة الجنائزية، حيث يصفها علماء الآثار بالمرحلة الانتقالية، فقد احتفظت هذه الفترة ببعض سمات سابقتها كما لحقتها جملةٌ من التغييرات في مواضع وأشكال وجودة المدافن، كما أن هنالك انقسامًا ظهر في أنماطها بين شمال الإقليم وجنوبه، ولا يمكن أن يكون هذا إلا مؤشراً على اختلافٍ اجتماعي وديني للنسيج السابق، استمر لألف عامٍ(4). بعدها وفي العصر الحديدي، يظهر تحوّل استثنائيّ ممثل في مدافن قرص العسل. في أحد أودية بوشر، بمنطقة صاد، يتموضع مدفن من هذا النوع، حيث يشكل كل قبر حلقةً من دائرة المدفن المتلاحم الممتد بقطر17 مترًا. أما حيث ولدت، فيطلق الناس على أرضهم اسم رؤوس الجبال، يعيشون فوق سفوحٍ بعيدةٍ. تربط قراهم الصغيرة المنسية طرقاتٌ وعرةٌ، تخبرني أمي أنهم كانوا يبحرون بموتاهم إلى سواحل صغيرة منتشرة على طول شبه الجزيرة. من فوق الهضاب الصخرية القاسية، يهبط الناس بمن يموتون إلى سواحل تواجه البحر؛ ذلك أن موطنهم الجبل ومؤلهم البحر.
جماعية الحياة، وفردانية الموت:
منذ سنتين، تمحورت اهتماماتي حول النقوش التي تظهر على العمائر الجنائزية، عن شاهد القبر بوصفه لوحةً. قد يكون ذلك تحوراً لعلاقتي الشخصية مع الموت. وأنا طالبة تدرس بكالوريوس الفنون، كنت دائماً ما أحاول تضمين الموت بطريقة ما في لوحاتي. منذ كنت طفلةً وأنا أتعامل مع فكرة الموت بنوع من النديّة، كان لدي إدراك داخلي منذ صغري، أنني عصيةٌ على الموت، وبأنه سيخطف الجميع عداي. لا أعلم من أين اكتسبت هذا اليقين بأنني لن أختفي. لن أموت قبل أن أصبح مندوبةً لمجلة ماجد، أو قبل أن أدرس هندسة الديكور، أو أنهي أحد بحوثي. حتى في هذه الفترة ونحن نواجه شبح كورونا، كنت أعتقد أنني آخر من سيصاب به، لماذا؟ لأن عليّ إكمال أحد مشاريعي. في أحد نقاشاتنا حول فكرة الموت، قال أحد الأصدقاء إن خوفه من الموت يتمثل في الوجود اللاوعي في تلك الأبدية، بينما كان الفريق الآخر خائفاً من فكرة امتلاك الوعي ونحن عالقون في العدم. ضمن سياقات الخوف هذه، أدرب نفسي دائما على تلقي خبر موت أحدهم، في سبيل كسب مناعةٍ شعوريةٍ، ولم تنجح أيٌ من تدريباتي هذه حتى الآن. إن ارتباط الموت بتلقي العزاء من جمعٍ غفيرٍ من البشر كان يطيل فترة التعافي لدي؛ فأنا من الأشخاص الذين يفضلون ممارسة حزنهم وحيدين، ببطءٍ وهدوءٍ. فكرة العزاء تنضوي في جوهرها على محاولة منعنا من إيجاد وقت للانفراد بالحزن، إنها طريقة لقول: “نحن حولك وأنت لست وحيداً”. عندما فقدت أبي كان عليّ نقل الخبر لأحد أساتذتي، وبدافع الاستغراب سألني ما إن كان والدي مريضاً لفترةٍ طويلةٍ، لكنني أجبته بابتسامة ٍعريضةٍ -أن كل شيءٍ قد حدث فجأة! وليعفيني من التمرين في تلك المحاضرة طلب مني أن أعتلي المنصة التي يضع عليها عناصر الطبيعة الصامتة التي كنا نرسمها، تحلقت حولي الشعبة كاملةً وأصبحت موضوع لوحةٍ.
توجد في ولاية مدحاء، مقبرةٌ ذات شواهد مشيدةٍ من حجر الرخام الأبيض. كنت قد زرت المكان مرةً؛ بحثاً عن هذه المقبرة الا أنني لم أجدها. في المرة الثانية التي قصدت فيها الوادي لمحت شواهد بيضاء طويلةً، فوق هضبةٍ عند مدخل الوادي ، لم يكن علي سوى أن أرفع رأسي. هذه الشواهد الرخامية الناصعة منقوشةٌ بأسماء شفافة، متماهية مع لون الحجر. تحمل غالباً الاسم الأول لصاحبها.. حيث يخلف الواحد منهم اسمه على البياض، ويمضي. أحب التفكير في ذلك التناص، الذي جمع جدارية درويش، بمقبرة نائيةٍ في حِجرِ جبال الحَجر الغربي. فمطلع قصيدته يقول: “هذا هو اسمك”، ويرد درويش على حتمية اسمه وموته: “كل شيءٍ أبيض، أنا وحيدٌ في البياض، أنا وحيد”.
يعد تزيين القبور في بعض المذاهب الإسلامية أمراً مكروهاً، فالقبر منزوع الهوية له دلالةٌ مرتبطةٌ بقيمة الزهد، وصد أي احتمالية لتقديس صاحب القبر واعتباره مزاراً، إلا أن ظاهرةً فريدة ًتتعلق بالممارسات الجنائزية، تظهر على بعض القبور الإسلامية في عدة مستوطناتٍ جبليةٍ مهجورةٍ بمحافظة مسندم. تزخرف القبور بزخارف نباتية، فيما تصور بعض القبور خناجر وعقوداً وأساور، ونخلاتٍ مثمراتٍ، ويظهر على عددٍ منها وجوهٌ نساءٍ مبرقعةٌ، يعتقد لانكستر أن ما نقش على هذه القبور هو إشارةٌ لجنس المدفون، وتمثيلاتٌ لرغبات هؤلاء الأفراد في حيواتهم(5). نوعٌ من تصوير الهوية الفردانية، ولأن الإسلام يحرم نبش القبور فإن عملية تنقيب أحدها ومحاولة رواية هذه القصص هو أمر مستحيلٌ. ينطبق الأمر ذاته على أنواع كثيرة من المدافن غير المنقبة في محافظة ظفار، حيث تسبغ الذاكرة المحلية أنواعاً متباينةً من الهويات فإضافة إلى عشرات القبور التي يُعتقد أنها تضم أجساد الأنبياء والأولياء الصالحين، هنالك قبورٌ يطلق عليها “ذخطوطلوهم”، أي القبور الملعونة باللغة الشحرية، حيث يلزم هذه الاعتقاد، من يمرون بهذه القبور أن يلعنوا مدفونيها ثم يمسكوا بعود من الخشب ويرسموا دائرةً مكتملةً، ويلقون به على القبر، ليمضوا في طريقهم. قبورٌ أخرى يطلق عليها”جمجوت تضحوك” وتعني الجمجمة الضاحكة، وهنا يتوجب على كل من يمر بها أن يضحك، ولا يعرف أي تبريرٌ لذلك(6).
نذهب الآن بعيداً، نحو شمال شبه الجزيرة العربية، قبل سنةٍ سمعت أن فريقاً من علماء الآثار اكتشف كنيسةً في وسط إحدى المقابر الإسلامية بالبحرين، وكان عليّ زيارتها طبعاً، ولأقص حكاية هذا الموقع باختصار، فقد بدأ التنقيب فيه بحثاً عن أساسٍ لمسجدٍ يتوسط هذه المقبرة وأثناء التنقيب عثر الفريق على أساساتٍ لمبنى أكبر حجماً، اتضح فيما بعد أنها كنيسة. ما أذهلني هو ارتباط سكان تلك البلدة الواقعة في أقصى شمال جزيرة المحرق، والمسماة سماهيج، بمقبرتهم، فعلاوةً على أن الحراك الأهلي هو ما جذب الأنظار إلى هذا الموقع بوصفه جذراً عميقاً يمثل تاريخهم، فهم كانوا يزورون المقبرة باستمرار؛ بابها لا يقفل أبداً. بطريقة ما، شعرتُ بالأنس في تلك المقبرة المأهولة التي تتوسط البيوت. فوق كل قبرٍ زرعت ريحانةٌ، تمتد جذورها في اللحد الذي دفن فيه الجسد، لتحل فيها الريحانة محل الروح، في العصر البرونزي، اعتبرت أراضي البحرين مدفناً لجميع سكان شبه الجزيرة العربية، فهي الأرض التي انتهت إليها رحلة جلجامش، بحثاً عن شجرة الخلود.
يبقى الموت شبه فرداني في وقتنا هذا؛ إلا إذا ارتبط بقصةٍ تراجيديةٍ مشتركةٍ. ترتبط جماعيّة الموت اليوم بحدوث مأساة، فالقبر الجماعي لم يعد علامةً إقليميةً، أو تعبيراً عن التسلسل الهرمي، بل هو غالباً أحد الحلول للتخلص من كتلةٍ كبيرة تجسد الألم، والمقاومة والظلم. بنفس الطريقة التي يتم التخلص بها من القمامة. حيث لاوقت للحداد عليهم فرداً فرداً، قد تضم هذه الكتلة من الأجساد أطفالاً، أو شعراء كرسوا حياتهم بحثاً عن هوية ذاتيةٍ، أو مجانين لم تربطهم بالجمع يوماً أي صلة، لكنهم اشتركوا بنهاية واحدة، في حفرةٍ لايُعرف مكانها. أما بالنسبة لي، تبقى فكرة ذر الرماد أكثر صورة قد تناسب اختفائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع العربية:
كلوزيووتوزي, (2012). في ظلال الأسلاف. مسقط: وزارة التراث والثقافة.
الجهوري, ن. (2011). العصر البرونزي في الجزء الغربي من إقليم جعلان بسلطنة عمان. آدوماتو, 7- 22.
الشحري, ع. (1994). لغة عاد. أبوظبي: المؤسسة الوطنية ناتباك.
المراجع الأجنبية:
- Marcucci, L. G. (2014). The site of Ra’s al-Hamra 5 (Muscat, Sultanate of Oman). Brief Chronicle of the Excavations (1973-2010). In B. Cerasetti, BAR International Series 2690 (pp. 505- 516). Oxford: Archaeopress.
- Righetti S. 2015. Les cultures du Wadi Suq et de Shimal dans la péninsule omanaise audeuxième millénaire avant notre ère. Évolution des sociétés du Bronze moyen et du Bronzerécent PhD thesis, Université Paris 1 Panthéon-Sorbonne. [Unpublished.]
- W.Lancaster, F.Lancaster. (2011). discussion of rock carvings in Raas al Khaimah Emirate,UAE, and Musandam province using local consedration. Arabian archaeology and epigraphy, 166_196.