اللغة الإنجليزية وعصر العولمة – الجزء الثاني

وفي الواقع يلاحظ أن الولايات المتحدة لا تكتفي داخل حدودها الطبيعية بفرض الإنجليزية كلغة وحيدة موحدة لكل السكان على اختلاف انتماءاتهم العرقية والثقافية،بل تذهب أيضا ككل الأمبراطوريات العظمى إلى ممارسة ما يسمى بالتبشير اللغوي عن طريق نشر الإنجليزية في العالم عبر وسائط معينة مثل الجامعات، اللجان العلمية ،الشركات المتعددة الجنسيات.. الخ

globalization1

الجدير بالذكر، أن الولايات المتحدة لا توجد بها لغة رسمية، ولا يحتوي دستور البلاد الصادر عام 1787 الذي لا يزال العمل به ساريا رغم تعرضه لعد تعديلات على ما يخص الوضع القانوني للغة، لكن أمام زحف اللغة الإسبانية القوي عبر مدن الجنوب فقد اضطرت 28 ولاية من بين 50 ولاية إلى تبني الإنجليزية في دستورها المحلي كلغة رسمية، إنما هذا لا يعني أن مدن الشمال غير معنية بهذا “الخطر اللغوي ” كما يشيع استعمال هذا التعبير ضمن الأدبيات السياسية اليومية، بل العكس هو الصحيح، حيث نجد شعار one language ،one nation)لغة واحدة ،أمة واحدة)يكاد يطغى على كل شؤون الحياة بها متجاوزا بذلك على حق الأقليات الأخرى، ومنها الهنود السكان الأصليين في استعمال لغاتهم الأم، والتي يزيد عددها عن 75 لغة منها :نافاجو ،داكوتا ،آباشي ،بيما،شوكاتوا..الخ وقد بلغ الحد عام 1968 ان استنتجت لجنة خاصة بالشؤون الهندو أمريكيين فيما يخص لغاتهم الأم “أن ثلثي مشاكل البلاد الداخلية مصدره الاختلاف اللغوي ..وأضافت هذه اللجنة قائلة أن هذه اللهجات المتوحشة يجب أن تختفي من الوجود وتستبدل باللغة الإنجليزية ” ولكي تطبق هذه السياسة الجديدة التي تنبعث منها رائحة عنصرية، تم فصل الآباء عن الأبناء في التجمعات السكنية الهندية بهدف التقليل من التواصل اللغوي ويحرم من ثمة الأبناء من تعلم لغات أجدادهم ..ولان هذه السياسة أفضت في الأخير إلى احتضار الكثير من لغات الهنود الحمر وبالتالي قرب انقراضها، فقد عمدت الحكومة الفدرالية عام 1990 إلى تغيير هذه السياسة اللغوية ذات النزعة الراديكالية وتبنيها ما يسما :nation american languages act ومن خلاله صدرت قرارات تقضي بحماية اللغات الهندية من الزوال، وإذا كان الرؤساء الأمريكيين على غرار فرانكلين روزفالت وريغن قد دعوا إلى نبذ التعدد اللغوي ومنح الإنجليزية السيادة المطلقة فان الرئيس بيل كلينتون كان أكثر تعاطفا ومرونة مع اللغات المحلية الأمريكية الأخرى،حيث وقع عام 2000 على المرسوم القانوني )e d 13166)الذي يجبر كل الوكالات الفدرالية ان تخاطب غير المتكلمين بالانجليزية بلغتهم، كما وقع على مرسوم آخر يحمل رمز )20usc 1703 of)يتم من خلاله مساعدة غير الناطقين بالانجليزية على تعلمها ..والحقيقة أن جميع هذه المراسيم القانونية تم في العديد من المرات الاستغناء عنها سيما على مستوى الولايات الرئيسية )كاليفورنيا ،أريزونا ،ألسكا..)وذلك بحجة التكلفة العالية والفشل التام في تحقيق الأهداف المسطرة ..وما يمكن التعليق على مثل هذه الحجج هو أن البيض الأمريكيون ممن يطلق عليهم رمز )wasp)وهي الحروف الأولى التي تختزل جملة البيض الأنغلوساكسون البروتستانت الذين أنشأوا الفدرالية الأمريكية، هم من يقف وراء هذا الإلغاء وذلك ابتغاء المحافظة على سلطتهم في مواجهة التغيرات الديموغرافية التي تسير في صالح الزنوج واللاتينيين ..ولهذه الأسباب صدر بتاريخ 8 جانفي 2002 قانون جديد يطلق عليه مختصرا في الحروف nclb وهي حروف تختزل عبارة “ليس هناك طفل سيترك لشأنه”هذا القانون جاء ليقلص من التعليم المزدوج اللغة، المتبع في الولايات الجنوبية ويختصر إلى 03 سنوات للتلميذ غير الناطق بالانجليزية، وهو ما يعني العودة إلى سياسة “الأنجلزة الكلية “..ومن الطرائف في هذا الشأن أن يحكم قاض عام 1995 على أم بمنعها الحديث مع ابنها بالاسبانية في تكساس بحجة أنها تمثل حالة من التربية المتعسفة، وفي سنة 1988 طرد موظف في مطعم من طرف صاحبه لكونه ترجم قائمة الطعام إلى الاسبانية لأحد الزبائن..وفي نفس السنة تم تعديل دستور أريزونا،حيث صار يمنع من خلاله على الموظفين في الدولة التحدث مع الإداريين بالاسبانية أو النافاجو إحدى اللغات الهندية ..كل هذه الأمثلة في الحقيقة تكشف لنا أن التعدد اللغوي في الولايات المتحدة ينظر له بعين مريبة ورافضة بشكل مطلق وتتزعم مثل هذا الموقف مؤسسات كبيرة تمثل لوبيات وقوة ضغط لا يستهان بها وربما أشهر هذه المؤسسات us english وonly english ومن مواقف هذه الاخيرة التي أسسها اللغوي جون تانتون john tanton من ولاية ميتشيغان أنه في شهر آوت من سنة 1996 تبنت غرفة النواب الأمريكية بنسبة 259 صوتا مقابل 169 صوتا بضغط من هذه المؤسسة، مشروع قانون يجعل الانجليزية لغة رسمية للحكومة الفدرالية للولايات المتحدة، المشروع يحمل تسمية h.r.123 وعنوانه بالكامل :the bill emerson english language empowerment act of 1996.

وقد وصف هذا المشروع آنذاك بأنه ميكانيزم دفاع للمجتمع الأمريكي ضد هجمة الثقافة المتعددة المرفوضة ،وسيساهم في ترقية اللغة الانجليزية ..ومن المؤسسات أيضا التي لها دور قوي في نبذ التعدد اللغوي بأمريكا مؤسسة english firstالتي احتجت على الرئيس بوش لأنه تحدث أمام الجمهور باللغة الإسبانية في 5 ماي 2001 وهو يوم الاحتفال الوطني للمكسيكيين في حين ان بوش تحدث إلى الجمهور بالاسبانية وكان يسميهم بنفسه المكسيكيين، في حين لا يصح في نظر هذه المؤسسة على رئيس أمريكا أن يتحدث لغة أخرى غير الانجليزية، حتى المرشح الديمقراطي في انتخابات نوفمبر 2000 جون كيري الذي يعرف الاسبانية والفرنسية والألمانية لم يتجرأ أبدا خلال الحملة الانتخابية على الحديث بغير الانجليزية وإلا كان سيواجه بمعاداة كل البيض البروتستانت ..والمثير في الأمر أن مؤسسة english first تصف التعدد اللغوي في كندا بالخطأ الذي يبلغ حد الاغتصاب الإجرامي لحقوق المجتمع الكندي، وذلك بسبب مضاعفة الوثائق الإدارية للمصاريف المخصصة للترجمة ..

وفي الواقع يلاحظ أن الولايات المتحدة لا تكتفي داخل حدودها الطبيعية بفرض الإنجليزية كلغة وحيدة موحدة لكل السكان على اختلاف انتماءاتهم العرقية والثقافية،بل تذهب أيضا ككل الأمبراطوريات العظمى إلى ممارسة ما يسمى بالتبشير اللغوي عن طريق نشر الإنجليزية في العالم عبر وسائط معينة مثل الجامعات، اللجان العلمية ،الشركات المتعددة الجنسيات.. الخ، ويمكن أن نسوق العديد من الأمثلة في هذا الشأن منها ما حدث في منظمة الطيران المدني الدولية)oaci) التي تأسست في شيغاغو بتاريخ 7 ديسمبر 1944 من طرف ممثلين ل47 دولة وبضغط من الحكومة الفدرالية الأمريكية تم فرض بهذه المنظمة الانجليزية كلغة ثانية لكل المتحدثين بلغات أخرى، بل وفرض أيضا استعمالها في جميع شؤون الطيران بما فيها اللافتات وداخل الخطوط الخارجية ..ونفس الشيء حدث مع وكالة الطيران الأوربية، حيث صارت الفرنسية مثلا مجرد لغة ترجمة علما بأن الانجليزية لم تكن من قبل لغة رسمية في المنظمات الدولية بما فيها المفوضية الأوربية، حيث بدأ استعمالها فقط مع انضمام بريطانيا إلى هذا الاتحاد عام 1972 وحاليا يلاحظ هجوم أمريكي لفرض الانجليزية كلغة رسمية داخل كل المنظمات الدولية، سواء عن طريقها مباشرة أو عبر مساندة بريطانيا للقيام بكل الجهود اللازمة لكي يزيحوا جميع اللغات التي تصبح في النهاية مجرد وسيلة ترجمة فحسب..

من جهة أخرى، نلاحظ أنه منذ الستينيات صار الأمريكيون يرفضون نشر الدراسات العلمية بلغة غير الانجليزية، وجهل عدد كبير من الجامعيين الأمريكيين للغات الأجنبية وما ينشر بها جعلهم يتصورون أن كل الاكتشافات العلمية أمريكية ولا يمكن أن تتم إلا بالإنجليزية، كما يعتقدون عن قناعة أن أغلب رجال العلم الأفذاذ من الأحياء أمريكيين.. وللتذكير فإن الجامعات الأمريكية لا تفرض تعلم أي لغة أجنبية منذ ما لا يقل عن 30 سنة في حين بقية العالم سيما في أوربا وآسيا وإفريقيا فان معرفة لغة أجنبية إجباري للحصول على شهادة في الثانوية أو ما فوق .. وما يمكن استخلاصه ضمن سياسة التبشير اللغوي الأمريكي أن التوسع في هذا المجال يمهد السبيل إلى التوسع الاقتصادي وغيره، وهذا ما نتيقن منه عندما نعلم أن الجيش الأمريكي المتواجد في 110 بلد عبر العالم يفرض على كل متعامل معه استعمال الإنجليزية فقط وهو ما يتم فعلا في بلدان ذات سيادة مثل ألمانيا.. اليابان.. كوريا.. باناما.. أيسلاندا.. الخ.

العدد الثامن ثقافة وفكر

عن الكاتب

رشيد فيلالي

كاتب صحفي ومترجم من الجزائر