بروبجندة الولاء: قراءة في صناعة البروبجندة العمانية (الجزء الأول)

. أدت إزاحة سعيد بن تيمور عن الحكم إلى وجود فرحة عارمة في البلاد، إلا أن الثقة لم تكن قد ترسخت بعد بالسلطان الشاب خوفا من المثل المتداول (ما جادت في الجبنة بتجود في الصٍلّالة؟) أو بالفصحى (الابن سر أبيه). لذا كان لا بد أن تتحرك الآلة الإعلامية مباشرة للترويج للحاكم الجديد ولطمأنة الشعب بصدق نوايا النظام الجديد في تغير الوضع الحالي.

qaboos

تمهيد:

تعد الدعاية الإعلامية الموجهة إحدى أهم الوسائل التي يمكن من خلالها التأثير على مجموعة من البشر وتطويعهم للقيام بفعل معين إيجابيا كان أو سلبيا، وعادة ما تكون الدعاية الإعلامية أو ما تعرف بالبروبوجندا مفعلة لأهداف معينة ومؤطرة بإطار زمني معين. ومما يظهر عيانا لمتابع المشهد الإعلامي العماني يجد أن وسائل الإعلام المحلية – حكومية كانت أو خاصة – قد ساهمت بشكل أو بآخر في تفعيل بروبجنده تهدف إلى إبراز الصورة المشرقة للحكومة العمانية بشكل عام، والصورة السلطانية الشخصية بشكل خاص. إلا أن المدة الزمنية التي اتخذتها المؤسسات المسئولة عن تفعيلها نست أو تناست العامل الزمني، فعمدت إلى تكرير ذات الخطاب بنفس العناصر، فهل انعكست آثار هذا الخطاب سلبا على الشارع العماني؟ وهل أنتبه صناع البروبجنده العمانية إلى نقاط ضعفها؟ وكيف عمدت إلى معالجة الوضع؟  المفارقة في هذه الأطروحة هي أنها لا تسعى إلى تقديم إجابات للقارئ بقدر ما تحاول أن تبث في نفسه مجموعة من الأسئلة المنطقية حول الوضع الراهن والمستقبل المجهول. إنا هديناه النجدين إما شاكرا وإما كفورا.

الدعايات الإعلامية الموجهة (Propaganda) لفظاً:

نظرا لحداثة اللفظة وتعريبها فقد آثرت البحث في المعاجم الإنجليزية عن المعنى الحرفي لكلمة بروبوجانده، حيث يشير قاموس اوكسفورد إلى أن معنى الكلمة هو: المعلومة ذات الطابع المنحاز أو ذات الطبيعة الموجهة توجيها خاطئا والمستخدمة في ترويج هدف سياسي أو وجهة نظر معينة. كما يشير القاموس أن أصل الكلمة إيطالي لاتيني بمعنى الهيئة المختصة لنشر العقيدة. ويرجع استخدام مصطلح بروبجندة إلى بدايات القرن العشرين. وبذا نرى أن استخدامنا للفظة بروبجندة لوصف الدعايات الإعلامية الموجهة صحيح ونستعيره هنا لوصف الحالة العمانية.

تاريخ البروبجندة في المنطقة العربية والعمانية:

إذا ما نظرنا في تاريخ البروبجندة وربطها تاريخيا وسياسيا بالعالم العربي، نجد أن استخداماتها كانت فاعلة ومؤثرة في كل وسائل الدعاية الإعلامية السياسية التي أستخدمها العرب قبل الإسلام وبعده لتقوية نفوذ رأس السلطة بتعدد أشكالها، ملكية منظمة أو قبلية عشوائية. وأكثر الوسائل الإعلامية المتداولة عند العرب قبل الإسلام كانت القصائد الشعرية، وهي بحد ذاتها واحدة من أوسع وأسهل الطرق انتشارا في الجزيرة العربية. فقد عمد الشعراء إلى استخدام القصائد للاستنهاض أو التبجيل أو الهجاء أو الفخر. وكلها كانت توظف لدعم غرض سياسي أو ديني. ونستطيع القول أن توظيف الشعر كأحد أهم الوسائل لتنفيذ البروبجندة استمر حتى يومنا هذا مع استمرار اللغة العربية وتعلقه بها. إلا أن قوة تأثير القصيدة كوسيلة لنشر البروبجندة خفت مع ظهور الإسلام في الجزيرة العربية. وجاءت آيات الذكر الإلهي تحذر من الاغترار بالوقع الموسيقي للقصيدة على الوجدان البشري وتغييب العقل، مقررة أن تتبع ما يطرحه الشعراء يعتبر غواية ومعطيا حالات استثنائية تتمثل في الحضور الإلهي في وجدان الشاعر وهو ما يعرف بالتقوى. بعدها أخذت البروبجندة شكلا آخر بعد فقدان النص الشعري بريقه وذلك عن طريق بعض الروايات المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتي كثر ظهورها في أتون الصراع الإسلامي- الإسلامي على السلطة.

عمدت الأنظمة – قديمها وحديثها – إلى تطويع الجانب الديني باستخدام هذا الكم الهائل من الروايات الحديثية – صحيحها وسقيمها – لصالح تثبيت وجودها في الحكم. وإسقاطا لهذه الظاهرة على عمان فقد أستطاع الإباضية الأوائل إلى حد ما الابتعاد بشكل كبير عن أطنان الروايات السياسية الموجهة[1]. فـ(لا نجد هذا التوظيف في تراث الأئمة المؤسسون وهم جابر وأبي عبيدة والربيع وصالح الدهان وضمام ولا يوجد كذلك في تراث ابن عبد العزيز ولا أبي المؤرج ولا أبي غانم. بدأ يظهر بداية من سيرة هلال بن عطية ومن ثم ظهر قويا في تراث أبي المؤثر والمدرسة التي تخرجت على يديه في قضية الإمام الصلت عام 272هـ)[2] هذا الابتعاد أدى إلى حد ما إلى إيجاد مناخ سياسي متقلب تتداول فيه السلطة سلميا تارة وبالحرب تارة أخرى. لذا فإن أقوى وسائل البروبجندة التي استخدمها الإباضية مؤخرا في دعم النظام السياسي الحاكم (الإمامة) كانت القصيدة. ونضرب مثلا بآخر القصائد في دعم الإمامة وهي قصيدة أبي مسلم البهلاني المعروفة باسم (النونية). هذه القصيدة بحاجة إلى دراسة خاصة بحد ذاتها ولا نزعم هنا إننا نسعى إلى سبر أغوارها، وإنما نلامس ما نحتاجه للأطروحة الحالية وذلك بتسليط الضوء على أهم ملامحها الأساسية.

فقد اعتمدت النونية على عدة محاور أولها كان الوطن والحالة التي وصل إليها والتذكير بوحدة التراب العماني وربطه مباشرة بالمقدس (الإسلام). المحور الثاني هو الشعب ومسؤوليته وقيادات القبائل بشكل خاص في تعزيز الوحدة. المحور الثالث هو إضافة هالة من القداسة الشعرية على الأب الروحي والمرجع الديني المنظر للإمامة وهو الشيخ عبدالله بن حميد السالمي المعروف بنور الدين السالمي. المحور الرابع هو استنهاض والثناء على الإمام سالم بن راشد الخروصي. المحور الأخير هو توبيخ وتقريع أحد قيادات القبائل الفاعلة في عمان بسبب تقاعسه عن مساندة الإمامة وجعله عبرة شعرية وقصصية استمرت إلى يومنا هذا. من هنا نجحت هذه “البروبجندة” التي ربطت بين عدة مقومات في إيجاد دعم قبلي وشعبي لحركة الإمامة، ونستطيع القول أنه بعد القصيدة النونية لم توجد بروبجندة سياسية منظمة لدى الإمامة لكسب عقول وقلوب المواطنين، ولم نجد توظيف للروايات الحديثية لتقوية منصب الإمام في نفوس الشعب. ولعل غياب هذا النوع من البروبجندة يعتبر واحدا من العوامل التي أدت إلى غياب الحس الشعبي بضرورة وجود هذا الكيان السياسي وبالتالي انهياره في منتصف ستينيات القرن الماضي.

saidbintai

الدعايا الإعلامية والسلطان الرمز:

بعد انهيار نظام الإمامة وتمكن السلطان سعيد بن تيمور بمساندة الإنجليز من توحيد معظم أرجاء البلاد جغرافيا وإيجاد نظام جيوسياسي بدائي، كان لا بد من إيجاد طريقة للحفاظ على هذا الكيان القائم ودعمه سياسيا. وكان لا بد من إيجاد بروبجندة قوية يمكنها دعم هذا الكيان بحيث يلتف الشعب نحو القيادة الحالية وإيجاد نوع من الاستقرار السياسي الضروري لإيجاد مناخ اقتصادي يضمن تدفق النفط من أراضي السلطنة وتدفق الأموال والمشاريع الاقتصادية القادمة مع البترودولار إلى السلطنة. فهل كان وجود سعيد بن تيمور على رأس هذا الكيان السياسي سيحقق الأهداف المرجوة من هذه الأجندة؟ الإجابة المنطقية هي لا، والأسباب الكامنة خلف هذه الإجابة متعددة أهمها؛ أولا: يدا سعيد بن تيمور ملطخة بدماء الشعب العماني في عرفه، فالحرب التي شنتها القوات البريطانية كانت تقوم بقصف عشوائي على المناطق التابعة لنطاق الإمامة مثلما تسجل بعض المناطق العمانية الأثرية ومثلما سجلت بعض شهادات الأهالي. ثانيا أن سعيد بن تيمور ضيق الخناق اقتصاديا على الشعب عن طريق فرض ضرائب عالية على السلع، لذا فمعرفة الشعب بوجود ثروات طبيعية تسيّر عن طريق نظام سياسي اشتهر عنه تضييق الخناق الاقتصادي على الشعب من الممكن أن يؤدي إلى ظهور بؤر مخربة لهذه المشاريع. النقطة الثالثة هي أن الإمامة على الرغم من تفككها كنظام سياسي شعبي إلا أنه بإمكانها أن تعيد تنظيم نفسها على شكل جيوب عسكرية متفرقة في المناطق الداخلية مما سيؤدي إلى حرب استنزاف يمكن بسهولة أن تجد تأييدا شعبيا داخل مناطق القبائل الوعرة جغرافيا، ولتقريب الصورة نضرب مثلا بما يحدث في الحدود الأفغانية الباكستانية من دعم القبائل لحركة طالبان. السبب الرابع هو عدم التفاف النخب العمانية المثقفة حول سعيد بن تيمور والوصول إلى الأهداف الإعلامية لهذه البروبجندة يحتاج إلى أوجه عمانية في الظاهر مع بقاء الخيوط بيد الإنجليز. كما إن النخب العمانية المثقفة انقسمت إلى اتجاهات متعددة منها الشيوعي والناصري. السبب الخامس هو تفكك الأسرة الحاكمة في عمان وفتور نفوذها في الداخل، فما يروى عن سعيد بن تيمور انه كان عادلا في ظلمه حتى على أقربائه. وتطبيق مثل هذه البروبجندة يحتاج إلى وجود عائلة حاكمة قوية ومتماسكة في مواجهة المجتمع القبلي المجبول على الهرمية في تكوينه الاجتماعي. لذا فإن أي ضعف تظهره الأسرة الحاكمة يجعلها عرضة لتسلط القبائل القوية الأخرى في المنطقة، مما سيؤدي إلى تحكمها بآبار النفط الواقعة في أراضيها، أو تفكك عمان الأم إلى دويلات صغيرة يحكمها أمراء القبائل، مما يعني الدخول في مفاوضات جديدة للعقود النفطية.

qaboos7

كل هذا وربما أسباب أخرى لم نذكرها، أدت إلى انتهاء صلاحية سعيد بن تيمور في سدة الحكم، وضرورة أن تأخذ البلاد منحى آخر يمكّن الكيان الجيوسياسي الناشئ من الاستقرار والنمو السياسي. وفي الثاني والعشرين من يوليو لعام 1970 تمت إزاحة سعيد بن تيمور من سدة الحكم عن طريق انقلاب أبيض وفي اليوم التالي تمت تولية ابنه السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في البلاد. أدت إزاحة سعيد بن تيمور عن الحكم إلى وجود فرحة عارمة في البلاد، إلا أن الثقة لم تكن قد ترسخت بعد بالسلطان الشاب خوفا من المثل المتداول (ما جادت في الجبنة بتجود في الصلالة؟) أو بالفصحى (الابن سر أبيه). لذا كان لا بد أن تتحرك الآلة الإعلامية مباشرة للترويج للحاكم الجديد ولطمأنة الشعب بصدق نوايا النظام الجديد في تغير الوضع الحالي. فارتكز الخطاب الأول الذي ألقاه في صلالة بتاريخ 23 يوليو 1970 – رغم قصره – على أربعة قضايا رئيسة: (1) رفض النظام السابق والتأكيد على عدم أهليته، (2) التأكيد على التأييد العائلي والعسكري، (3) تشكيل حكومة بمقاييس ومعايير جديدة تتطلب عودة النخب المثقفة و (4) تغير السياسة الخارجية والانفتاح على العالم الخارجي. وعند وصول السلطان إلى مسقط قام بالتأكيد على النقاط الثلاث الأولى. إن أهم ما جاء في الخطابين أعلاه هو إدخال لفظين هامين تم توظيفهما دعائيا لحد كبير إلى يومنا هذا وهما (العهد الجديد – خطاب 27/7/1970) و (الفجر الجديد – خطاب 23/7/1970). وبما أن الآلة الدعائية قامت على هذين المصطلحين فلا يمكنها الانفكاك عما يقابلهما وهما (العهد القديم) و (الظلام القديم) ومن هنا فإن البروبجندة الإعلامية ما انفكت تقارن “الآن” بما قبل 1970. الإشكالية التي وقعت فيها البروبجندة الإعلامية أنها تركت فترة ما قبل السبعين مفتوحة، وبالتالي فإن التاريخ العماني بما يحمله من إيجابيات وسلبيات يقع ضمن (العهد القديم) وبالتالي فهو غير قابل للإظهار فترات الازدهار التي تربط المواطن العماني بتاريخه العريق إلا بما يخدم (العهد الجديد). واستمر استخدام لفظ (العهد الجديد) لاحقا في خطاب السلطان الأول بعد مرور عام من توليه الحكم، وتأكيده على المبادئ الأساسية للدولة، وأهمها هو تثبيت حكم ديمقراطي عادل.

لم يكتفي السلطان قابوس بالخطب المسجلة والمبثوثة عبر التلفاز والإذاعة وإنما قام بجولات يقابل فيها المواطنين وجها لوجه، فيما أصبحت لاحقا عرفا سنويا يعرف بالجولات السامية. وبجانب مقابلة المواطنين انتشرت صور السلطان قابوس وهو يقف على المشاريع صغيرها وكبيرها، وظهوره في الأماكن الأساسية التي ترسل ما لا ترسله ألف خطبة، كظهوره في المدارس أو في المواقع القتالية الأمامية ضد الثوار في المنطقة الجنوبية.

كل هذه الخطب التي ترفع من معنويات الشعب العماني وتدعو إلى الالتفاف نحو الكيان السياسي الجديد كان لها اثر متميز وجيد في توحيد البلاد في تلكم الفترة، بل وأدى إلى التفاف الفئات المثقفة على السلطان الجديد وتوليتها مناصب وزارية عليا. لذا فإنه يمكننا القول أن البروبجندة العمانية نجحت في تثبيت صورة السلطان الجديد خلال فترة بسيطة وزرع قدر عال من الثقة في نفوس الشعب، ونزع حالة الشك التي كانت تتربص بمدى صدقه في تنفيذ الوعود التي أخذها على نفسه قولا وفعلا.


الهوامش

[1] لا يعني هذا أنني أبرئ المذهب الإباضي من استخدام الروايات لتبرير المواقف السياسية. فلقد كثر عند متأخري الإباضية استخدام رواية (عمار تقتله الفئة الباغية) و رواية دخول حرقوص بن زهير من الباب ثلاثا وشهادة النبي له بالجنة لدعم مساندتهم لموقف أهل النهروان الرافض للتحكيم.

[2] الدكتور زكريا المحرمي في حوار شخصي

العدد الثامن سياسة

عن الكاتب

المعتصم البهلاني

رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية