سفر
زهران القاسمي
رحل الجميع ، تركوا القرى خاوية ، تركوا أحداق ذويهم ملتصقة في الأفق ، ثمة موجة ستعيدهم ، أو ثمة ريح ستدفن أغانيهم وأشواقهم في البلاد البعيدة
***
أيام الانتظار الطويلة
في هذا العراء ، لا شجرة خضراء يُستضل بها ، ولا ضجيج قادم في الأفق ، ليس سوى صخرة مد ظلها عنقه في سماء الهاجرة .
وحدها تلك الأيام، تلوك حكاياتها التي تكلّست من الانتظار، وحدها تحرس المدى محدقة فيه.
لا سراب يعكس مجيء كائنات هذه البقاع ، ولا ضوء يجترح عيونها المتعبة .
الزمن ذلك النسر الذي لم يعد يفارق عشه، يخبط بجناحيه معلنا وجوده، الزمن حارس النهاية العجوز.
القطار
ممتدا في الأفق ، قادما من البعيد ، من سهول العشب والفراشات الملونة ، محملا بالأشياء والمشاهد ، تنعكس الملامح على صفائحه الملساء ، أرى صورتي فيها مكسوا بالغياب ، وأحيانا أراني وقد أشرقت شمس من جبيني حتى غطت المشهد .
قطار يتجه صوب الغد ثم يكسوا بخاره الأرض التي قطعها فتختفي في البياض ، أرى الأيام كأجساد مكتظة تحمل في حقائبها الكثير من فتات الزمن ، مثل أصداف بحرية ملونة ذات أشكال عديدة لا تتشابه مع بعضها ، تلك الأيام وقد لبست أزياءها وكأنها ذاهبة إلى مهرجان قصي ، أو كأنها تعرض ذاتها في مهرجان مباشر .
ذلك القطار الذي يقطع النهار والليل متجها صوب مجاهيل تختبئ خلف غابات كثيفة داخلا إلى كهوف مظلمة يشقها بضوء مصابيحه الضئيل .
اليوم المتعلق بحافة القطار
لم يكن يوما مهما ، لكنه يود أن يصل إلى وجهته بأية طريقة ، لذا لم يعد له مكانا في القطار حتى كاد أن يتجاوزه ، ركض على الوحل فوقعت أشياءه ونظارته السميكة ، لهث واتسخت ملابسه حتى استطاع أن يقبض على مؤخرة القطار ، تعلق بجوانبه وزحف إلى الأمام ناحية مقصورة حجزت لسيدة الأيام ، فلما رأت وجهه من النافذة وبخته وشتمت يومه ، فلم يكترث ، فأغلقت نافذتها على أصابع يديه وكاد أن يقع من الألم ، فزحف بطيئا إلى الأمام وغاص بين أجساد أيام مكتظة على أحد المداخل .
اليوم الذي يقود القطار
يلبس نظارة شمسية شديدة العتامة ، يدخن غليونه ، نافثا دخانه أمامه مباشرة ، يكرع قليلا من النبيذ الذي جلبه معه حتى لا يشعر برتابة الوقت في القطار .
هذا اليوم الذي يسخر من السيدات المترهلات ذات النهود الضامرة أو المنحدرة إلى كروشهن ، يصرخ باستهتار بأقذع السباب، ويبصق على الذين يحملون على ظهورهم الكتب .
يوم يقود هذا القطار ولا يعرف متى تتوقف رحلته ، لا يمني نفسه إلا بنومة طويلة وهادئة ، بعد أن يستحم ويغسل جسده بعطر الكولونيا في محطته الأخيرة .
اليوم المنسي
حمل أشياءه فوق رأسه ، مثل غجرية نادتها رياح الشمال الباردة ، هبط في محطة ما ، شق طريقه بين الزحام متجها ناحية العدم ، لم يدركه أحد ما ، ولم تلوح له يد في المحطة ، كان وحيدا وغريبا ، مثل وجه الغجرية وهي تقطع الجسر إلى النسيان .
يوم النسيان العظيم
عندما دخل إلى القطار لأول مرة لم يخرج ، ظل قابعا في مقعده ، لا يتذكر كيف جاء ولا إلى أين وجهته ،الأيام كلها تغبطه ، تحوم حوله ولا تهتدي إليه، يدرك تماما أن له مهمة سوف ينجزها لكنه لا يتذكر شيئا .