حان وقت التصحيح..!

هل نحن في عمان بحاجة إلى ثورة تصحيحية الآن بعد مرور 40 عاما من بداية النهضة الحديثة ؟ وهل أصاب الوهن التجربة العمانية برمتها ؟ أسئلة يجب أن تطرح على المهتمين بقضايا الوطن كافة ، يكون هدفهم في ذلك العمل على مصلحة الوطن والمواطنين لا غير أبدا ، وذلك بعد ما تم من تسريب عن اكتشاف خلية تجسس ضد الوطن كان رموزها وليس أبطالها من يُفترض أن يكونوا حماة للوطن مخلصين لقائدهم ولوطنهم ولشعبهم، فإذا بهم وقد باعوا شرفهم ووطنيتهم ومستقبل أجيال الوطن بحفنة بسيطة من المال ربما تكون قد نفدت

qabooskhalifah

” 1 ”

التصحيح سمة من سمات المجتمع البشري، وقد لجأت إليه المجتمعات دائما عندما تحس بأن مع طول الوقت أو الفترة يبدأ الجمود في التسلل إلى كل شيء حتى يصل إلى ما يعرف بالأساسيات وذلك بانتشار السوس في كل ركن من أركان المجتمع بدءا من الأخلاق العامة وانتهاء بالفساد في الحكومات حتى الثورية منها، وهناك أمثلة كثيرة على نظم قامت بثورة التصحيح على نفسها قبل فوات الأوان وقبل أن يقوم بذلك الآخرون ، ويحضرني ما قاله الملك فاروق ملك مصر والسودان عندما قامت ثورة 23 يوليو فكان أول تعليق له على ما جرى هو أن الضباط قاموا بشيء كنت سأفعله أو كنت أتمنى أن أفعله ! لكن الرجل – أمام الانغماس في ملذاته وشهواته – لم يفعل ذلك ولم يغير من الفساد أو يقوم بمحاولة إصلاح الواقع المصري المزري الغارق في الفساد حتى أصبح صبيحة ال23 من يوليو 1952ووجد أن الأمر قد خرج من يده لأنه اعتمد فقط على آراء مستشاريه ولم يعش آمال وأحلام شعبه في فترة صعبة كان الجيش المصري يقاتل في فلسطين وكان الفساد منتشرا في كل مكان وصل إلى الجيش المصري نفسه، أي أن الفساد أصاب العصب عندما وصل إلى الأمن ، وكما هو معروف فإن أجهزة الأمن والجيش والشرطة هي الحصن الحصين ويجب أن تبقى دائما الخط الأحمر الذي لا يصله العبث واللعب لأن فساد هذه الأجهزة هو فساد الدولة كلها

إن الملك فاروق – وفي ظني ولا ألزم هذا الظن أحدا – لم يكن بالرجل السيء سياسيا أبدا إذا أخذنا في اعتبارنا ظروف مصر وقتئذ ووجود الجيش الإنجليزي في السويس وغير ذلك كثير ، إلا أن الملك ظل حالما بالتغيير وترك الأمر للآخرين يديرون البلد وكأنها عزبة خاصة وجعلوا فاصلا بينه وبين شعبه ، بينما هو تفرغ للشرب وللغواني والملذات وكأنّ الأوطان تدار فقط بالأحلام والأماني أو بالاعتماد فقط على سمعة الأجداد مثل محمد علي باشا ، وهي أوهام زائلة سقطت سريعا كما أثبتت ذلك ثورة 23 يوليو

” 2 ”

هل نحن في عمان بحاجة إلى ثورة تصحيحية الآن بعد مرور 40 عاما من بداية النهضة الحديثة ؟ وهل أصاب الوهن التجربة العمانية برمتها ؟ أسئلة يجب أن تطرح على المهتمين بقضايا الوطن كافة ، يكون هدفهم في ذلك العمل على مصلحة الوطن والمواطنين لا غير أبدا ، وذلك بعد ما تم من تسريب عن اكتشاف خلية تجسس ضد الوطن كان رموزها وليس أبطالها من يُفترض أن يكونوا حماة للوطن مخلصين لقائدهم ولوطنهم ولشعبهم، فإذا بهم وقد باعوا شرفهم ووطنيتهم ومستقبل أجيال الوطن بحفنة بسيطة من المال ربما تكون قد نفدت

لقد كتب الكثيرون عن هذه الخلية وأدلى الكثيرون بدلوهم وكانت الغيرة على الوطن وعلى صاحب الجلالة هي دافعهم في ذلك واختلطت العاطفة بالعقل، لكن الكثيرين ممن كتبوا تجاهلوا تناول الجانب الأساسي من الموضوع وهو خطورة انتشار الفساد في المسؤولين العمانيين وفي الأجهزة الأمنية بل والمقربة جدا من حماية رئيس الدولة نفسه مما أدى إلى أن يفقد المواطن العماني الثقة في هذه الأجهزة وفي قياداتها التي تفرغت لتصيّد من ينتقدها فقط لكي لا يصل الأمر إلى صاحب الجلالة، حتى وصل الحال بأن نقرأ في منتديات الحوار العمانية همزا وغمرا ولمزا لرئيس الدولة ويمر الأمر مرور الكرام ولكن يا ويل من تسول له نفسه انتقاد الأجهزة الأمنية ! ولا أدري هل هناك ما هو أخطر مما تم تسريبه من أمر خلية التجسس تلك التي وصلت إلى رؤوس كبيرة في أجهزة الأمن ؟!

عندما تستطيع أي دولة أن تخترق دولة أخرى بمثل ما تم اختراقنا فهذا يحسب لتلك الدولة وليس الشطارة الإعلان عن كشف تلك الخلية ، فأين كانت الأجهزة الأمنية منذ تأسيس خلية كتلك ؟

في إحدى المقالات الجميلة التي كتبها د. محمد الرميحي قال إنه عندما كان خبيرا في منظمة الأوبك دُعي إلى إلقاء محاضرة في بغداد، وكان وقته لا يسمح له بالمبيت هناك نظرا لانشغاله إلا أن بعض أصدقائه من أعمدة النظام العراقي أصروا عليه أن يبات وأنهم سيمرون عليه للعشاء، وفعلا مرعليه ثلاثة من رجال النظام العراقي سماهم بالاسم ولا أذكرهم الآن وهذا ليس ضروريا إنما المغزى هو الأهم ، وتفاجأ وهو معهم في السيارة أنهم يكيلون كل السب والقذف والتهم والانتقاد لنظام صدام حسين – وهم من أركان النظام -، ويقول د. الرميحي إنه عندما سقطت بغداد لم يتفاجأ لأن من هم في السلطة كانت آراؤهم بتلك الحدة ضد النظام

وقصة مثل قصة الرميحي لها دلالاتها الخطيرة، علينا أن نأخذ منها العبر وفي الحياة عبر لمن يعتبر ولكن هل من معتبر ؟

يحكي محمد حسنين هيكل في كتابه أحاديث في آسيا إنه التقى عام 1973 في بكين على جلسة غداء ، الأمير( نوردم سيهانوك )الذي كان أبوه ملكا على كمبوديا وكان هو رئيسا للوزراء ، وبعد وفاة الملك تنازل سيهانوك عن حقه في العرش وتقدم للانتخابات الشعبية واختير رئيسا للدولة، فاختار سيهانوك ( لون نول ) رئيسا للوزراء ، لكن نول مع مرور الأيام أطاح بالإمبراطور سيهانوك وأعلن نفسه رئيسا للجمهورية فسأله هيكل بعد تجربته الطويلة في الحياة ماذا استفاد ؟ رد سيهانوك بحكمة : ( لا تعط ثقتك لغبي ولا تعط ثقتك لضعيف، تتصور أنك سوف تمسك به دائما … ولكن الحقيقة أن غيرك أيضا سوف يمسك به ويأخذه منك ! هذه قصتي مع لون نول.. لقد تعلمت الدرس ولكني تعلمته بعد فوات الأوان، بعد الساعة الثانية عشرة مساء !)

لقد طرح سيهانوك نقطة بالغة في أهمية اختيار العنصر المناسب في المكان المناسب وأنه يجب أن تكون هناك معايير معينة لاختيار أي مسؤول ووضعه في المكان المناسب خاصة إذا كان هذا المكان هو الأجهزة الأمنية أو الجيش أو الشرطة لأن ما انتشر الفساد والرشاوي في هذه الأجهزة في أي مكان في العالم إلا كان ذلك إيذانا بزوال الكيان ، وأن الأخلاق الحميدة هي دائما الضمان الأكيد لاستمرار الأمم والأوطان قوية ومتماسكة ، وكم من فقير أخلص لوطنه رغم أنه لم يأخذ حقا من حقوقه ، وكم من مستفيد خان الوطن رغم أن خيرات الوطن كلها فًُتحت له ؟!

إننا بحاجة إلى التصحيح في كل مجال من مجالات الحياة حتى نبني جيلا يؤمن بالوطن ومستعد أن يخلص له لا أن نبني جيلا مستعدا أن يبيع كل شيء لأجل المال فقط وأمامه أمثلة في ذلك وللأسف الأمثلة كثيرة لدينا،

إننا بحاجة إلى إعادة بناء أخلاق الإنسان العماني من جديد وهي الأخلاق التي كان يُضرب بها المثل في كل بقاع العالم، لأن الحد من دور المساجد ومنع تدريس القرآن الكريم ومنع دروس التربية الدينية في المساجد والتضييق على المحاضرات والدروس وإلغاء مادة التربية الإسلامية مع فتح الشقق الفندقية وبيع الخمور ونشر الفساد والاهتمام بالرياضة النسائية والتركيز على المرأة والكرة الشاطئية بحجة أن هذه الأمور تشغل الشباب عن الاهتمام بالأمور السياسية هذا خطأ كبير لأن نتائجه ستكون على المدى القريب والبعيد وخيمة على الوطن وستكوّن أجيالا مشوهة تستطيع أن تفعل أي شيء حتى القتل مقابل المال لأنهم لم يتربوا على المباديء

وإذا كان الاهتمام على الأخلاق جانب هام في بناء الوطنية الصحيحة فإن التعليم والثقافة لا يقلان عن ذلك، فنحن بحاجة إلى المتعلمين والمثقفين والأذكياء في كل مركز ويكون الإخلاص للوطن هو العنوان البارز في ذلك ولعلي أذكر قصة أخرى في مقالي هذا ولا بأس في ذلك لأن العبر تؤخذ من القصص والروايات وتستطيع هذه الروايات أن تقول ما لا نستطيع أن نقوله نحن، فالكاتب الراحل أحمد بهاء الدين لخص يوما مّا قبل سقوط الاتحاد السوفييتي لخص رواية لكاتبة أمريكية تقول أحداثها إن الأخبار نمت إلى القيادة السوفيتية أن الرجل الثاني في قمة الهرم عميل لأمريكا ، وقد قامت المخابرات السوفيتية الkgb بمراقبة هذا الرجل طويلا إلا أنها لم تمسك عليه شيئا، ومع تأكيد المصدر أن الرجل الثاني عميل لأمريكا ومع تأكد المخابرات السوفيتية بأن ذلك ليس صحيحا وصل الرفيق المقصود إلى سن التقاعد وقرر أن يعيش خارج روسيا، هنا صارحه الرجل الأول بالقصة كلها، فكان جواب الرجل الثاني : نعم إنني عميل لهم وقد التقيت بهم مرة واحدة فقط في حياتي بالأمم المتحدة وطلبوا مني طلبا بسيطا جدا هو أن أضع أغبى الأشخاص في أهم المراكز والمواقع ، وهذا ما كان !!!

ومن هنا في ثورة التصحيح التي نرجوها ونتمناها لوطننا نتمنى إبعاد الأغبياء من مراكز القيادة ونتمنى أن لا يكون معنا أمثال الرجل الثاني في الحزب الشيوعي السوفيتي حسب الرواية ، ويجب أن نترفع عن التضييق على كل صاحب رأي ومعاملته بشك والطعن في وطنيته وكأن الوطن حصرا على فئة معينة فقط

” 3 ”

عندما كنت أتابع خطبة صلاة عيد الفطر المبارك التي أقيمت بمسجد الحصن في صلالة بحضور حضرة صاحب الجلالة ، استوقفتني الخطبة تماما عندما ركز الخطيب الشيخ السالمي وزير الأوقاف كثيرا على مبدأ العفو والصفح عند المقدرة ، لدرجة أن من يستمع إلى الخطبة يخرج بانطباعين الأول أن السالمي أخطأ ويرجو العفو والصفح، والثاني أن هناك من أخطأ وأن هناك أمرا جللا وأن السالمي يخاطب ويدغدغ عواطف صاحب الجلالة لكي يعفو عن المخطء لما عرف عن جلالته من حلم

والحقيقة أن السالمي كان مبالغا جدا في طلبه للعفو على المسيء وكأن هناك جهات أخرى أوعزت عليه أن يقول ذلك الكلام حتى لا تطال التحقيقات رؤوسا أخرى كبيرة وأن يتم الاكتفاء فقط بمن تم الكشف عنهم من أفراد خلية التجسس، ووصف العفو أنه العيش على السجية وإغضاء عن الضعف البشري والعطف عليهم والسماحة معهم والإحسان بهم مسترشدا بقوله تعالى } وأن تعفو هو أقرب للتقوى { وقوله تعالى } والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين { موضحا أن علو الهمة واتخاذ العدل يصير العفو لدى الكرام أجلّ من الانتقام تطبيقا لمبدأ ( عفا الله عما سلف ) ومؤكدا أن الإعراض عن الجاهلين يأتي في مقدمة الأخلاق بعد العفو، وطبعا في نهاية الخطبة دعا معاليه الله أن يرزق عاهل البلاد العفو عند المقدرة

وأنا أقول في ثورة التصحيح يجب عدم دغدغة مشاعر جلالة السلطان المعظم حتى يتخذ قرارات عفو عن المسيئين الذين مد لهم يد المكرمات وأنكروا اليد الممدودة لهم بأن عضوها ، وقضية خلية التجسس هذه تختلف تماما عن قضية الإخوان المسلمين عام 1994 وقضية المشايخ عام 2006 لأن القضيتين محليتان أما هذه القضية فإنها قضية تجسس لصالح دولة أجنبية، والمطلوب أن تأخذ العدالة مجراها إلى النهاية ويقول القضاء النزيه كلمته ويبقى جلالته بعيدا عن القضية ، فكيف لنا أن نطلب الصفح والعفو والتحقيقات ما زالت مستمرة وربما هناك رؤوس كبيرة قد يطالها التحقيق ؟ وهل كان يجب علينا أن ننتظر حتى يتم اغتيال جلالة السلطان مثلا – لا قدر الله – حتى يتم معاقبة الخونة ؟! إن خيانة الوطن جريمة ويجب إنزال العقوبة العادلة لمن قام بذلك لأن خيانة الوطن ليس لها ما يبررها أبدا ، وأن ما تم تناوله في المنتديات من أن المال لعب دورا في ذلك فإن ذلك ليس بمبرر أبدا بل هو انحطاط في الأخلاق والوطنية ونسأله الله أن يجنبنا ذلك نحن وأهلونا

إن قضية التجسس تفتح ملفات كبيرة، ومقالي لا يكفي لذلك ولكني في الختام أشير إلى أن اكتشاف هذه الخلية في الأجهزة الأمنية أعاد فتح ملفات سابقة كثيرة منها ملف ما عُرف بالمشايخ وما مدى صدق القضية كلها وهل كانت من التلفيقات فقط ؟ وأن صاحب الجلالة بفطنته وذكائه تنبه للأمر واتخذ من بعد ذلك القرار المناسب ؟ ، وغير ذلك الكثير !! ربما سيكون لي عودة من زاوية أخرى فقد قلت وأطلت ولكن الموضوع كبير وفي قلوبنا غصص

كاتب عماني

العدد التاسع سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com