في ظلمات ثلاث: مقاربة لأولويات التغيير

بداية أشير إلى حقيقة تتمثل في وقوع مجتمعاتنا تحت ثلاث مستويات من القوى الكابحة لأي تقدم أو تغيير مسببة عجزا دائما أو تشويها لأي فكرة إصلاح ما لم تكن هذه الفكرة ناتجة من وعي بتلك القوى أو تتعامل معها كواقع يجب البداية منه لتغييره، هذه القوى وإن كان بعضها نتاج الآخر فإننا يمكن أن نرتبها بطريقة تجعل المستوى الأكثر تأثيرا يأتي أولا لأنه مصدر للمستوى الذي يليه أو أنه أداة لتمكينه، وإن كان من الصعب تمييز هذه المستويات عن بعضها أو تحديد أيها سبب للآخر فإن أهميتها من وجهة نظري تترتب كالآتي:

darkness

يخيم مشهد السلبية على مجتمعاتنا ويهدد بضياع الفرص المستقبلية التي ستكون نتاج طبيعي للحراك الحالي إن ولد، أما إن لم تبذر بذرة الفرصة في هذه اللحظات فإن حتمية الطبيعة المجتمعية تُنبؤنا بانتفاء تحقق تلك الفرص مستقبلا، ولكن السؤال الجدلي يتعلق بموضوع هذا الحراك واتجاهه أهو فكري أم السياسي ؟ وهل المجتمع هو موضوع و مجال الحراك أم الأنظمة السياسية؟ و لمناقشة هذه الجدلية فإن توضيح نوعية و حجم المعاناة التي تعانيها الشعوب، و تقييم الهدر الذي استنزف وسيستنزف مستقبل المقدرات والثروات لهذه الشعوب سيكون بمثابة الوصول لنصف الطريق نحو إجابة مقنعة لأي حراك يحتاجه المجتمع بإلحاح أكثر من الآخر.

بداية أشير إلى حقيقة تتمثل في وقوع مجتمعاتنا تحت ثلاث مستويات من القوى الكابحة لأي تقدم أو تغيير مسببة عجزا دائما أو تشويها لأي فكرة إصلاح ما لم تكن هذه الفكرة ناتجة من وعي بتلك القوى أو تتعامل معها كواقع يجب البداية منه لتغييره، هذه القوى وإن كان بعضها نتاج الآخر فإننا يمكن أن نرتبها بطريقة تجعل المستوى الأكثر تأثيرا يأتي أولا لأنه مصدر للمستوى الذي يليه أو أنه أداة لتمكينه، وإن كان من الصعب تمييز هذه المستويات عن بعضها أو تحديد أيها سبب للآخر فإن أهميتها من وجهة نظري تترتب كالآتي:

أولها ثقافة و طريقة تفكير الإنسان في هذه المجتمعات وما في ذلك من خلل في الفكر الديني و غياب الرؤية والمشروع من أذهان النخبة، مما أدى لتغييب الحديث عن العدالة الاجتماعية فضلا عن ممارستها مع ما ينتج عن ذلك من تفشي للأمراض المجتمعية، و ثانيها الأنظمة السياسية التي أصبحت تواجه أسئلة تتعلق بشرعيتها في ظل تقادمها و تجدد الأجيال التي ولدت في عصر ثورة المعرفة والاتصال من جهة، وضعفها من جهة أخرى أمام التحديات الداخلية، وثالثها القوى العظمى الباحثة عن مصالح إستراتيجية و أسواق جديدة جاعلة من قيمها الحضارية مجرد أدوات لتحقيق مصالحها في المجتمعات التي تقع تحت هيمنتها.

يتفق الكثيرون على أن المستوى الأول من هذه القوى وهو ما يتعلق بفكر و قيم و سلوك المجتمعات هو لب المشكلة وجوهرها، وأن مفتاح الحل يأتي بتغيير طريقة تفكير وسلوك الإنسان الذي يشكل لبنة بناء المجتمع، وإن كان الجميع الجزئية الاخيرة فإن البعض يقلل من شأن الاهتمام بالتغيير في المستوى الثاني أي التغيير السياسي منطلقين من قناعة أن الوضع الثقافي الفكري لا يسمح بطرق باب التغيير السياسي، و يتصور أصحاب هذه القناعة أن التغيير الفكري الفعّال هو من النوع طويل الأمد والمتجرد من مشروع واضح للتغيير السياسي،وهو بالضرورة سيؤدي إلى تغيير تدريجي و سلمي عند تأثيره على المستوى الثاني من القوى و هو مستوى أنظمة الحكم، ولكن يتضح من خلال تتبع الحركات التحولية في المجتمعات الحديثة أن كثير من التغييرات السياسية إنما كانت نتيجة للانتشار السريع للأفكار الجديدة، فالتغيير الفكري ما هو إلا فكرة تحتمل الموت و الحياة، الموت بعد أن ينحصر تأثيرها وتبقى مجرد أسطر في كتب مبدعيها لأنها لا تحمل مشروعا واضحا أما احتمالية الحياة فتأتي من تغيير المجتمع بشكل تطبيقي ممنهج من خلال مشروعها السياسي الواضح.

لقد نشر كتاب رأس المال لكارل ماركس قبل عدة عقود من الثورة الروسية التي مثلت حياة واقعية لفكرة ماركس وإن لم تكن مطابقة لها،وعند بداية الثورة الفرنسية لم يكن فولتير أحد الثائرين فعليا لأنه كان ميتا وقتئذ و لكنه كان في مقدمتها روحيا و فكريا، في هذين المثالين كان المشروع السياسي واضح المعالم و مولود مع ولادة الفكرة النظرية ولهذا تحققت الحياة للفكرتين بغض النظر عن طول أو قصر حياة كل منهما فالشاهد هنا هو أن الحياة توهب للفكرة عندما تكون الفكرة مولودة مع نموذجها السياسي التطبيقي الواضح، و من هذين المثالين كذلك فإن تبني التغيير الفكري أولا لا يعني بالضرورة أن هذا التغيير سيتم تحويله مستقبلا إلى تطبيق سياسي بشكل سلس و تدريجي وسلمي حتى وإن دامت الفكرة في عقول المؤمنين بها عقودا طويلة، و في المقابل هناك تاريخ طويل ومتنوع من المشاريع التي اعتبرها منظروها إصلاحا فكريا ولكنهم أجلوا التغيير السياسي معتبرين أنه مجرد نتيجة لأفكارهم الإصلاحية ستتحقق حالما تغير فكر المجتمع فهي نتيجة ثانوية ستأتي نتيجة تطبيق أفكارهم النظرية، وهنا كانت النتيجة هي موت الفكرة وانحصارها في رفوف المكتبات لأنها لم تنتهج خطا متوازيا يدعو إلى تغيير سياسي واضح المعالم مع دعوتها للتغيير الفكري، أو أنها أنتجت تطبيقات خاطئة نتيجة عدم وضوح منهجها في التغيير السياسي أو بتأثير التداول من عقل لآخر فجرّت الويل على المجتمعات التي جاءت لتنقذها أصلا، ولنا في الحركات الإصلاحية الإسلامية الحديثة خير مثال على ذلك، مشاريع إصلاحية تستهدف التغيير الفكري التربوي ثم لا تقدم و لا تتبنى نظاما سياسيا يمنحها الحياة.

ولو اعتبرنا أن البداية يجب أن تكون على شكل تغيير فكري دون مشروع واضح لتطبيقات في التغيير السياسي فإننا يجب أن نأخذ في الحسبان أنها ليست بداية في الحقيقة وإنما استمرار لطرح أفكار استمر طرحها و سيستمر دون أن يؤتي أكله ما دمنا ننظر للمشروع من زاوية الفكر المحض فقط وإن كان فكر يحمل دعوة لتطبيقات على أرض الواقع، سيبقى مجرد أفكار في عقول النخبة ما لم تبعثه سلطة ما تبثه في مناهج تعليمها و تدير به المجتمع، فرواية كوخ العم توم للروائية الأمريكية هيريت ستاو المناهضة لفكرة العبودية برغم انتشارها و اعتبارها من أكثر الكتب تأثيرا في وجدان الشعب الأمريكي تجاه النظرة لفكرة العبودية فإن الولايات المتحدة الأمريكية ما كانت لتتخلص من العبودية لولا دفعها لمئات الآلاف من القتلى في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب والتي اندلعت بعد عقد من صدور الرواية، إذ أن حياة الفكرة مرتبطة بقدرتها على فرض سلطتها والبحث عن شرعيتها السياسية ولا يكفي أن تكون فكرة نبيلة حتى تتحول إلى واقع في قوانين و قناعات المجتمع.

تبقى مناقشة البدء بتغيير سياسي دون تمهيد فكري طويل الأمد، هذا النوع من التغيير في نظر البعض محكوم عليه بالفشل ويتهم بأنه مجرد مغامرات و ثورات غير محسوبة النتيجة، و أن التغيير الفكري على مستوى المجتمعات لا بد أن يكون سابقا و ممهدا لأي تغيير سياسي ناجح على مستوى أنظمة الحكم، ولكن الحقائق التاريخية تعطينا مثالا مناسبا جدا للرد على هذا الرأي، فإصلاحات الإمبراطور مايجي في اليابان في العقد السادس من القرن التاسع عشر والتي عرفت في التاريخ الياباني بأنها ولادة النهضة اليابانية الحديثة أو النهضة الأولى عند بعض المؤرخين، هذه الإصلاحات و التغييرات السياسية جاءت بدون تمهيد فكري طويل الأمد و نتيجة للتهديد الأمريكي المباشر الذي جعل اليابان أمام خيارين إما الانفتاح على العالم وإما مواصلة عزلتها التي ستجرها إلى مواجهة مع الولايات المتحدة، استطاع مايجي أن يقود التغيير السياسي الذي يضمن انفتاح اليابان – بل و سيطرتها على المحيط فيما بعد – و يوازن في نفس الوقت بين القيم و الثقافة اليابانية الصالحة للاستمرار و بين تلك التي لا تساعد على النهضة التي أرادها الإمبراطور الجديد، وقد استطاع هذا التغيير السياسي أن يؤثر فكريا و ثقافيا على المجتمع فألغى في قراراته – التي لم يتهيأ لها المجتمع فكريا- تقاليد و أوضاع اجتماعية عاش عليها اليابانيون قرون من الزمن، هذا التغيير الذي قاد اليابان لأن تكون أهم دولة امبريالية في الشرق في بداية القرن العشرين هو تغيير سياسي لم تسبقه تهيئة فكرية أو مشروع ثقافي، ولكنه كان ناجح إلى أبعد الحدود في الوصول للهدف المعلن من ذلك التغيير السياسي والذي كان ( التحديث في خدمة العسكر ) مما يعني نجاح التغيير في تحقيق الهدف منه.

أما المستوى الثالث من القوى وهو هيمنة القوى العظمى فإن الموضوع لا يتعلق بقرارها هي بقدر ما يتعلق بقرار الشعوب في أن تكون أو لا ، و لنواصل ضرب الأمثلة من التجربة اليابانبة، فاليابان التي كانت تحت الاحتلال المباشر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف الأربعينات استطاعت أن تبني النهضة الثانية في تاريخها والتي كانت هذه المرة تحت عنوان الثورة الاقتصادية، وبغض النظر عن مساهمة الظروف الإقليمية الممثلة في حروب أهمها الحرب الكورية في أن تصبح اليابان مدعومة بقوة من الولايات المتحدة، فإن اليابانيين استطاعوا أن يديروا دفة دولتهم و اتجاهها الجديد من خلال قدرتهم على تقدير المصالح العليا و الاتجاه الجديد لليابان كأساس متين لنهضتهم وهم مازالوا تحت الاحتلال المباشر، وهذا يثبت أن هناك من تعامل مع القوى العظمى كواقع ثم انطلق تجاه مشروعه تحت أسوأ الظروف.

المبادرة للتغيير يجب إذن أن لا تقتصر على مستوى دون آخر ففكرة التغيير التي تولد دون أن يولد معها فعل يترجمها كواقع ستولد ميتة، أما الاعتقاد بأن التغيير الفكري والتربوي لوحده دون الأخذ بزمام المبادرة لاقتراح إصلاح سياسي فإنه يعتبر ثقة زائدة عن الحد في المستقبل، المستقبل رهين واقعنا وناتج عنه، ومثل ما ينمو الجنين في ظلمات ثلاث معتمدا على قدرة مناعته و كفاءة أجهزة جسمه فإن هناك من مشاريع التغيير التي لم تولد بعد ولكنها تعيش في ظلماتها الثلاث منتظرة إرادة حقيقة لإزاحة تلك الظلمات معا بولادة تواجه معها مصيرها، إما أن تكون حاملة معها كفاءة و قدرة تمكنها من الحياة وإما أن تولد ميتة أو مشوهة.

العدد العاشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

صالح بن علي الفلاحي

كاتب عماني