يتلألأ في الذهن اسم لامع في الأدب السعودي، وفي الأدب العربي الحديث عمومًا، مستدعيًا عددًا من الأفكار والملامح والهواجس، ومحركًا شيئًا مما انمازت به شخصية غازي القصيبي في ترف التواصل الإنساني بلغة أسمى- والشعر عنده هدف للحديث- تجمع خصائص وسائله التواصلية وأهدافه وتداعياته وتوافقاته مع الطرف الذاتي في عملية التواصل – وذاك هو الأبرز عند غازي القصيبي – ومع المتلقي الآخر؛ طرفًا آخر مشتركًا في كم كثير من تفصيلات الحس الإنساني، ومن همومه وقضاياه وهواجسه وحواراته الداخلية أو سلوكه اليومي مع عناصر الحياة وجمالها أو عذاباتها، مع الأخذ بالاعتبار نسبية دلالة الجمال والعذاب في التفصيلات اليومية الحياتية.
وفي قراءة تحليلية للسمات الشخصية للأديب المبدع غازي القصيبي، صفاتٍ ذاتية أسهمت في إبرازها عوامل التكوين الثقافي البيئي والاجتماعي والسلوكي والأدبي، وملامحَ أدبية استمدت ألوانها والقها وخصائصها من تمازج البناء التكويني للشخصية مع جذور طباعها التي جبلت عليها؛ نقف عند عدد من المحاور نبدؤها بالوقوف على مكونات الشخصية الثقافية المسهمة في تشكيل النتاج الأدبي والحضاري للقصيبي، الذي جمع للتراكم التعليمي مادته من بلدان أربعة ( البحرين، ومصر، وأميركا، وبريطانيا) تنوعت فيها ثقافاتها وحضاراتها لتتضافر أسلوبًا مزيجًا متعدد المناهج والتأثيرات والمدارس، أفرزت تشكيلا معرفيًا متعدد الروافد والاتجاهات، يجري إلى مقاربة تكامل فكري وأدبي وحضاري، بل عملي يومي تمثل في كفاية إدارية مكنته من تقلد مناصب رفيعة في الدولة السعودية، ومن أداء ناجح مميز.
يُسجل له قدرته على معايشة نماذج مختلفة من الأمم والشعوب، وتعرفه أنماط متعددة من العادات والتقاليد، ووقوفه على ألوان القيم والمثل عند تلك الشعوب، وإتقانه العربية والإنجليزية، وشغفه بالقراءة والاطلاع على التراث والمعاصر والحديث، والقديم والجديد… فالاستمداد بلا حدود معرفية من رفده من منابع الرفد الصافية الغنية.
ويتغلغل المد المعرفي في أوصال الطباع الشخصية، لنجد القصيبي محاورًا بارعًا فذًا، تجاذب الأفكار وقدمها باستيعاب وشمول، وبثقة وحسم جريء في كثير من مواقفه المتعلقة بالتجربة الشخصية وبقضايا الأمة عمومًا. ونقف بإزاء عطاء ثري لأديب قدم شعره ونثره إحساسا رقيقًا، وعاطفة نبيلة، وشعورًا حيًا متقدًا أضفى على نتاجه ألقًا وهاجًا وشعاعًا ساطعًا مستنيرًا بألق الروح والذوق الأدبي والفني العالي للقصيبي، وبخصوصية أسلوب حلّق بإحساس عشاق الأدب ومتذوقي فنونه، وبفكرهم؛ عبر مؤلفاته إلى حدود فاقت حدود الوطن العربي، إلى آفاق الحضارة الإنسانية.
وبالانتقال إلى شيء من تفصيل؛ نسجل للقصيبي الملامح الآتية:
1- رأيه في الشعر:
قال في الشعر: ” إن الشعر من حيث المبدأ – ظاهرة محايدة- كالموسيقى، ليس هدف الشاعر منه إعادة تكوين العالم، وليس هدف الشعر إبقاء العالم كما هو… من هنا ندرك شطط الذين يطالبون الشعراء بأن يكونوا قادة الفكر والرأي وضمير البشرية الحي… إنني أعجب لشاعر أوتي موهبة الشعر، وهي موهبة ثمينة نادرة يحاول أن يثبت أنه أوتي بجانبها قدرًا لا يستهان به من النفوذ السياسي والاجتماعي… لم يكن هدفي من كتابة الشعر أن أغير نفسي أو أغير الآخرين، كان هدفي الوحيد أن أتحدث شعرًا…”.
فالشعر عنده هاجس لترف الإحساس والتأمل الفكري ومتعة حسية جسدها التعبير عنها حوارًا شعريًا.
2- أدواته اللغوية:
2/أ) يقدم القصيبي من سماته الشخصية بعضًا من سماته الأدبية، فالألفاظ منسابة بسلاسة، واضحة في جل ما ينظم، قليل لجوؤه في نظمها إلى استعمال الغموض، تجسد جانبًا من جوانب طبعه المتمثل بالسهل الممتنع، البسيط العالي، الترف الناعم العميق تأثيره، المحققة أهدافه اللغوية بوضوح دلالاته، وبقدرته على المرور بأفكاره ومنطقه وذوقه إلى تحريك جمال الصور الشعرية عند المتلقي تحريكًا منساقًا بتأثر وانجذاب وتتبع غير ممل إلى المرسوم بالألفاظ والجمل القصيرة والأسلوب المشوق.
وفي قصيدة ” أغنية في ليل استوائي” ما يجسد ذلك:
“فقولي إنه القمر
أو البحر الذي ما انفك بالأمواج
والرغبات يستعر
أو الرمل الذي تلمع
في حباته الدرر
لجوز الهند رائحة
كما لا يعرف الثمر
فقولي إنه الشجر
وفي الغابات موسيقى
طبول تنتشي ألما
وعرس ملؤه كدر
فقولي إنه الوتر
…
وجئت أنا
وفي أهدابي الضجر
وفي أظفاري الضجر
وفي روحي بركان
ولكن ليس ينفجر
فيا لؤلؤتي السمراء
ما أعجب ما يأتي به القدر
أنا الأشياء تحتضر
وأنت المولد النضر
فقولي إنه القمر
…”
2/ب) ومن بديع مكنته التعبيرية؛ قدرته على المرور إلى المتلقي وإحساسه برهف لذيذ، بموسيقى داخلية تشد إلى تتبع أطياف ممتدة ساحرة تستحوذ على الشعور فتغيبه في آفاق حالمة، بفكرة بسيطة وتعبير سلس:
“كقطرة من مطر،، تحدري تحدري
استرسلي ناعمة،، شهية كالخدر
وأشعريني أني الطفل الذي لم يكبر
…
وضمدي الجرح الذي عدت به من سفري
كقطرة من مطر تغلغلي في ضجري
في قلقي، في حُرَقي، في كدري، في سهري
…
تغلغلي، تغلغلي، وغسلي، وطهري
ردي إليّ نفحة… من الشباب العطر”.
وجلي من هذا المقطع ما انماز به شعر القصيبي من رهافة الحس وبديع العزف في نغمات الحرف والكلمة على أوتار الصور المألوفة في دواخل الروح معانيها وملامحها اللونية.
2/ج) أما قدرته على مخاطبة المتلقي، فمتضحة في استعماله الأسلوب السردي أو بعضًا من أركانه في داخل النص الشعري، كتحريكه الصورة باللجوء إلى استعمال الأفعال، أو في تضمينه النص شيئا من حوار، ليقود إلى تصيير المتلقي جزءًا من ألوان صوره الشعرية أو جزءًا من شخوص تحركها وتتحرك فيها انسياقًا برقة عزفه على أوتار الصورة وأنغامها المنسجمة المنسابة بهدوء لذيذ وإن كان ينقل تجليات الملل والإحباط في الخاطر في الذات:
“وحين أغيب
وراء المغيب
يقولون: كان عنيدا
وكان يقول القصيدا
وكان يحاول شيئا جديدا
وراح وخلّف هذا الوجودا
كما كان قبلُ غبيًا بليدا
ففيم العناء؟
ففيم العناء؟”.
أسلوب يحرك بسلاسة عددًا من القضايا الإنسانية المشتركة، مؤثر قادر على المرور إلى الشعور والفكر، يجلو برقة همومًا مخفية، فيزيحها عن كاهل الذهن والروح بإشراكه المتلقيين – على تعدد مستوياتهم الفكرية الثقافية- في الحياة بالصورة، وفي تحديد ملامحها وتلوينها بنفسه.
3- رأيه في المرأة:
ننقل عنه من حوار:
“- ما رأيك في المرأة؟ وهل تظن أن كيدهن عظيم؟
– يخطئ الكثيرون حين يعتقدون أن القرآن الكريم وصم النساء بوصمة الكيد العظيم، حقيقة الأمر أن القرآن في سورة يوسف نقل عن العزيز خطابًا لامرأته التي راودت يوسف عليه السلام عن نفسه ثم كذبت على زوجها” إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم” أما رأيي في المرأة؛ فيلخصه ما ورد في الأثر: ” النساء شقائق الرجال”… وأي حضارة في التكوين السلوكي الإنساني تستذوق من هذا الرأي؟!
وعن أحد النقاد قوله: ” كان سفره إلى القاهرة المرة الأولى التي يغادر فيها أحضان الأسرة إلى عالم جديد، ويؤكد صحة ما ذهب إليه أحد النقاد من أن الحبيبة (المرأة) لا تمثل بالضرورة فتاة بعينها بل هي شعور الأمن والاستقرار، والمستقبل بكل ما ينطوي عليه من تحديات”.
نظم في ابنته:
“العمر أنتِ… وريّاه… ورونقُه
وأنتِ أطهر ما فيه وأصدقه
يارا؟ أم الحلم في روحي يهدهدها
يارا؟ أم اللحن في قلبي يموسقه؟
أمن عيونُك هذا الفجرُ مشرقُه؟
أفديه فجرًا يظلُّ الفجر يعشقه”.
وأي مستوى في سمو خطابه إلى ابنته يستشف من هذا التغني بصدى طربه إلى تغلغل دلالات وجودها في معاني حياته من معانيها؟!
4- ملامح التأثر بالأدب العربي:
تاثر بوضوح بأعلام الشعر العربي الحديث، وتنقل (سيرته الشعرية) هذا التأثر، وتفصح بعض نماذجه عن ذاك.
يسجل القصيبي تأثره بمحمد مهدي الجواهري في استكشافه الأخير حين كان في الرابعة عشرة من عمره، لاسيما فيما تعلق بقضايا الأمة. فيمررنا على بعض ما نأسى عليه ونشترك في الإحساس بمرارته في تذكر أيام خالدات ورموزًا تغذت عليها الأجيال على مر التاريخ، ويوظف الرموز ألفاظًا أو مأثورات مروية، أو رموزًا بُنيت عليها الشخصية العربية ونمت على معطياتها. وتوثق قصيدته “أم النخيل” ذلك:
“يا أمُ! جرح الهوى يحلو إذا ذَكرت
روحي مرارة شعب يرضع الأسلا
يفدي الصغار بنهر الدم مقدسنا
ما لي أقلب طرفي… لا أرى رجلا
أرى الجماهير… لكن لا أرى الدولا
أرى البطولة… لكن لا أرى البطلا
لا تذكري لي صلاح الدين… لو رجعت
أيامُه لارتمى في قبره خجلا
…
أمَ النخيل! هبيني نخلة ذبُلت
هل يُنبتُ النخلُ عصنًا بعد أن ذبُلا؟!
يا أمُّ… ردي على قلبي طفولتَه
وأرجعي لي شبابًا ناعمًا أفلا
وطهري بماء العين أوردتي
قد ينجلي الهم عن صدري إذا غسلا
هاتي الصبي ودنياه ولعبته
وهاك عمري وبُقيا الروح والمُقلا”.
وللسياب نصيبه من التأثير في أدب القصيبي أسلوبًا أو مضمونًا وروحًا. ويتجسد هذا التأثر في أكثر من قصيدة، لعل ما نظم في ديوان: “عِقد من الحجارة” في قصيدتي: “يقول البحر” و”هي والبحر” ما يؤكد ذلك.
أما نزار؛ فقد بدت سمات مدرسته واضحة تمام الوضوح في عدد من قصائد القصيبي التي تشربت تلك الخصائص ممتزجة برهف حس الشاعر مؤدية دلالاتها العميقة في “حواء العظيمة”:
“أنت السعادة والكآبة
والوجد حبّك والصبابة
أنت الحياة تفيض بالخصب
المعطر كالسحابة
منك الوجود يعبّ
فرحته ويستدني شبابه
وعلى عيونك تنثر
الأحلام أنجمها المذابة
وعلى شفاهك يكشف الفجر
الجميل لنا نقابه
أوحيت للشعراء ما كتبوا
فخلدت الكتابة
وهمست للخطباء فارتجلوا
البديع من الخطابة
وخطرت في التاريخ طيفا
تعشق الرؤيا انسكابه”.
فالملحوظ من تتبع قراءة المقطعين الشعريين للقصيبي في أعلاه، مضافًا إليهما المذكور من قصيدتيه من ديوان”عقد من الحجارة” المتعلقتين بتأثره بالسياب؛ يستدعي في الذهن مباشرة صدى ” حييت سفحكِ عن بعدٍ فحييني… يا دجلة الخير يا أم البساتين”… فنعيش دلالاتها بل، موسيقاها وإيحاءاتها وصورها الشعرية والهموم المشتركة بين الجواهري والقصيبي وجمهورهما. ويحيي في الروح تتبعها الممتع في الإبحار لتيارات الروافد النزارية في رقة الصورة الشعرية وعمق تداعياتها الحسية. وينقل إلى مساحة ملامح الرمز ودلالته الخفية الظاهرة، وبراعة التأثير الأسلوبي في تحسس الموضوع والدخول مع الشاعر في خوض تجربته اليومية، وفي تحسس مؤثراته الرومانسية وتأملاته في غير محدود من الفضاءات الدلالية المحكومة بتلقٍ متفاوت دال مستلذ في كل مستويات تلقيه.
ويبقى القصيبي رمزًا من رموز ترف الأسلوب والسلوك والذوق الأدبي، وملمحًا واضحًا من ملامح الثقافة، والأدب السعودي والعربي عمومًا فيما نهل وسلك وأبدع في رقي نتاجه.