مدارسة حول التصوف في عمان (الجزء الثالث)

الشيخ السالمي فعلاً صحح الكثير من المفاهيم، لكن كان التوجه التصوفي قوياً، لأنه توجه قاده علماء كبار أجلاء، لهم مكانتهم الاجتماعية والعلمية والدينية، ولا أقول إن الشيخ السالمي قضى على التوجه الصوفي، وإنما استطاع أن يضيّقه، وتلاميذه ومن جاء بعدهم ما عادوا يأخذون بتلك الأفكار والمصطلحات إلا قليلاً.

مدارسة حول التصوف في عمان

مع فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي

الحلقة الثالثة

العدوي: في المرات الماضية أخذنا معالم التصوف الأولى، ثم دخلنا في موضوع التصوف بعمان، ووقفنا عند أقطابه الأربعة في عمان؛ وهم الشيخ أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي، وابنه الشيخ ناصر، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، والشيخ ناصر بن سالم الرواحي أبو مسلم البهلاني.

هؤلاء الأربعة هم رموز التصوف ابتدأ بهم وانتهى بهم، فهل هم مدرسة واحدة أم أن بينهم تمايزاً؛ لكل شخص مدرسته، فالشيخ جاعد كثيراً ما يعوّل على الغزالي، أما الشيخ ناصر بن جاعد فأراه يعقلن التصوف، بينما دخل الشيخ ناصر الرواحي في مسألة “النور المحمدي” و”الفيض المحمدي” و”في أولية خلق النبي محمد”.

في نظرك؛ هل هناك تمايز بينهم؟ أو أنه تطور طبيعي في التصوف عندنا بعمان؟.

السيابي: كما ذكرتُ في اللقاءات الأولى أن بداية التصوف في عمان كانت مع بداية القرن العاشر الهجري، بكتابة أوفاق وطلسمات، ثم تطور بمحاولات من بعض شعراء ذلك العصر كاللواح سالم بن غسان الخروصي وغيره، لكنها محاولات من وجهة نظري ما كانت تشكل تجربة صوفية.

التي اعتبرها تجربة صوفية فعلاً بدأها الشيخ أبو نبهان الخروصي رضي الله عنه مع بداية الدولة البوسعيدية.

أقطاب التصوف الأربعة؛ كل واحد منهم يعتبر المرجع الديني الأعلى في عمان؛ خصوصاً الثلاثة؛ الشيخ جاعد وابنه ناصر والشيخ سعيد الخليلي.

العدوي: هل أستطيع القول إن هذه ميزة للتصوف في عمان، أو للتصوف الإباضي بين المدارس الأخرى؟ أم إنه قد وجدت حالات مشابهة في التصوف السني أو الشيعي؟.

السيابي: مما يعاب على التصوف الإسلامي العام أنه ليس فيه علماء فقه كبار، اللهم إلا البعض كالإمام أبي حامد الغزالي، لكن بخطهم العام ما كانوا علماء دين كبار إنما كانوا متصوفة، بينما المدرسة الإباضية رمت التصوف بأفلاذ كبدها –إن صح التعبير– رمته بأكبر مراجع علمية في زمنهم، ولعلها من ميزات التصوف عند الإباضية حيث استطاعوا أن يوجهوا التصوف الوجهة الصحيحة، عندما نقول الصحيحة فليست الصحيحة مطلقاً، وإنما في إطار التصوف نفسه، بحيث إنهم ابتعدوا عن شطحات المتصوفة وطقوسهم، وكان التصوف عندهم نظرياً، وشكّل بعض رؤاهم الفكرية.

هؤلاء من وجهة نظري يشكّلون مدرسة واحدة، الشيخ ناصر بن أبي نبهان امتداد لوالده، والشيخ سعيد بن خلفان امتداد لهما، والشيخ أبو مسلم امتداد للجميع، ولكن لابد من التطور أيضاً نتيجة التأخر مثلما يقول المثل: كم ترك الأول للآخر. فالآخر دائماً يطلّع على ما عند الأول، وعلى ما يستجد في الحياة، فالشيخ ناصر الخروصي طوّر التجربة الصوفية وربطها بالعقل، والشيخ سعيد بن خلفان أوغل في قضية الإشراق، وهو حسب مصطلح الصوفية الإشراق بنور الله، الشيخ أبو مسلم ربط ذلك بالنبوة وأوغل في التبجيل والتقديس للأنبياء والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكن في النهاية هم مدرسة واحدة، فلذلك اعتبر التصوف من المعالم الفكرية التي شكّلت المدرسة البونبهانية في عمان، بالإضافة إلى معالمها العقدية والفقهية، من هذا المنظور أرى أنهم مدرسة واحدة؛ ابتدأت بالشيخ أبي نبهان واختممت بالشيخ أبي مسلم الرواحي.

العدوي: من خلال هذا العرض الذي تفضلتَ به، يجرنا الموضوع إلى قضية في التصوف أو الفكر عموماً بما فيه الفكر الإسلامي؛ فقهاً وعقيدة، هناك من يقول: إن المدرسة الإباضية لم تكن مبدعة في العلوم، وإنما تأخذ ما عند الآخرين، وتعمل على تطويعه وفق منظومتها العقائدية والفقهية، فمثلاً في أصول الفقه والرواية وعلوم القرآن والتفسير، وأخيراً التصوف، أخذت ما عند الآخرين، ثم قولبته برؤيتها المذهبية، هل هذا صحيح؟.

السيابي: هذا من وجهة نظري صحيح في جميع المجالات ما عدا في مجالي العقيدة وعلوم الفقه، ففيهما الخصيصة المذهبية واضحة، سواء في الطرح أو الأسلوب أو النقاش، فعلماء المذهب أكثروا من التأليف فيهما، أما بقية العلوم فاعتمدوا فيها على ما عند غيرهم اعتماداً كلياً أو جزئياً، فلذلك لا تجد لهم مؤلفات في الفنون الأخرى بالكثرة المطلوبة، وفي ذلك تأثروا بما عند غيرهم، ولكنهم طوروه وفق خصوصياتهم المكانية والزمانية والعلمية والمذهبية، فإلى حد ما هذه المقولة تصدق على كثير من فنون العلم ما عدا علمي العقيدة والفقه.

العدوي: لا أريد أن أخرج عن التصوف، وإنما لا زلت أسأل: هل في رأيك بالنسبة لهذه العلوم استطاع الإباضية فعلاً أن يطوروها ويضيفوا إليها أنساقاً أخرى، بحيث تقترب مع رؤيتهم؟.

السيابي: هذا هو الحاصل، طوّروا حتى في التصوف، فابتعدوا عن شطحاته وطقوسه، وأطلقوا عليه اسم السلوك، لأنهم لمّا رأوا التصوف يتكون من منظومة واسعة من الفكر والممارسة والطقوس، تخلوا عن اسم التصوف، ولا أقول إنهم لم يطرحوه، طرحوه ولكن بشكله العام، واختاروا له اسم السلوك، لأنهم اعتبروه يهذب سلوك الإنسان من خلال ربطه بالعقل والحكمة، فقالوا: هذا سلوك. وقالوا عن شعر التصوف: شعر السلوك. وعن العالم في هذا المجال: عالم بالسلوك.

رأوا أن المنظومة الصوفية واسعة جداً، وتشتمل على عدة مقاصد، فاختاروا اسم السلوك حتى ينسجم مع توجههم.

العدوي: بناءً على ذلك؛ في هذا الزمان الذي يراه البعض أنه زمان مادي مفتقرٌ من الروحانيات والوجدانيات –مع تحفظك على استعمال كلمة الروح– ألا ترى أننا محتاجون في هذا العصر إلى نهضة صوفية، وأن نقوم مرة أخرى باستجلاب التصوف إلى مدرستنا الإباضية بحيث تنهض بنفوسنا، ما المانع من ذلك؟.

السيابي: والله؛ لو أن الإنسان أطلق لنفسه مثل هذه الأمور فلن يقف عند حدٍّ، وإنما يجب على الإنسان أن يقف عند الأدلة الشرعية، عندنا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنظومة فقهية كبيرة مستنتجة منهما، والدين واضح، فلماذا المسلم يسير إلى التصوف؟ الله تعالى أنكر الرهبنة على المسيحيين فقال: ((ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)) هذه الرهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم فلم يقوموا برعايتها، وهذا طبعاً ليس تصويباً من الله تعالى لما ابتدعوه من الرهبانية، ولكن توصيفاً لما كانوا عليه، فالرهبانية التي ابتدعوها ليست من أمر الله، ومع هذا الابتداع لم يستطيعوا أن يوفوا بها، وهذا الإنكار الرباني للرهبنة دليل على أنها تتناقض مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأنها من التكليف بما لا يطاق، لذلك ابتدعها النصارى ولم يستطيعوا الوفاء والقيام بها، وفي نظري أن الرهبنة من الآصار والأغلال التي جاء الإسلام برفعها عن الناس، أما الإسلام فتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أكمل الله الدين واتضحت المحجة، (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها)، فما الداعي أن يسلك الإنسان هذه الطرق الصوفية، لأنها ستجره إلى الانعزال عن الحياة، وهذا ما يحاربه الإسلام، الإسلام يريد أن تعمر الحياة بالدين، وأن تربط حركتها بالعبادة.

العدوي: تفعيل الحياة بالعبادة.

السيابي: نعم، لأن المطلوب هو إسقاط حكم الدين على كل حركة في الحياة، فحركة الإنسان فيها لا تخلو من أن تكون فرضاً يجب فعله، أو محرماً يمتنع عنه، أو مندوباً يسعى إليه، أو مكروهاً يتقرب بتركه، وهناك الدائرة الأوسع في التشريع التي ترجع إلى مقصد الإنسان؛ وهي الإباحة، وهذا كله حتى تبقى حركة الإنسان منضبطة بحكم الدين.

الإسلام جاء يحارب هذه الطرق والممارسات.

العدوي: الطرق الصوفية.

السيابي: يحارب الرهبنة عموماً، والطرق الصوفية والانعزال وترك أمور الحياة من الرهبنة، الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أن بعث لم ينعزل عن الحياة، كان كل وجوده في الحياة.

العدوي: أفهم من رأيك؛ أننا نحن المسلمين عموماً والإباضية خصوصاً، لسنا محتاجين إلى الصوفية الطرقية، ولا إلى المصطلحات التي قد توحي بالشطحات، والدين؛ بفاعليته وحركته وديناميكيته مغذ كاف عن هذه الصوفية بطرقها ومصطلحاتها، هل أستطيع أن أقول هذا الكلام؟.

السيابي: لا، إذا نحن فرّغنا التصوف من مضمونه نرجع إلى نفس المبادئ الإسلامية، فحتى الصوفية عندما يطرحون التصوف يطرحونه بالمفاهيم التي جاء بها الإسلام، قالوا مثلاً: التصوف هو الزهد والترفع عن الحياة، هذه الأشياء جاء بها الإسلام نفسه، فمن الإشكال أن نحصرها على التصوف..

 

العدوي: لا، نحن نتكلم عن الطرقية والمصطلحات الشاطحة، لا نتكلم عن الـمبادئ الكلية.

السيابي: نعم تلك لا يقرها الإسلام، وبالنسبة إلى المشايخ الإباضية الذين ذكرناهم لم يأخذوا التصوف بكونه طرقاً، نعم أخذوا المصطلحات، والخلوة لطلب العلم وسموها الخلوات الرياضية، فالتصوف عند الإباضية كان ممارسة فردية وليست جماعية، وحتى هذا؛ الإسلام في غنى عنه، لأنه جاءنا بكل القيم الإخلاقية؛ الصدق والزهد، والسعي بالحلال، والكسب بالحلال، والإنفاق في الحلال، يعني عليك في كل شيء الالتزام بالدين وإخلاص النية والعمل والعبودية لله وحده، هذه كلها التي اعتبرت من الصوفية هي في الأصل مبادئ إسلامية، وإنما حصرت على التصوف من باب الدعاية إليه، وهذا غير سائغ.

العدوي: البعض يرى أن تعانق  المدارس الصوفية، ليست الإسلامية منها فقط، وإنما التصوف بمدارسه المختلفة، بما فيها النصارى واليهود والبوذيون والهندوس وربما الدهريون، ألا ترى أن ذلك التعانق يحقق الوحدة الإنسانية؟.

الأمر الثاني؛ ألا ترى أنه قد يكون في ذلك تسريب للأفكار الإسلامية إلى الآخرين؟.

الأمر الثالث؛ ألا ترى في ذلك تطويراً للوجدان المسلم عندما يتعانق مع رؤى غير إسلامية.

بمعنى أن التصوف بطرقه ومصطلحاته هو تيار إنساني؛ البشرية محتاجة إليه في هذا الوقت؟.

السيابي: هذه وجهة نظر لها ما يبررها عند من يرى صوابها، لكننا إذا جئنا إلى الإسلام، فهو معروف بمبادئه السامية وبتعاليمه وأحكامه، فلا داعي أن نحمله قضايا وضعية أخرى، فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرُ النبي هو أمرُ للأمة: ((قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين))، فالإسلام شامل كل ما يمكن عمله في الحياة، كما أنه جاء بالسكينة والطمأنينة: ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)) واعتبر الرشد في اتباع الإيمان، وعمل الصالحات، إذن الإسلام واضح لا داعي أن نحملّه ما لا يمكن أن يحتمله.

العدوي: الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي بكونه أبرز أقطاب المدرسة الإباضية في زمانه بالمشرق، عمل على تجفيف نهر التصوف الذي بدأ ماداً في ذلك الوقت، كما أنك ذكرتَ لي ذات مرة أن قطب الإئمة محمد بن يوسف اطفيش له أيضاً موقف مثل هذا في نص وجدتَه..

السيابي: نعم.

 

العدوي: برأيك لماذا جُففت هذه المنابع؟ لماذا لم يعمل على تطوير التجربة وليس إيقافها، قد يكون لدى الشيخ السالمي ملاحظات على التوجه الصوفي؛ فلماذا لم يطوره ويعدله وفق الشريعة، بدلاً من أن يعمل على إيقافه؟.

السيابي: لأن التجربة الصوفية قبل نور الدين السالمي هيمنت على عمان عبر ثلاثة من كبار الأئمة مثلوا المرجعيات العلمية الدينية في عهدهم، هم الشيخ أبو نبهان وابنه والشيخ سعيد بن خلفان، فكان الجو الفكري في عمان جواً تصوفياً، كانت المفاهيم والمصطلحات الصوفية يتداولها العلماء والناس، حتى بعد وفاة الشيخ سعيد بن خلفان ظلت متداولة عبر مؤلفاته وتلاميذه، كان الفكر الصوفي هو السائد، والشيخ السالمي نفسه تأثر بهذا الجو عندما كان صغيراً يدرس في الرستاق، حتى أنه دخل خلوة رياضية بقصد أن يتحصل على الإلهام بالعلم وسرعة الحفظ والنباهة، ولكنه لما تبحر في العلوم رأى أنها أوهام لا تجدي نفعاً، فقال في جواباته: إن علوم الشريعة لا تؤخذ بمثل هذه الممارسات الطقوسية، إنما تؤخذ بالأمور النقلية.

المهم أن الشيخ السالمي فعلاً صحح الكثير من المفاهيم، لكن كان التوجه التصوفي قوياً، لأنه توجه قاده علماء كبار أجلاء، لهم مكانتهم الاجتماعية والعلمية والدينية، ولا أقول إن الشيخ السالمي قضى على التوجه الصوفي، وإنما استطاع أن يضيّقه، وتلاميذه ومن جاء بعدهم ما عادوا يأخذون بتلك الأفكار والمصطلحات إلا قليلاً.

وهكذا الشيخ القطب؛ حيث يقول في بعض كتبه: إنني بعدما كنت أمارس التصوف كرهته، لأني وجدت منه أوهاماً في تفسير القرآن وغيره، وعندما أستدل ببعض مصطلحاته فذلك من باب الاستئناس بها.

العدوي: لو أردنا اليوم أن نقيّم هذه التجربة الصوفية بعد أن أنهاها الشيخ السالمي ونطرح هذا السؤال: ما الذي أضافته إلى المدرسة الإباضية؟.

السيابي: في الحقيقة لو جئنا نقيم المردود العلمي والديني على المدرسة الإباضية نجده لا شيء، حتى هذه المؤلفات نجدها بمعزل عن مؤلفات العقيدة والفقه وغيرها.

العدوي: لماذا؟.

السيابي: لأن أولئك العلماء الذين أخذوا التصوف كفكر ونظرية تجدهم عزلوه في مؤلفات خاصة، بحيث لم يظهر على مؤلفاتهم الفقهية والعقدية والأدبية، ولعله ظهر في بعض أشعارهم فقط.

العدوي: لكنه أعطى نوعاً من الثراء اللغوي.

السيابي: لا أبداً، إن قلنا إنه أعطى ثراءً ففي المجال الشعري فقط، لعله أضاف غرضاً شعرياً إلى الأغراض الشعرية المعروفة وهو الغرض الصوفي، وإن كان هذا الغرض لا يخرج عن كونه شعراً إسلامياً مارسه شعراء سابقون ومعاصرون، لأن ما يقال له الحب الإلهي والحب النبوي موجود في الإسلام، فالمسلم يمجد الله ويقدسه ويسبحه، وهذه في أساسها أوامر قرآنية، وقد ظهرت في هذا الشعر مصطلحات صوفية، إلا أنه يمكن أن يقولها أي شاعر لديه مفاهيم إسلامية من غير أن يكون صوفياً، كما هو واضح عند الشعراء الذين لم يعتنقوا التصوف.

العدوي: لكن لو توقفنا عند الشيخ أبي مسلم البهلاني فلغته كانت صوفية في النظر إلى الوجود والألوهية والنبوة، إلى غير ذلك، فالرسول عليه السلام مثلاً عند أبي مسلم هو أول الكائنات، وقد خلقت منه، وهو الفيض، وهو الغوث.

السيابي: ما خلقت منه، قال خلقت لأجله الكائنات، وهذا عنده من باب تمجيد النبي صلى الله عليه وسلم، وقصد به المزيد من الحب النبوي، ولعل ذلك فرضته ظروف معينة في وقته، والشيخ أبو مسلم بالغ في هذا الطرح؛ لا شك في ذلك، وقد يكون بذلك أضاف غرضاً إلى الشعر، لكن لما تقرأ مؤلفات أبي مسلم في العقيدة أو الفقه كنثار الجوهر، لا تجد هذه النزعة.

إذن نعود فنقول إن المذهب الإباضي لم يستفد من الفكر الصوفي، لأنه لم يظهر على مؤلفاته التي تخدمه كالفقه والعقيدة والتفسير، إنما ظهرت في الشعر فقط، حيث لا تجدها إلا في جانب من أشعارالشيخ أبي نبهان وابنه الشيخ ناصر والشيخ سعيد بن خلفان والشيخ أبي مسلم، بهذا الاعتبار يمكن أن نقول عنه إنه أضاف غرضاً شعرياً في الشعر الإباضي، وأن نصنفه مذهبياً بأنه إباضي، لأن هؤلاء الشعراء علماء في المذهب الإباضي، لكن يبقى استعماله رأياً لهم في المذهب، ولا يمكن أن نعبّر عنه بأنه رأي المذهب؛ دينياً كان أو شعرياً، لأن بقية علماء المذهب لم يأخذوا بهذا الغرض الشعري، ورأي جمهور المذهب –بحسب وجهة نظري– هو رأي المذهب، ورأي فرد منه أو بعض أفراده هو رأي في المذهب، وهذا الغرض الشعري يحمل رؤية فردية لمن قاله وهم هؤلاء المشايخ الأربعة فهو رأي في المذهب، وليس رأي المذهب.

العدوي: إن كان المصطلح الصوفي شكّل غرضاً من أغراض الشعر في تلك الحقبة، اليوم لو كنتُ شاعراً فلماذا لا أستعير هذه المصطلحات؟ ولماذا لا أطوّرها؟ ولماذا لا أحملّها مثلاً مصطلح الفيض، ووحدة الوجود، والقطبية والشطح؟ لماذا لا استعمل ذلك في شعري بحيث أطوّر من تجربتي الشعرية؟.

السيابي: والله هذا لا يمنع أن يصبح غرضاً شعرياً مثل غيره من الأغراض الشعرية كالغزل والنسيب والرثاء والمديح والهجاء لكنه يبقى رؤية فردية للشاعر، لا مردود له على المدرسة الإباضية.

العدوي: بعدما طُوّع التصوف وفق كليات المدرسة الإباضية ووجد له رموز وأشخاص وتجربة، الآن بعد أكثر من مائة عام منذ أن انقضت هذه التجربة؛ هل نستطيع القول إنها أضافت شيئاً إلى المدرسة الإسلامية؟.

السيابي: التجربة الإباضية؟.

العدوي: نعم التجربة الإباضية الصوفية، هل وجدت لها صدى في بقية المدارس؟ وهل أضافت شيئاً إلى المحتوى الفكري في المكتبة الإسلامية؟.

السيابي: باعتبار المذهب الإباضي من المنظومة الإسلامية؛ فقد أضاف إلى المكتبة الإسلامية، فهو قد وضع مؤلفات، وكل مؤلَّف في فن ما يعتبر إضافة إلى تلك المكتبة، فطالما أنه وجدت مؤلفات صوفية عند الإباضية لا شك أنها إضافة إلى المكتبة الصوفية في الإسلام.

العدوي: وإلى التفكير في المدرسة الإسلامية؟.

السيابي: أما بالنسبة إلى فكر المدرسة الإسلامية العامة فلا أظن أنها أضافت شيئاً، لأن تلك المدرسة لم ترَ جديداً في التجربة الصوفية الإباضية، لأنها أوغلت في التصوف الطرقي والممارسات الطقوسية، فأصبحت لا يضيف إليها شيئاً التصوف الفكري أو الفلسفي عند الإباضية، فمثلاً ما هو موجود عند الشيخ ناصر بن أبي نبهان ما أصبحت ترى فيه بُعداً كبيراً، لأنها هي نفسها قطعت شوطاً كبيراً تعدت ما عند ابن أبي نبهان وراحت إلى الطقوس والممارسات إلى حدِّ الشطحات، بل يمكن من وجهة نظرها أن تعتبرها تجربة بسيطة مبتدئة.

العدوي: قصيرة..

السيابي: وقصيرة، وبالتالي لا أتوقع أنها أثرت في المدرسة الصوفية الإسلامية العامة، ولا هذه المدرسة اعتبرت التجربة الإباضية تجربة جيدة باعتبارها جزءاً بسيطاً منها.

العدوي: اليوم لو أردنا أن ننظر إلى ساحتنا العمانية خاصة فيمكن أن نقسم الناس إلى ثلاثة توجهات:

توجه مشتغل بالفقه والتدين.

وتوجه عامة الناس وهو أيضاً متأثر بجزء من هذا الجانب.

والقطاع المثقف بما فيه الشعراء والأدباء.

كل هذه التيارات الثلاثة الموجودة عندنا نجدها بدرجة أو أخرى تعود إلى التصوف بكونها ممارسات وأوراداً وخلوات وربما حلقات ذكر، بالنسبة للمتدين والعامي فمن حيث مشروعيته وممارسته، وبالنسبة للمثقفين لا سيما الأدباء فمن حيث استعمال لغة التصوف والعناية بها والانفتاح معها والتأطير الأدبي لها، لماذا هذه العودة إلى التصوف من المدرسة الإباضية بأطيافها الثلاثة إن لم يضف إليها شيئاً؟ لماذا بدأنا نرى على المستوى الشعبي مثلاً شخصاً يجمع حوله طلاباً يصلون إلى أكثر من خمسة وعشرين شخصاً يعلّمهم الأذكار و”أسرار الحروف”، ويعلمهم أن هذه الطريقة هي التي ينفعل بها الوجود وتحقق لهم مبتغاهم ما لم يتحقق بطرق أخرى؟.

السيابي: من وجه نظري أرى أن التوجه إلى التصوف هو توجه عالمي، ليس محصوراً على الإسلام، فهناك التصوف المسيحي واليهودي، وتصوف الديانات الوضعية، وهذا التوجه العالمي نحو التصوف لعله أصبح مرحباً به من قبل دوائر سياسية وأمنية عالمية، هذا حسب استقرائي وبما قرأت من تحليلات، فقد سُخِرت لهذا التوجه وسائل الإعلام لترويجه وتكريسه، والإعلام له دور كبير في تكريس المفاهيم والأفكار، فهنالك دعم على مستوى دولي لهذا التوجه، والناس يتأثرون بهذا الطرح، والعماني أو الإباضي ليس بمعزل عن العالم وعما يدور حوله، فيتأثر كما يتأثر غيره بما هو مطروح على الساحة، فالتأثر الآن من قبل الإباضية سواء كانوا وسطاً دينياً أو ثقافياً يأتي من هذا القبيل، هذه أسبابه لا أكثر ولا أقل، التأثر بما هو مطروح ومدعوم إسلامياً وعالمياَ وليس بأي سبب آخر.

العدوي: ما الذي سيضيفه هذا التأثر إيجاباً وسلباً؟.

السيابي: من وجهة نظري، كما أن التصوف ماضياً لم يضف إضافة إيجابية؛ لا على الفرد، ولا على المذهب الإباضي، ولا على المستوى العماني، هذا التوجه التصوفي الحاضر من الأكيد لا يضيف بُعداً إيجابياً، بينما قد يضيف بُعداً سلبياً وهو الرهبنة والانعزال عن الحياة.

العدوي: شطحات…

السيابي: والخلوة الزائدة ربما يصاحبها شطحات سلوكية غير طيبة وشطحات فكرية غير صحيحة.

العدوي: دعني أقول في ختام هذا اللقاء الممتع: عندنا المدرسة البونبهانية التي أوجدت في شقها الأدبي توجهاً صوفياً أثر على الناس في واقعهم الاجتماعي، ثم جاءت مدرسة الشيخ السالمي فأوقفت هذا التوجه، وعنيت بالأدلة الشرعية من وجهة نظرها، اليوم بعد هاتين المدرستين أين تجد الإباضية؟ هل هم أقرب إلى المدرسة البونبهانية، طبعاً ببعدها الصوفي، أو هم أقرب إلى المدرسة السالمية؟.

السيابي: لا شك أن المدرسة السالمية هي المؤثر الأكبر الآن، لأن ميزتها أنها أقامت دولة الإمامة التي كان أركانها من تلاميذ هذه المدرسة، تجد الإمام والقاضي والوالي والعامل أغلبهم من خريجيها، ودولة الإمامة استمرت حوالي نصف قرن فاستطاعت أن تشكّل العقل الإباضي العماني تشكيلة سالمية؛ إن صح التعبير، فلا تزال آثارها مستمرة إلى الآن، صحيح ربما توجد آثار للمدرسة البونبهانية، يمكن أن نعطيها ما نسبته 25%، أما ما نسبته 75% فاعتبره من تأثير المدرسة السالمية، طبعاً هذا في التوجه الصوفي.

العدوي: طبعاً حديثنا عن التوجه الصوفي.

السيابي: في الجانب العلمي؛ الشيخ السالمي امتداد للشيخ سعيد بن خلفان الخليلي الفقيه، والخليلي امتداد للشيخ ناصر بن أبي نبهان الفقيه، والشيخ ناصر امتداد للشيخ أبي نبهان الفقيه، والشيخ أبو نبهان امتداد لمن قبله إلى الإمام جابر بن زيد، إلى ابن عباس، إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

بالنسبة للوضع الآن؛ لا نقدر أن نقيمه على أنه تجربة صوفية، فقد يضمحل بعد فترة قصيرة عندما يزول التأثر بالتوجه الإعلامي العالمي.

العدوي: توجه إعلامي ضخم.

السيابي: نعم توجه إعلامي ضخم، ولكنه قد يكون آنياً، التأثر الحقيقي في المجتمع الإباضي هو تأثير المدرسة السالمية، والذي لا يزال مستمراً حتى الآن.

العدوي: لكن لا زلنا نرجع إلى بعض جوانب التصوف، فمثلاً الاضطرابات التي تصيب الإنسان تُعالج بإخراج الجن أو باللجوء إلى “أسرار الحروف”، أو بتلاوة بعض الأذكار، وهذه أمور أتت بها الصوفية ولا زالت تحرك جوانب من المجتمع إلى الآن، مع وجود المستشفيات والتطور العلمي الذي هو أقرب إلى روح الشريعة، وأقرب إلى توجهات الشيخ السالمي لو وجدت في عصره.

السيابي: موجودة ويمكن أن نعطيها نسبة مئوية معينة، لكن كما أخبرتك تأثير المدرسة السالمية هو المستمر.

العدوي: كيف تنظر إلى التصوف مستقبلاً في عمان؟.

العدوي: أتوقع أنه لن يكون قوياً، أولاً لأن المذهب الإباضي بدأت معالمه تتضح للناس بظهور المؤلفات والطرح الفكري، فأتوقع أن التأثير الصوفي سيكون ضئيلاً، لأنه حسبما أعلم قد يعتنق بعض الناس شيئاً من هذا التوجه لكنهم بعد فترة يتركونه ويعرضون عنه.

ثانياً لأنه لم يحمل هذا التوجه أشخاص لهم تأثيرهم الاجتماعي، بينما مَن حمله سابقاً في عمان هم عمالقة ذوو قامات طويلة في العلم كالشيخ أبي نبهان وابنه الشيخ ناصر والشيخ سعيد الخليلي، هؤلاء لهم تأثيرهم الضخم في عمق المجتمع؛ الاجتماعي والعلمي والديني، اما الذين يحملون التصوف الآن ومستقبلاً فأتوقع لن يكون لهم حضور اجتماعي.

العدوي: فيما لو انتعش التصوف؛ وأنت ترى أن له جوانب سلبية، فهناك من يرى أن مواجهته بإحدى طريقين؛ بالاتجاه نحو الرواية، لأن المحدثين وقفوا منذ القديم حسبما يرى هؤلاء ضد التصوف، أو بوضع التصوف في مسار يتطابق مع أحكام الشريعة، كما فعل الشيخ ناصر بن أبي نبهان مع التصوف.

في أي الطريقين تضع نفسك؟.

السيابي: لعله في الطريقين معاً.

العدوي: كيف؟.

السيابي: رأيي؛ عسى أن يتجه الجميع إلى تضييق ظاهرة التصوف في المستقبل.

الطاولة المستديرة العدد العاشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

خميس بن راشد العدوي

كاتب ومفكر اسلامي