بعد ثلاثة أسابيع تقريبا من الحراك الشعبي المصري ضد نظامه وصلت الثورة المصرية كما يُراد وصفها إلى حائط صلد يقف أمامه الثوار ولا يملكون سوى أظفارهم لحفر أحجاره القاسية ، بغية الخروج إلى عالم الحرية اللامحدود وفضاءاته الواسعة ، ولا تزال هذه الثورة الفتية بعيدة عن أهداف استراتيجية واضحة تُمكـّن المراقبين الوصوليين من ذوي الأطماع المختلفة إلى تحديد مواقفهم تجاهها وتجاه تداعياتها ، سياسية كانت أو جيوسياسية أو ثقافية أو غير ذلك ، وهذا وإن كان في حد ذاته يمكن أن يكون – بشكل عفوي – خادماً للجوانب التكتيكية إلا أن غياب أجندة ثورية – أولية على الأقل – يجعل هذه الكتل البشرية الهائلة موجهة لحرب بالوكالة تخدم ذوي الأجندات المحددة والمصالح المخطط لها سلفا وقد تراكم عليها غبار الزمن ، والذين ظلوا عاكفين على تحجيم الحضور المصري ويريدون اليوم تفكيك ما تبقى له من بناء سياسي واستقرار جغرافي وتلاحم ديموغرافي ..
زبائن القاهرة المتزلفين من ذوي الوجوه المتعددة الذين كانوا يحجون إليها بشكل مستمر في تسوية الكثير من قضايا المنطقة أيديولوجيا أو عسكريا أو أمنياً ، والذين تواطؤا في تجويع الشعب المصري ، هم الذين يقفون اليوم – من وراء الستار – شركاء في صناعة القدر المصري الجديد ، باسم الحرية .. وهم الذين يجتهدون سعيهم في اجترار الأحداث باتجاه هذا القدر الذي يلبي طموحاتهم ويحقق مصالحهم الإقليمية ، ويحاولون بلورة أفكار التحرر وإذكاء التيارات السياسية المختلفة باتجاه عجل السامري ( الوهم الثوري ) ، ولكن ذلك يتم بالتوازي مع النفاق السياسي للنظام الجريح القائم الآن ، لضمان عدم إرباك التوازن الإقليمي في حال تحققت أي من السيناريوهات المحتملة .
رغم أن الوعي العربي عموما والمصري خصوصا ينزع الآن منزعا ثورياً بالقوة والفعل ، إلا أن الأسابيع القادمة وربما الأيام القادمة تخبيء الكثير من المفاجآت ولن يكون من الحكمة التفاؤل بواقع يختلف كثيراً عن المشهد الذي سبق الثورة ، فتعاطف الخارج وحرصه على أمن وسلامة مصر مجروح في أمانته ونزاهته ، أما عرائض المطالبات الشعبية فقد تعومل معها بشكل برجوازي ، وكرّس تلك البرجوزاية موقف الثوار أنفسهم حينما تضعضعوا وضعفت مواقفهم بتراجعهم عن مبادئهم وثوابتهم المعلنة وقبولهم بالحوار المباشر مع النظام الذي يدّعون عدم شرعيته وأهليته ، فما كان من النظام إلا ابتلاع الأيديولوجيا الإخوانية وذلك التمثيل الرمزي لشباب 25 يناير ، حينما نجح في اجترارهم إلى طاولة مستديرة يقلب المشهد رأساً على عقب ويحول الثورة إلى معارضة ويعيد للنظام عافيته ، وما ذلك إلا بسبب غياب أجندة واضحة ومحددة لهذا الزلزال الثوري .. يضاف إلى ذلك أن الجيش وهو الورقة التي يراهن عليها الثوار مهدد بالانقسام في داخله فيما لو قرر تغيير موقفه وتوجيه دباباته باتجاه القصر الجمهوري ، وهذا الانقسام مطلب محوري لأصحاب تلك الأجندات وهو بداية المشهد النهائي لسقوط النظام ودخول مصر في ظلام السيناريوهات المتعددة .
يشير بعضهم إلى الثورة الفرنسية وكيف حققت نجاحا ساحقا في سبيل إلغاء مشهد سياسي واستبداله بمشهد سياسي آخر دون الحاجة إلى أجندة ثورية .. إلا أن المقاربة بين الثورتين غير موفقة على الإطلاق ، فالثورة الفرنسية لم تتحرك باتجاه إسقاط النظام القائم آنذاك وحسب ، بل انطلقت بأجندة محددة كان إسقاط النظام السياسي مجرد مدخل إلى إعادة رسم واقع متكامل في جوانبه الثلاثة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وقد حددت لنفسها ثلاثة مسارات واضحة وهي إلغاء السيطرة الدينية والملكية الإلهية والهبات الإقطاعية ، ولذلك كان العمل على تحقيق تلك الأهداف من خلال حكومات تعاقبت على تلك الأجندة الثورية لعشر سنوات أسست فيها دستوراً جديداً للبلاد بتعددية سياسية وأقامت الحرية والعدل والمساواة ، ومع كل ذلك انتهت بنظام ديكتاتوري توسعي ، أما ثورتنا المصرية فقد بدأت بمطالبات محددة لم يكن إسقاط النظام واحداً منها وهذه من مفارقات المشهد الثوري ، وما أن وصلت إلى عنق الزجاجة حتى اختزلت كافة تلك المطالب في النظام القائم ، وأعلنت رفضها لأي شكل من أشكال الحوار والتفاوض مع النظام الفاسد وغير الشرعي ، إلا أنها تراجعت ودخلت إلى غرفة المفاوضات وفاوضت وحاورت وناقشت ، ثم عادت بخفي حنين تعلن مجدداً فشل تلك الخطوة .
النظام الحالي زائل لا محالة كيف ذلك ومتى ، ستكشفه لنا المرحلة القادمة .. إلا أن ذلك ليس إلا مدخلا إلى مرحلة هامة يحتاج فيها ساسة مصر إلى فرز المؤشرات المستقبلية محليا وإقليمياً ودولياً للانطلاق بمصر إلى مستقبل مشرّف ، ومنتهى آمالنا أن يتحلى أخواننا المصريين بالحنكة والحكمة لحفظ النفس والاسترشاد برايات المقاصد العالية ومناراتها الشامخة في إبحارهم إلى ساحل الحرية وأن يكونوا أكثر احترازا في التفريق بين حصان الثورة وحصان طرواده .
خالد الكندي