الشمسُ تعصرُ آخر ضوئها على الأمكنة ، والطفلة ذات الأعوام الثمانية – التي كنتها – تخبئيدها في قبضةِ أمها الباردة .
ثوبي يفوح البنفسج فيه لوناً ، خطاي تقبل الشارع الذي كان يضيقُ رويداً ، وصوب العتمةِ تنحدرُ الأشياء فجأةً عندما ننعطفُ أنا وأمي يساراً عبر زقاقٍ ضيقٍ جداً إحدانا وراء الأخرى .
يبصقنا فم الزقاق الرطب إلى حارةٍ كئيبة ، بيوتها طينية رطبة .. ينغرز بين شقوقها اخضرارٌ عفِن ، وجه الأرض متجعدٌ هناك ، وقططٌ كثيرة مدبوغةٌ بلون الإسفلت تتكدس حول حاويةِ نفاياتٍ مركونةٍ على جانب الطريق .
نصلُ إلى بيتٍ لفحته الشمس بصفرتها ففقد نصاعة بياضه ، الباب ُ حديدٌ صدئ ما إن حرّكته أمي ببطء حتى أصدر أزيزاً مزعجاً .. وحين تعالى صوتُها بتساؤل مرتبك : ” أم حسين ” .. ” أم حسين ” سمعتُ خشخشة نعلٍ يقترب منا ولاحت امرأة بعمر أمي .. ذات بنيةٍ ضخمة ، ووجهٍ غير مريح .. تصافحتا ، وكانت تربتُ على ظهري حيناً وتقرصُ خدي بخشونة حيناً آخر، “رضيّة” همهمت أمي بالاسم أمامي عدة مرات ،، و ثمة ما وشت به شفاههما وهما تشيران إلي !
تقودنا نحو غرفةٍ لا نوافذ فيها ولا شمس تدحرجُ ضوءها ، المصباح فقط يرعّشُ طاقة ضوئه بخفوت ، وامرأةٌ عجوز تجلسُ وسط الغرفةِ وَ على وجهها نصف ابتسامة ، أخمن أنها من نادتها أمي وقت دخولنا ، تضمني إليها برفق .. في صدرها رائحةُ توابل وزيوت غريبة .. أنا .. أبعد رأسي عنها باشمئزاز .. متمنيةً أن أبصق في مكانٍ ما هذه الرائحة التي انحشرت في صدري !
ما إن أفلتُّ من عناقها حتى أدركتُ أن أمي صارت أبعد من أن أركض وأختبئ في عبائتها هرباً من هذا الاختناق ، كانت رضيّة الأقرب إليّ , ما لبثت أن أحاطتني بذراعيها متخصرةً إياي من الخلف ، جسدي يرتعش خوفاً .. همهمتُ مناديةً أمي برجاءٍ يائس ، لا أحد سيدفع هاتين الغريبتين عني ، أرى مشارِط صدئة مغموسة في سائل شفاف ، أرى مقصاً وأدوات مسننة ، تتوثب دموعي وأنا أفكر في أي جزءٍ من جسدي ستبدآن التقطيع ، وهل ستأكلانني الآن أم غداً !
تسندني رضية إلى حجرها في جلسة ٍ قبالة أم حسين ، أئن وتصّاعد تنهيداتي الباكية ، تطمئنني بكلماتٍ فارغة وهي تسحبُ بنفسجَ الثوب إلى أعلاي فيما تعرّي أم حسين ملابسي الداخلية !
أصرخُ باعتراض وأركلُها في صدرها ، لكن رضيّة تسارعُ بتثبيت ساقيّ بذراعيها الضخمتين، أنا أشعرُ بالخذلان .. أحاول أن أزحزحني ولا أستطيع !
شيءٌ باردٌ يندسُ بين فخذي .. شيءٌ كالبلل ، أصابعٌ تتفحصني ببطء ، أنا .. أمررُ لعناتي عليهما إلى نافذة الله، وتندلق دعواتي الصغيرة طالبةً غفراناً من خطايا كثيرة ، حلوى أخي التي سرقتها هذا الصباح ، وقميص والدي الذي أحرقته بالمكواة وخبأته أسفل سريري ، وعلبة مكياج أمي التي عبثتُ بها وألصقتُ التهمة بأخي الصغير .. وكذبتي على أختي بشأن اسم صديقتي …
يا إلهي .. هل سأدخل النار بعد أن تفرغان من أكلي !؟
فجأةً يندفعُ أسفلي ألمٌ حارق ، وخزٌ مريع ، أصرخُ بكل صوتي الضعيف ، أتلوى بين ذراعي رضيّة ، أشتمُهما ، وأنثرُ نرد وجعي على مد الكون ، أبصقُ .. أبكي .. أتأوه وأكرهُ أمي التي رمت بي هنا وهربت !
أحركُ رأسي محاولةً رؤية ما يحدث ، في وجهي البنفسجُ فقط ، وحين أزيحه قليلاً أرى مشارطها تتأرجح !
يا الله ! أنا أفقد أعضائي إذن !
لا أجد في جسدي طاقةً للحركة والركل ، أفقدُ الاحساس بساقيّ المنفرجتين في وجهِ أم حسين ، نشيجي مبحوح ، وعيناي تآكلتا من الدمع !
بعد أن جف سيل شتائمي ، وتثقّب صوتي من صراخٍ لم يحرك شعورها ، أنهتْ أم حسين معركتها وجسدي الضئيل ..
قطعةُ شاشٍ مدماة دُستْ أسفلي ، وجسدٌ فقد اكتمالهُ للأبد .. كان ثمنا لمعركةٍ وشمتْ بنفسج روحي بيباسٍ شاسع ..