إن الأساس في حركة الشاعر هو السعي لتقديم نصوص جديدة، مدهشة وثرية ومغايرة، نصوص تضيف ولا تكرر، نصوص تمتح من النبع الخلاق الموجود في أعماق البشر عمومًا، والشعراء بشكل خاص، لأن طبيعة عملهم تفرض عليهم الانفتاح على العالم الداخلي والخارجي، والانشغال الدائم بالرصد والإصغاء والتأمل، وامتلاك المهارات التي تمكنهم من اصطياد لحظات الفيض الباطني والسيطرة على اللغة بهدف استغلال طاقاتها وترويض إيحاءاتها، والتمكن في النهاية من تقديم عمل إبداعي يفاجئ المتلقي ويدهشه، ويثري نظرته للعالم، وإحساسه بالوجود، وهذا الانشغال الدائم بالرصد والإصغاء يمنح التجربة الشعرية مزيداً من النضج والاندفاع نحو تحرير القصيدة من طابعها الجامد، المستغلق إلى طابع رؤيوي آفَّاق، لأن الرؤيا هي جسد القصيدة ، ولا يمكن للشاعر أن يكون بهذا القدر من التبصر والتوحد مع الأشياء وما يتيحه العالم من فرص اقتناص إشراقات القصيدة ومجاهلها دون ذوبانه وتوحده المطلق مع الرؤيا بمعناها الاستيهامي الحلمي. لذلك فإنّ شعر الرؤيا يرتقي بالذات ويتلذذ بكل ما هو جمالي، بقدر ما (يرفع النقاب من البداية عن كل شيء، عن كل ما نتناوله ونتداوله بعد ذلك في لغتنا اليومية الجارية). فالرؤيا الشعرية وما تمثله من قمم إبداعية تتصادى وتتنامى في حضن التجربة عبر فضاءات تكشف الثاوي والخفي في الدواخل، وهذه الرؤى توطد الصلة مع الشاعر وتعمق من نظرته للأشياء المحيطة، بالعالم الخارجي، بالتحولات المجتمعية والشعرية، ولا يمكن لصلة الشاعر بعالمه أن تكون بهذا المستوى إلا إذا كان مسكوناً برؤيا حقّة، تتيح له تمثل العالم والانغمار فيه، والتفاعل معه تفاعلا داخليًّا وهاجًا. من هنا كانت الرؤيا أحد الروافد الأساسية في إغناء التجربة الشعرية، ومدها بالعمق الذي تسعى إليه، لا معنى للقصيدة دون أفق يكشف لها تلك المعاني الثاوية في الأعماق.
لاشك أن الشعرية العربية تمر بانعطافات وتحولات عسيرة في وقتنا الراهن، لأن الكثير من كتابها يفتقرون لأبسط شروط الممارسة الشعرية، والخلل واضح: فعل الإدهاش مغيب، أو نقول متحجب وراء ذائقة شعرية معطلة، وغياب مشروع شعري متكامل الرؤى. دعونا نتساءل: هل القصيدة العربية الراهنة تعيش أزمة تلقٍّ ونقد؟ إن كانت أزمة قراءة، فتلك معضلة لا تخص الإبداع الشعري وحده، بل كل الأجناس الإبداعية الأخرى، ألا نجد أنفسنا منجذبين لشعر المتنبي وطرفة بن العبد وأبي تمام وغيرهم رغم مرور كل هذه السنوات؟ ألا تغرينا غنائية محمود درويش، وغموض أدونيس، وعمق محمد بن طلحة وتفاصيل سعدي يوسف؟ إنها الرؤيا كفعل يعمق التجربة بما فيها من حالات قلق وإدهاش، وطاقات تفجيرية وسعي حثيث نحو اقتناص جوهر الأسئلة: أجل، إنّ أحدًا لا يستطيع أن يلغي الشعر لأنه بذلك يلغي الإنسان، من يقول ذلك هو أشبه ما يكون بالقنبلة النيوترونية التي تبيد الناس، كما تبيد الحشرات، وتبقي الأشياء على قيد الحياة. والمتأمل للراهن الشعري العربي الآن قد يلحظ ذلك التكلس الذي يطبع الكثير من النماذج الشعرية، وفي اعتقادي أن التناصية السلبية والاجترار وغياب الرؤيا هي من الأسباب التي جعلت القصيدة تسقط في التهلهل والضعف، وقلما تجد شاعرًا بفتوحات رؤيوية خلاقة إلا ما ندر أو سقط سهواً في بحر الأسئلة العميقة.
من زاوية أخرى، إن افتقار الشاعر الحديث إلى رؤيا شعرية تميزه، وتجعله هو نفسه دون سواه، قد أدى إلى هذه النتيجة المدمرة: ضياع التفرد وفقدان النبرة الخاصة في معظم الشعر الذي تكتبه الأجيال المتأخرة، لقد تناثرت شظايا الأسيجة، وتداخل دخان القرى، وامتزجت الحقول ببعضها، فما عدنا نفرق بين قصيدة هذا الشاعر وقصيدة شاعر سواه، ما عاد في وسع القارئ كما كان سابقًا، أن يميز ما يقرأ، وكان من الطبيعي أن تفشل هذه النماذج في ترجمة تلك الشحنات الانفعالية إلى رؤى تتحول إلى نهر متدفق من الجمال والإبداع، غير أن ما يجعلنا ننظر إلى الراهن الشعري بنوع من الابتهاج هو هذه الحركة التي تعرفها الساحة الثقافية، وتعدد التجارب الشعرية وكثرة الإصدارات. وإذاً، ينبغي أن يمشي الشعر في الظلمة ويعثر على قلب الإنسان، على عيون المرأة، على المنسيين في الطريق، هؤلاء في ساعة حالكة أو في عرض ليل تشغله النجوم، يحتاجون إلى الشعر، ولو كان بيتًا واحدًا. وبعد، فالتجربة الشعرية كفعل مكاشفة، وكرؤيا مجسدة تعبيريًّا في منجز نصي، لابد لها من النضج الكافي، ومرورها بكثير من المنعطفات، حتى تحقق ذاك الترابط الخفي بينها وبين الشاعر، ولتحقق ذلك لابد من اختمار التجربة والوعي المستمر، بقيمة فعل الإبداع عبر سلك طرق المكابدة والأناة والدربة، لأن صنعة الشعر ليست عارضًا طارئًا أو خاطرًا عابرًا- كما يعتقد البعض- بل لابد من العذاب المزدوج حسب تعبير علي جعفر العلاق، وهو معرفة المعاناة ومعاناة المعرفة، ثم لابد لهذه التجربة الشعرية من إحساس كامل بجدوى الكتابة والاحتراق والتوحد بالألم، ومن الطبيعي أن تكون هذه التجربة بحجم الفجيعة والأنين قبل القبض على الإشراقة المجنحة، ومحاولة هتك حجب النص الشعري بكل سعة صدر وقدرة على التخييل وضبط اللغة وبناء شامل للمعنى والعزف على وتر التحزن والتفجع.