ألعاب الفيديو .. وسيطٌ يشكّل ذائقة المتلقي

كتب بواسطة محمد الجداوي

“ما الإنسان؟ إنه ليس إلا كومة صغيرة بائسة من الأسرار.”
كثيرون يعرفون هذه الكلمات، وربّما رددوها مرارًا وخلطوها بأنفسهم، بيد أنهم لم يعرفوها من “اللا مذكرات” للكاتب الفرنسي أندريه مالرو، ولكن من داركولا لأنه قالها في لعبة من سلسلة الألعاب الشهيرة كاسلفينيا (Castlevania).
وكثيرون اليوم يعرفون شيئا عن قصة الحشاشين وشيخ الجبل، بيد أنهم لم يقرؤوا عنها في كتب المؤرخين أو مدونات الرحالة، ولكنهم لعبوا أجزاءً من سلسلة عقيدة القتلة (Assassin’s Creed).
وأكثر من هؤلاء وهؤلاء، أولئك الذين يعرفون عالم 1984 وعن سير الأنظمة الشمولية مع أنهم لم يقرؤوا قط رواية جورج أورويل.
إن لعب ألعاب الفيديو لا يغني فتيلًا من قراءة الكتب، غير أن هذه الألعاب لا تختلف عن غيرها من الوسائط في نقلها الفلكلور والثقافات وتاريخ البلدان.. وتقديمه في قالب جاذب، يعرف فيه المتلقّي فنًّا جميلا يتأثر به، ويربط به صورة ذلك البلد أو تلك الحضارة.
وذاك هو رئيس وزراء بولندا السابق دونالد تُسك يهدي ضيفه باراك أوباما حينما زار ه عام 2011، لعبة “السحّار” (The Witcher)، ولقد كان غريبًا أن يهديه هذه الهدية. على أن شيئا من الغرابة ينجلي إذا ما عرفنا أنها لعبة قائمة على الفلكلور البولندي والسلافي، وهي مقتبسة من سلسلة روائية معروفة في بولندا للكاتب أندريه سابكوسكي. ثم إنها –أي اللعبة- عمل بولنديٌّ متقن لاقى نجاحا عالميا كبيرا، تأنَّق في صنعه استديو الألعاب البولندي CD Projekt Red، وبات اللاعبون يعرفون بولندا به.
وما يزال أثر الألعاب يكبر كلما كبرت الأجيال التي تنشأ عليها، وقد انتقلت الألعاب من كونها تسلية بسيطة إلى وسيطٍ يساهم في تشكيل ذائقة المتلقي، ومن ذلك أنك تجد الأوركسترا الفيلهرمونية الملكية العريقة التي تأسست عام 1946، تعزف في قاعة ألبرت الملكية في لندن، لحنا من ألحان لعبة Bloodborne، وألحان هذه اللعبة حقيقةٌ بهذا الاحتفال، ولا أظن أن أحدا من الذين لم يعرفوها قبلا، له نصيب في التخمين أنها في الأصل مؤلفة لأجل لعبة.
والاحتفال بموسيقى الألعاب كثير، ففي Palau de la Músic في إسبانيا عُزِفت موسيقى ألحان ألعاب عديدة منها: مقاتلو الشوارع (Street Fighters)، وفي قاعة ستوكهلم للحفلات في السويد عام 2010، أقيم حفلٌ خاص لسلسلة كاسلفينيا، وفيه عزفت اليابانية ميشيرو ياماني، وهي الموسيقيّة التي ألّفت كثيرا من ألحان السلسلة.
إن بلوغ الألعاب هذا المبلغ من التأثير، أكثره ناجم عن أجيال صنعت ذكرياتَها الألعابُ، وراح الوقت يعمل فيها عمله ويزيدها إيغالًا بمروره، وصار من أثرها أنها تستذرف الحنين إلى الأيام الماضية، وأخذ الناس يقبلون عليها أعدادًا غفيرة، فكان أن تحولت هذا التحول وجمعت فيها فنونا من الرسم والموسيقى والرواية والتمثيل… بل وأصبح هناك مُخرجون يُعدّون أساتذة في صناعة الألعاب، يرتقب ملايين اللاعبين أعمالهم.
ولمّا كانت النظرة القديمة عندنا أن ألعاب الفيديو “مجرد لعب أطفال” وشأنها شأن تعلّة يتعللون بها في لهوهم، وربّما أعاب أحدهم على شخص بالِغ أنه يلعبها، فقد كان نمو سوقها في الوطن العربي بطيئا ولم يظهر مطوِّرو ألعاب فيديو من العرب إلا في وقت متأخر جدا، وما يزالون في بَدْأتِهِم. أمّا اليوم، فإننا نرى الاستديوهات العالمية تلتفت إلى أن تجعل الوصف على أغلفة ألعابها بالعربية، وأمست هناك منصّات تشغيل تدعم اللغة العربية (مثلSony PlayStation)، وألعابٌ كاملة مدبلجة تتكلم شخصياتها بالعربية، وهذا كله جديد وغير مألوف البتّة عند اللاعبين القدامى.
ومن أسباب هذا الالتفات فيما أحسب، أن أولئك الذين كانوا يلعبون أطفالا، هم اليوم فئة كبيرة من الشباب في العشرينات والثلاثينات، وقد باتوا ينفقون أكثر في الألعاب حتى أصبح السوق العربي معتبرًا، فتغيرت النظرة نحوه. وكذلك تشبّ الأجيال على أشياء، فيكون لها بانقضاء الأعوام، من النمو وازدياد الأثر.
ومع قلة الكفاءات وضعف الاستثمارات، لن يكون من العجيب في شيء، لو نجح أحد الأستديو هات العربية في السنوات المقبلة في تمهيد الطريق إلى العالمية، والدخول دخولا جادًا في صناعة الألعاب التي هي الآن صناعة عالمية تدور فيها مليارات الدولارات. ذلك لأن السوق العربي سيظل في ازدياد، وطريقه ما يزال في انتظار رائد، وإذا كانت الفرص، فهناك من سيغتنمها، وإننا لنُؤمّل أن يظهر من يعكس ثقافاتنا في هذه الألعاب، أو من يأتي بالجديد المبتدع أو ما يضاهي الأعمال المشهود لها بالنجاح.
والحق أن باب الألعاب نادرًا ما طُرق، وموضوع ما تزال النظرة القديمة مستبدّة به، لذلك بقي الوعي به غائبا، وليس أدلّ على ذلك مما يحدث حينما تثير لعبة من الألعاب الجدل.
وغنيٌّ عن البيان أن الألعاب فيها الفاسد والجميل، أو ما قد يناسب فئة ولا يناسب أخرى. وكثيرٌ منها يستدعي سرعةً في البديهة، وخفّةً في اليد، وحضورًا في الذهن، حتى إنها تعد رياضة وتقام عليها منافسات عالمية كبيرة*. ومنها ما هو مصنوع وفيه المنحط من السياسات التي غرضها مماطلة اللاعب، واستنزاف ماله، مثل ما يُعرف بـ”ادفع لتفوز” (Pay-to Win)، وصناديق الغنائم (Loot Boxes) التي أثير جدل كبير حولها لاعتبارها أقرب إلى المقامرة.
ورُبَّ سائلٍ يسأل: ومن ذا الذي يقوم وصيًّا علينا ويحدد لنا ما هو فاسدٌ وما هو جميلٌ من الألعاب؟
ونحن لا نزعم أننا استوفينا الحاجة بمقالتنا هذه، وإنما هي إشارةٌ نشير بها، لعلها تستتبع مقالات أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:
(1): لقاء أوباما وتُسك (الدقيقة: 5 الثانية: 39):
https://www.youtube.com/watch?v=FrObR-dU-6E
(2): عزف الأوركسترا الملكية في لندن: https://www.youtube.com/watch?v=RNLalpJzIdU
(3): حفل كاسلفينا في السويد وموسيقى مقاتلي الشوارع في إسبانيا:
https://www.youtube.com/watch?v=7EmIBmMPcvs
https://www.youtube.com/watch?v=7Lf25jxvLjw
*مثل بطولة EVO للألعاب القتالية.
(4): قضية صناديق الغنائم:
https://www.polygon.com/2019/6/21/18691760/ea-vp-loot-boxes-surprise-mechanics-ethical-enjoyable
https://www.youtube.com/watch?v=jPkyERMbKU8

الحادي عشر بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد الجداوي