سُليمان الفلِّيح: شاعرُ الصَّحراء والأقاصي

كتب بواسطة رشيد الخديري

     يُعتبر الشاعر سليمان الفليّح (1951-2013) أحد أهم الأصوات الشِّعرية بالكويت، فقد أثرى بشعره الغزير خزانة الشعر الكويتيّ، وجدّد في أدوات اشتغاله وتصوُّراته حول مفهومات الكتابة الشعريّة، باعتبارها كتابة نازفة، حاملةً بذورها وسيروراتها في نسغ تكوُّنها وتشكيلها، فالكتابة تصير بهذا المعنى، نوعاً من التّوحد مع الذّات وبحثًا “عن الأنفاس المنطوية في ثنايا هذه التجارب، أو لفضح ما ظل يكتمه الشاعر، ويتستر عليه ربما”([1])، من هذا المنظور الفجائعيّ، الممهور بعنف اللغة، وهي تحفر تورياتها واستعاراتها في أخاديد القصيدة، ينحو سليمان الفلّيح في بناء عوالمه ومعالمه الشعرية، وهي بالتأكيد عوالم إبداعية مفتوحة على قيم الشِّعر الأثيرة: الأم- الوطن- الحب- الطُّفولة- الكتابة-، وغيرها، و”من هنا، فالكتابة حين تكون إبداعًا تنسج علاقة مع الوجود في وضعياته المختلفة لكي تقبض عليه. فينسجم هذا المنحى مع كل صنوف الإبداع، وفي مقدمتها الشعر أقدم هذه الأصناف”([2])، فقد سعى في جلِّ مجاميعه الشعرية أن يجعل الإنسان في صلب انشغالاته واهتماماته، يصغي لهسيسه مُحاولاً ملء هذه الفجوات بجوانب إبداعية خلاَّقةٍ وثريّة، في تجربة حياتية ووجودية راهنت على الانكتاب بحبر الألم والوجدان والورش المفتوح على الحبِّ والشعر، ولعلَّ مُنجزه الشعريّ الآسر الموسوم بـ”الغناء في صحراء الألم([3])، يتَحدَّدُ بوصفه تجربةً مع الألم الممتد والمتراحب في فضاء الصحراء، ثمة غناء إذن، لكنّه غناء ممهور بالألم واللحن الشّجنيّ، لتصير الكتابة الشعريّة لديه بوحاً شفيفاً، واللافت للانتباه في هذه التّجربة ككل، هو انغمارها بين المحكي الشعريّ، ونتقصَّدُ به ها هنا، تلك الشعريات التي تهجس بالسير ذاتي، خصوصاً فيما يتعلَّق بحالات الافتتان بالصحراء برمالها وتضاريسها وسمادرها وحكاياتها الليليّة المنقَّعة بكؤوس الصداقات المنشية خلف الظلال البعيدة، ثم، جنوحها نحو شعرية الرؤيا والحلم، كتأكيد على أن الشعر هو في حدِّ ذاته سفر نحو الحلم والحلم الرؤيويّ، فجماليات الكتابة وسحرها يكمن في “قدرتها على تشريح الحياة، وخلخلة السدود الحاجبة لتدفقات الجمال فيها”([4])، وإذا كانت هناك من دلالة نستقيها من هذه الإشارات، فهي التّوغل العميق في أقاصي الصحراء، بحثا عن لغةٍ شفيفةٍ لا تشوبها شائبة، وقادرة على ترجمة كل هذه الانفعالات الشعرية، وما تنطوي عليه من منظورات للكتابة وبناء مُتَخيّلاتها وعوالمها، وسُنحاول رصد معالم هذه التّجربة من خلال التّوقف بالقراءة والتّحليل عند قصيدة:”توجُّسات في الزّمن الفاسد“، وهي قصيدة تُحاول ملامسة فعل الرؤيا/ الحلم، ومدى قدرة الشاعر على رؤية الأشياء الصغيرة وتقديم العالم بوصفها مأدبةً لمسارب الكلام، وسنتناول هذه القصيدة من خلال التّركيز على نقطتين أساسيتين، وهما: شعرية الرؤيا والحلم، ثم المحكي الشعريّ، وهما خطَّان مهمّان في مسار الشعريات الحديثة والمعاصرة، ويُعبِّران عن توجّهٍ جمالي ووجداني وكتابيّ، لا غنى للشاعر على الانكتاب بواسطتهما.

.. وحلمتُ الليّلة يا أمي برياحٍ تجتاح المرعى

تقمع خيلي

تطردُ إبلي

تجلدني علناً بالأفعى

تربطني خلف مضارب قومي

تسقيني إذا أعطش دمي

توسعني يا أمي قمعاً

ورأيت الليلة يا أمي خيلاً برؤوس مقطوعة

تغزو قومي

ورأيت امرأة فوق البيرق مرفوعة

تهتف باسمي

عارية يغسلها الدم([5])

     بهذا الحلم/ الرؤيا يفتتح الشاعر سليمان الفلّيح مُنجزه الشعريّ، ثمة حنين جارف للبيت، كمكان للسكينة والألفة، واللافت أن الشاعر استعان بلفظة (الأم) للدلالة على أنّها الجديرة بكل هذا الحب وهذا الحلم، لأن هناك دائماً ارتباطا عضوياً بين الأم ووليدها، كما أن الأم تبرز دائماً رمزاً للبذل والخصب والعطاء والحب، وواضح أن هناك (قتل رمزي) للأب، وهو قتل ليس بالمفهوم النيتشوي، وإنّما، أملته شروط وظروف كتابة هذه القصيدة، خصوصاً أن عنوانها يُحيل على التّشظي والانشطارية والتّوجس. توجُّس مما هو قادم، جعل الشاعر يرتكز في تقديمه لهذه القصيدة على فعل الرؤيا/ الحلم/: (رأيتُ، حلمتُ، الليلة..)، وهي كلُّها إشارات تتجه إلى استبطان الأشياء واستجلاء غيومٍ قد تظهر في الأفق القريب أو البعيد بحسب رؤيا الشاعر، وهو بذلك يبحث في الكلمات عن لباس له، إنه تمرين اللغة على خوض مستحيلها، وتفجير ذلك الماء الذي يتبدى صفاؤه، لا يمكن إلا حين تكون الذات، ذات سيادة وحضور، وليست ظلا نائما في آخر الكلام، لِنَقُلْ، إنه “شاعر الصحراء والأقاصيّ“، بدليل تواتر معجم صحروايّ، ليس في هذا المقطع فقط، وإنّما في كل المقاطع الشعرية، غير أنّ ما يُرتِّقُ هذه التّوجسات هو الانهمام بهذه الثنائية: الرؤيا/ والحلم، وتجذُّرها في هذا البوح الشعريّ، مستعيناً ببناء شعريّ لا يني عن الاغتراف من معين الصحراء مُتَخَيَلاً وكتابةً، مآلاً ومرجآت، مبنى ومعنى، في أفق الكتابة بحجم الصحراء، بعيدًا عن يتم الرمال، قريباً من حضن الأم، الحضن الدافئ المرجو عند حدوث انتكاسةٍ أو توجُّسٍ مما يأتي، وفي هذا السياق، ُيمكننا القول، إن “هذا النمط من الكتابة الشعرية يبدو نسقاً جديداً يعبر عن انثيالات واعية لا تمس الواقع بقدر ما تحفر في شعرية النص ذاته”([6])، وهذا واضح من خلال تمثل هذه الشعرية التي تتشكَّل وتتطور داخل فضاءٍ الصحراء، معلناً عن تفرُّد في التَّجربة وبحثها الدافق والذائب عن تحققات نصيّة ترتكز على شعرية الفجيعة والتَّوجس والدم. يقول الشاعر:

ورأيتك يا أمي مفجوعةً

تذرين الرملا

بين القتلى

وتلمين فتاة اللحم

ورأيت غرابا كبر الليل

ينعق حولي

ويدور كثيرا حول الخيمة، يتغافلني

ينهب طفلي

… (القصيدة/ص:34)

   إن هذه القصيدة تخضع لثلاث بنيات أساسية: بنية حكائية/ بنية انفعالية/ بنية أسلوبية، وكل هذه البُنى تتقاطع وتتداخل وتتماهى فيما بينها مثشكِّلةَ عالماً شعرياً غارقاً في السوداوية (الدم، الليل، الرمل الأسود، الغراب، النمل الأسود، القتل…)، كما أن التنويع في استعمال الضمائر (ضمير المتكلم/ ضمير المخاطب..)، جعل هذه القصيدة مثل سوناتة خريفية حزينة غّنَّاها ذات ليلٍ شاعر مفتون بالنظر إلى النُجوم وحركة الكواكب، وهذا هو “النص الأدبي، ليس شيئا عائما في الفراغ. ليس حجرا، أو هباءة، أو وهما. بل هو نتاج ذات إنسانية تاريخية في لحظة توترها وشرودها العارم”([7])، ومن زاوية أخرى، إن المحكيّ الشعري يُشكِّلُ إلى جانب ثنائية الرؤيا والحلم، أحد أهم المرتكزات الكتابة الشعرية عند الشاعر سليمان الفلّيح، والمحكي الشعريّ هو مدخل أساسي في الشعريات المعاصرة، بحيث إنه يجعلُ من “سردية الشعر/ القصيدة“، ولعلَّ هذا ميسم بارز في هذ التَّجربة، لا سيما أن تجربة في الحياة والوجود، قبل أن تكون تجربةً في الشعر. إن المحكي الشعري في هذه القصيدة، يُحيلنا في الكثير من انعطافاته وإبدالاته إلى جنوحٍ نحو الاشتغال على الذات ومساءلتها ونسج حواريات شفافة وشفيفة معها في أفق كتابة شعرية تستدعي الحد الأقصى من التوتر الشعري أثناء الالتحام بالحلم والرؤيا وتجلية قلق الذات وغربلتها، مما هو قمين ببناء خطاب شعري ضاج بالأسئلة “ولعل بنية الخطاب الشعري تستمد معالمها من تشظي الذات، وبين اللغة كوسيط ينقل الشحنة الشعرية من مادتها الأولى إلى التعبير عن اختراق المحو والبياض والعزلة”([8])، من ها هنا، نبدو هذه العزلة عزلةً مبدعةً منتجةً، والأكيد أنها تجربة تمتلك كل إمكانات التحقق النصي وارتياد الآفاق الشعرية في إطار من المغايرة والاختلاف في التصور والانتماء والتشييد، لا شك أن سليمان الفليح، شاعر ملهم، لأنه خبر الصحراء والأقاصي، وعرض تجربته الإنسانية على مرأى من الحلم والرؤيا، واتخاذ المحكي الشعري وسيلة لفتح أفق واسع ومغاير في أكوان التجربة الشعرية في الكويت، وما حققه من (هبة الامتلاء) والخوض في ممكنات القول الشعري، بذاك الحس الجمالي وجعل التجربة الذاتية منبعا للجمال، وهو ذات المعنى الذي يصبو إليه كل شعراء العالم.


هوامش الدراسة:

1– بوسريف/ صلاح: الشعر وأفق الكتابة، منشورات ضفاف- منشورات الاختلاف- دار الأمان، ط 1، 2014.

2– تقاطعات الحكمة في التصوف في شعر الطبال والرباوي، أعمال ندوة شعرية، تيفلت 21 مارس 2015، دار الوطن للنشر والتوزيع، الرباط، ط 1.

3سليمان الفلّيح/ سليمان: الغناء في صحراء الألم، الأعمال الشعرية الكاملة، جمع وتقديم: سامي سليمان الفليح، دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع.

 4الزمراني/ إدريس: عكاكيز وقامات، أنوال الثقافي، عدد 383، 20 فبراير 1988.

 5قاصد/ سليمان: قصيدة النثر، فضاءات للنشر والتوزيع، الأردن، ط 1، 2011. 

 6-  العلاق/ علي جعفر: من نص الأسطورة إلى أسطورة التص، فضاءات للشنر والتوزع، الأردن. 

 7الخديري/ رشيد: المعنى الشعري، الأفق الجمالي وشعريات الرؤى، منشورات مجلة الرافد الإماراتية، العدد 126، شتنبر 2016.


1– صلاح بوسريف: الشعر وأفق الكتابة، منشورات ضفاف- منشورات الاختلاف- دار الأمان، ط 1، 2014، ص: 78.

2– تقاطعات الحكمة في التصوف في شعر الطبال والرباوي، أعمال ندوة شعرية، تيفلت 21 مارس 2015، دار الوطن للنشر والتوزيع، الرباط، ط 1، ص: 05.

3سليمان الفلّيح: الغناء في صحراء الألم، الأعمال الشعرية الكاملة، جمع وتقديم: سامي سليمان الفليح، دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع.

– إدريس الزمراني: عكاكيز وقامات، أنوال الثقافي، عدد 383، 20 فبراير 1988. [4]

– الأعمال الكاملة، الغناء في صحراء الألم، من قصبدية:”توجسات في الزمن الفاسد”، ص: 33.[5]

– سلمان قاصد: قصيدة النثر، فضاءات للنشر والتوزيع، الأردن، ط 1، 2011، ص: 11.[6]

–  علي جعفر العلاق: من نص الأسطورة إلى أسطورة التص، فضاءات للشنر والتوزع، الأردن، ص: 26.[7]

1رشيد الخديري: المعنى الشعري، الأفق الجمالي وشعريات الرؤى، منشورات مجلة الرافد الإماراتية، العدد 126، شتنبر 2016، ص: 33.

أدب الحادي عشر بعد المئة

عن الكاتب

رشيد الخديري