في السنوات القليلة الماضية، فرضت الثورة الاجتماعية الكبرى نفسها ليس فقط بوصفها حدثًا سياسيًّا عظيما؛ بل باعتباره سؤالًا حول تعريف العالم الاجتماعي الذي نعيش فيه، وذلك في ضوء المتغيرات التي قامت بها الشبكات الاجتماعية مثل الفيس بوك، وتويتر…إلخ. لم يكن داروين ومعاصروه يستطيعون تصور أمر ثورة تقنية مثل هذه. وقلة محظوظة من العلماء مُعاصري داروين قد مثلت لهم خدمة البريد الجديدة آنذاك نقلة تاريخية على مستوى تقليل البُعد الجغرافي بين الأصدقاء. لكن، قديمًا بشكل عام كان الوصول إلى العوالم الاجتماعية عند معظم الناس يقتصر على هؤلاء الذين يتقابلون وجهًا لوجه. ويبدو أنّ مواقع التواصل الاجتماعي اخترقت حواجز الزمن والجغرافيا التي قيّدت العالم الاجتماعي للناس في أيام داروين.
إحدى نتائج هذه الثورة التكنولوجية هو ظهور نوع “ضار” مِن المنافسة حول عدد الأصدقاء الموجودين على حسابنا الشخصي. و كانت بعض هذه الأرقام، على أقل تقدير مبالغًا فيها، فغالبًا عدد المسجلين كان لغرض التعارف، الذي يصل إلى عشرات الآلاف في بعض الحالات؛ إلا أن لمحة خاطفة حول هذا العالم الإلكتروني الغريب، إلى حد ما، تهمس لنا في عجالة بأمرين :
الأول: هناك انحراف كبير في توزيع عدد الأصدقاء، فمعظم الناس لديهم عدد متوسط تمامًا من الأصدقاء على قائمتهم في مقابل حفنة فقط لديها أرقام تتخطى المائتين.
الأمر الثاني: هناك مشكلة حول مَن الذي حقًا يُعتبر “صديق”، فأولئك الذين لديهم أعداد كبيرة جدا -لنقل أكثر من المائتين – دائما يعرفون القليل، بل لا يعرفون شيئا عن معظم الأفراد على قوائم صداقتهم المزعومة.
هكذا قدم عالم الأنثروبولوجيا وعلم النفس التطوري البريطاني روبن دنبار[i] مدير معهد علم الإنسان التطوري والمعرفي بجامعة أكسفورد لرحلته في تاريخ الإنسان في كتابه المعنون بـ “كم صديق يحتاج إليه الشخص؟“
المخ الكبير
يقاوم كُل فرد في هذا العالم الصغير الذي يشبه القوقعة النسيج الاجتماعي، ولكل منّا أسراره التي من شأنها أن تُمزق هذا العالم لو انكشفت يومًا ما، ومِن هذا المنطلق، يؤكد روبن دونبار ببساطة أن تراثنا البدائي هو تراث مِن التعقيد الاجتماعي العميق الذي يشمل العلاقات الشخصية التي تكون وفقا لمعايير مُتشابكة ومترابطة على نحو غير عادي. ويبدأ ذلك التراث مع حقيقة أن القردة والقردة العليا لديها أمخاخ كبيرة بالنسبة لحجم أجسادها عن أي مجموعة أخرى من الحيوانات.
فلماذا يكون لدى الرئيسيات مثل هذه الأمخاخ الكبيرة؟ يتساءل دنبار[ii]، ويطرح الإجابة عن طريق نوعين عموميين من النظريات؛ النظرية الأولى: تقليدية وتنص أن الرئيسيات تحتاج الى أمخاخ كبيرة تُمكنها من اكتشاف طريقها في العالم وحل المشكلات في بحثها اليومي عن الطعام. أما النظرية الثانية: فتطورية وتنص على أن العالم الاجتماعي المعقّد الذي تعيش فيه الرئيسيات هو الذي يطور العقول الكبيرة. وتستند النظرية الثانية على نظرية الذكاء الاجتماعي التي كانت تعرف باسم فرضية الذكاء الميكافيلية ، والتي يعود لها الفضل في الإشارة إلى أن ما يميز الرئيسيات عن سائر الحيوانات هو تعقيد علاقتها الاجتماعية.
وتختلف مجتمعات الرئيسيات عن غيرها مِن مجتمعات الحيوانات الأخرى في الارتكاز على روابط اجتماعية وثيقة بين الأفراد، مما يعطي مجموعات الرئيسيات واجهة منظمة للغاية. فلا تستطيع الرئيسيات أن تنضم أو تغادر هذه المجموعات بسهولة كما تفعل الحيوانات في القطعان غير المنظمة نسبيًا مثل الظباء أو أسراب الحشرات. ولكن، ينوه دنبار[iii] أن هناك أنواعًا أخرى مِن الحيوانات لها بنية منظمة مثل الأفيال وكلاب البراري إلا أن هذه الحيوانات تختلف عن الرئيسيات في أمر آخر، وهو أن الرئيسيات تستخدم معرفتها عن العالم الاجتماعي الذي تعيش فيه لتكوين تحالفات أكثر تعقيدًا فيما بينهما.
ويتم تدعيم فرضية الذكاء الاجتماعي بالترابط القوي بين عدد أفراد المجموعة؛ أي تعقيد العالم الاجتماعي، وبين الحجم النسبي للقشرة المخية العصبية وهي الطبقة السطحية الخارجية للمخ والمسؤولة بشكل رئيس عن التفكير الواعي في الأنواع المختلفة للرئيسيات غير البشرية. ويبدو أن هذه النتيجة تعكس قيودًا على عدد العلاقات التي يمكن أن يُحافظ عليها نوع معين من الحيوانات بصورة تلقائية. وذلك كما هو الحال في قدرة جهاز الحاسوب الإلكتروني على معالجة المهام المعقدة، وتأثر ذلك بحجم الذاكرة والمعالج، فإن قدرة المخ على معالجة المعلومات الخاصة بالمجال الاجتماعي ذات التغير المستمر، تتأثر بحجم قشرته العصبية.
ومن الناحية التطوريّة، تشير العلاقة الترابطية بين حجم المجموعة وحجم القشرة المخيّة العصبيّة إلى أنّ الحاجة إلى العيش في مجموعات كبيرة هي التي دفعت إلى تطوّر حجم المخ لدى الرئيسيات. وهناك مبررات عديدة لرغبة أنواع معينة للعيش في مجموعات أكبر، أبسطها، الدفاع ضد هجمات الحيوانات المفترسة. عمومًا فالرئيسيات التي تعيش في مجموعات كبيرة ولديها أكبر قشرة مخيّة عصبيّة هي الأنواع مثل قرود البابون وقرود المكاك والشمبانزي هي حيوانات تقضي معظم وقتها على الأرض وتعيش في بيئات مفتوحة نسبيًا مثل مساحات السافانا أو أطراف الأحراش حيث تتعرض لخطر داهم من الحيوانات المفترسة أكثر من معظم الأنواع التي تعيش في الغابات.
هذه العلاقة بين القشرة المخيّة وعدد أفراد المجموعة في الرئيسيات غير البشرية تُثير سؤالًا يطرحه دونبار وهو: ما عدد أفراد المجموعة الذي نتوقع أن يتكون بين البشر، وذلك نظرًا لكبر حجم القشرة المخية غير الطبيعي لدينا؟
عدد دنبار
في العالم المعاصر، يعيش البشر في دول قوميّة تحتوي على عشرات الملايين من الأفراد، إلا أنه ينبغي علينا أن نكون أكثر حرصا، فالعلاقة بالنسبة للرئيسيات من غير البشر تتعلق بعدد الأفراد الذين يستطيع الحيوان أن يحافظ من خلالها على علاقة وجها لوجه. ومن الواضح تماما أننا نحن البشر الذين يعيشون على سبيل المثال في الوطن العربي – ليست لدينا علاقات شخصية مع كل واحد من الملايين الآخرين الذين يعيشون حولنا. ففي الواقع، الغالبية العظمى من العرب يولدون ويعيشون ويموتون دون حتى أن يعرفوا أسماء بعضهم، ناهيك عن استحالة الاجتماع معًا. وبوجود تجمّعات بشرية هائلة من هذا القبيل هو أمر مختلف تماما عن التجمع الطبيعي الذي نراه بين الرئيسيات مِن القردة. والمكان الوحيد الذي يمكن لدنبار أن يبحث فيه عن أدلة حول الأحجام الطبيعية للمجموعات البشرية هو بين مجتمعات ما قبل الصناعة، وخصوصا في مجتمعات الصيد. فمعظم الصيادين يعيشون في مجتمعات معقدة تعمل على عدد من المستويات. أصغر التجمعات تحدث في مخيمات ليليّة، وتحتوي على عدد يتراوح مِن ثلاثين إلى خمسين فردًا. كما يوجد عدم استقرارٍ نسبيٍّ للأفراد والعائلات؛ إذ إنهم ينضمون أو يغادرون لأنهم ينتقلون بين مناطق مختلفة بحثًا عن الطعام أو مصادر المياه. أما التجمع الأكبر فهو القبيلة نفسها. وغالبا ما يكون تجمعًا على أساس اللغة بحيث يميز نفسه بالتزام كبير على أساس هويته الثقافية. ويكون عدد التجمعات القبلية عادة ما بين خمسمائة إلى ألف وخمسمائة فرد من النساء والرجال والأطفال. وتعرف هاتان الطبقتان للمجتمعات التقليدية على نطاق واسع في علم الانثروبولوجيا. إلا أن بين هاتين الطبقتين، توجد مجموعة ثالثة نادرًا ما تم تعدادها وأحيانًا ما تأخذ شكل عشائر ولها قيمة شعائرية مثل الاحتفالات الدورية بمراسم وصول الشخص لسن البلوغ، وأحيانًا تقوم العشيرة على ملكيّة مشتركة لمنطقة صيد أو مجموعة من عيون المياه. ونجد تقريبًا أن التجمعات شبه العشائرية وشبه القروية تتكون من بين مائة إلى مائتين وثلاثين فردًا. وفي المتوسط فالعشائر تتكون مِن 153 فردًا، وهو عدد يقع ضمن نطاق الاختلاف ويتوقعه دونبار من الناحية الإحصائية. وفي المقابل، نجد أن الأحجام المتوسطة للمخيّمات الليلية والتجمّعات القبليّة تقع جميعها خارج هذه الحدود الإحصائية.
وعلى هذا الإحصاء، يتساءل دنبار[iv]: ماذا عن المجتمعات الأكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية؟ هل هناك أي شيء يشير إلى أن الرقم 150 قد يكون وحدة اجتماعية مناسبة للبشر؟ فيجب: نعم.
طلب ” روبن دنبار[v]” و “راسيل هيل” من عدد من الأشخاص أن يقوموا بعمل قائمة بكل الذين أرسلوا لهم بطاقات عيد الميلاد. في المتوسط، تم إرسال ثمان وستين بطاقة إلى الأسر التي تحتوي على إجمالي 150 عضوا تقريبًا. ويظهر الرقم نفسه في مجال الأعمال، فهناك قاعدة شائعة الاستخدام في نظرية هيكلة منظمات الأعمال، وهي أن المنظمات الأقل من 150 فردًا تعمل بشكل جيد على أساس شخص لشخص، ولكن في حال زيادة العدد عن ذلك ستحتاج هذه المنظمات إلى هيكل رسميّ إذا ما رغبت في أن تعمل بكفاءة.
ويستند دنبار إلى إشارة علماء الاجتماع منذ الخمسينيات من القرن العشرين إلى ما أسموه العتبة الحرجة التي تقع في منطقة من 150 إلى 200 فرد، حيث عانت الشركات الأكبر من ذلك من قدر غير عادي من حالات الغياب والمرض. كما يبدو أن المُخططين العسكريين قد فطنوا إلى القاعدة نفسها أيضا؛ ففي معظم الجيوش الحديثة، على سبيل المثال، تعدّ السريّة هي أصغر وحدة مستقلة وتتكون عادة من ثلاث فصائل قتالية، كل منها يتكون مِن ثلاثين إلى أربعين جنديًا، بالإضافة إلى فريق القيادة وبعض وحدات الدعم، وبهذا يصبح إجمالي العدد من 130 إلى 150 فردا. وحتى وحدة القتال الأساسية في الجيش الروماني خلال الجمهورية ( الفيالق في عهد ماريوس ( 107ق.م – 27 ق.م) ) كانت متشابهة من حيث الحجم، محتوية على ما يقرب من 130 رجلًا.[vi]
وحتى المجتمعات الأكاديمية قد تكون منوطة بالذات بفهم هذا النمط. ففي دراسة استقصائية لاثني عشر فرعًا في العلوم والعلوم الإنسانية على حد سواء، وجد توني باركر[vii] الذي يعمل بقسم التربية في جامعة ساسكس أن عدد الباحثين الذين يعملون فرديًا والعدد الذي يمكنهم الاهتمام به والتدريس له هو عدد ما بين المائة والمائتين. وحين يصبح الفرع أكبر من ذلك، ينقسم إلى فرعين ثانويين أو أكثر.
وفي المجتمعات التقليدية، يبدو أن أحجام القرية تقترب من هذا أيضًا، فقرى العصر الحجري الحديث في منطقة الشرق الأوسط حوالي 6000 قبل الميلاد، كانت تحتوي في العادة على 120 إلى 150 فردًا، ومحكومة بعدد المساكن. والقرى الإنجليزية التي كتب عنها أتباع ويليام الفاتح في كتاب يوم القيامة لعام 1086 كانت تضم 150 فردًا. وبالمثل، أثناء القرن الثامن عشر، نجد أن متوسط عدد الأشخاص في القرية في كل الأقطار الإنجليزية باستثناء مقاطعة كينت كان 160 تقريبًا. (في كينت، كانت مائة فرد).
وعليه فإن استقرار علاقات البشر واتزانها وتأثرها بعدد العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن ينخرطوا فيها صار يُسمي “عدد دنبار – يدور في فَلك الـ 150 فرد”، وإحدى الطرق التي نعرف بها عدد دنبار هو أنه: “عبارة عن مجموعة الأشخاص الذين إذا ما رأيتهم في صالة المسافرين أثناء الساعة الثالثة صباحًا في مطار هونج كونج، فلن تشعر بالحرج من أن تتوجه إليهم قائلًا: مرحبا، كيف حالكم؟ لم نلتقِ منذ زمن بعيد. بل إنهم وعلى الأرجح سيتضايقون قليلًا إذا لم تفعل ذلك. وقد لا تحتاج إلى تعريف نفسك لأنهم قد يعرفون مكانك في عالمهم الاجتماعي وأنت قد تعرف مكانهم في عالمك.
جودة العلاقات أم عددها
هل هذا الحد المعرفيّ الرقميّ الواضح عن حجم المجموعات البشرية هو انعكاس لمشكلة الذاكرة المشبعة (لا نستطيع الإبقاء على الاتصال مع كل العلاقات التي يتجاوز تجمع مِن 150 فردًا) أم أن المشكلة أكثر تعقيدًا مِن ذلك، وربما يكون الأمر له علاقة بحجب المعلومات عن جودة العلاقات الموجودة؟
يستعين دنبار للإجابة على أسئلته ببحث أجراه ديك بيرن من جامعة سانت أندروز وزميله اندي وايتن حيث قاما بتجميع بيان مصور مِن أمثلة الخداع الاستراتيجي عند الرئيسيات. والخداع الاستراتيجي هو المصطلح المستخدم للإشارة إلى الحالات التي يستغل فيها أحد الحيوانات حيوان آخر للحصول على غرض ما. فوجد أن الأنواع التي تملك قشرة مخيّة أكبر تستخدم الخداع الاستراتيجي بصورة أكثر كفاءة. وأحد الأمثلة الكلاسيكية للخداع الإستراتيجي نجدها في حالة انثى قردة بابون الهمادريدز التي تخدع ذكرها. وتعيش قردة بابون الهامادريدز في أسر أشبه بالحرملك ( ذكر واحد مع أنثى إلى خمس إناث)، وتكون عشرة أو خمس عشرة قرد مجموعة واحدة، تعيش وتبقى متلازمة مع بعضها. والذكور يحمون إناثهم بشراسة، ولا يسمحون لهن بالاقتراب من ذكور آخرين. فالذكور يعاقبون الإناث إذا ما تسكعن بعيدًا عنهم، وخاصة إذا سمحت الأنثى لذكر آخر بالاقتراب منها. وقد شاهد عالم الحيوان السويسري هانس كومر ذات مرة أنثى تقضي خمسًا وعشرين دقيقة تتجول ببطء بعيدًا عن المكان الذي كانت تتغذى فيه باقي الأسرة لكي تختبئ خلف صخرة كبيرة، وكان خلف الصخرة قرد ذكر من وحدة مجاورة، وسرعان ما بدأت تتزاوج معه. وقد بذلت أنثى القرد جهدًا بالغًا للغاية للتأكد من أن رأسها كانت دائمًا مرئية لذكرها من فوق الصخرة حيث يواصل غذاءه على بُعد بضعة أمتار.
وهناك نوعان من التفسيرات الممكنة لسلوكها حسب دنبار[viii]، فمن وجهة النظر السلوكية البحتة، قد تقولون إنها كانت تشعر بالقلق من عواقب فعلتها، حيث إنها تعلم أن اختفاءها عن نظر ذكرها يجلب المتاعب. وهناك تفسير آخر إنه سيعتقد أنها مجرد جالسة هناك وراء الصخرة ببراءة. ولذا يمكن أن تفلت من العقاب. ويعد التفسير الأخير أنها كانت تتلاعب بالحالة الذهنية لذكرها. لذا ظن دنبار أن ما كانت تفعله يشار له بظاهرة التذهين وهي القدرة على فهم عقول الأفراد الآخرين بدلًا من العمل على أوصاف بسيطة لسلوكهم. والاعتقاد هنا هو أنه في حين أن جميع الحيوانات الأخرى تفعل كما يفترض دائمًا علماء السلوك (أي يتعلمون قواعد السلوك) فإن القردة والقردة العليا قد حولوا الدفّة بما يكفي لكي يكونوا قادرين على العمل على فهم جزء من عقل بعضهم بعضا، وما الذي يمكن خلف السلوك على الأقل.
إن أدلة من هذا النوع تدفعنا نحو القول إن ما يتعلق بجودة العلاقات هو المهم، وليس فقط الحد الأقصى لهذه العلاقات. فقد وجد دنبار حدّأ أعلى لحجم المجموعة لأن هذا هو حد عدد العلاقات التي يستطيع الحيوان أن يحافظ عليه في هذا المستوى من التعقيد. و ليس الأمر مجرد مسألة تذكر مَن يكون مَن، أو كيف يرتبط (س) مع (ص) وكيفية ارتباطهما بي، ولكن الأهم هو: كيف أستطيع أن أستخدم معرفتي بالأفراد المتضمنين داخل تلك العلاقات عندما أحتاجهم في أمر ما؟
الرئيسيات وهي أرقى الحيوانات الاجتماعية، وهذا هو إنجازهم التطوري الكبير. وهذا ما يجعلها ناجحة أكثر مما كانت عليه، ولذلك بطبيعة الحال، هذا ما يجعل البشر ناجحين جدًا فقد ورثنا الخبرة الاجتماعية نفسها. وما يميزنا بوصفنا بشرًا عن باقي الأنواع الأخرى هو التعقيد المُطلق لتفاعلاتنا الاجتماعية. والفرق بين باقي أبناء عمومتنا من الرئيسيات وبيننا هو ببساطة أننا أخذنا العلاقات الاجتماعية إلى مستوى جديد تمامًا.
دوائر الأصدقاء والمعارف
نستطيع جميعًا أن نميز الاصدقاء عن المعارف مِن خلال ما نشعر به تجاههم. فالأصدقاء هم أولئك الذين نريد أن نقضي معهم الوقت، في حين أن المعارف هم أولئك الذين تكون صحبتهم ملاءَمة وقتيّة. ولكن يبدو أننا نُصدر أحكاما أو تقديرات أدق من تلك في واقع الحياة. وربما الأكثر إثارة للاهتمام هو أنه إذا نظرنا الى نمط العلاقات ضمن مجموعة من 150 فردًا والتي تشكل غالبًا عالمنا الاجتماعي نجد أنه يمكن إقصاء عدد من دوائرنا. فأكثر المجموعات تقاربًا تتكون غالبًا مِن ثلاثة إلى خمسة أفراد. وهؤلاء يشكلون نواة صغيرة من الأصدقاء الجيدين حقًا، الذين يمكن اللجوء لهم في أوقات الشدة للحصول على المشورة أو الراحة أو ربما حتى اقتراض المال. وما فوق هذا التجمع يكون دائرة أكبر قليلًا، وتتكون عادة من حوالي ثلاثين شخصًا إضافيًا.[ix]
لسنا متأكدين أي مِن هذه الدوائر المتعاقبة نواجهها في الحياة الحقيقة؟ أو لماذا يجب أن تزيد أو تقل في الحجم؟ ولكن البعض يتوافق مع تجمعات معروفة جدًا. فتجمع الاثني عشر إلى خمسة عشر فردًا على سبيل المثال، معروف منذ زمن طويل لعلماء النفس الاجتماعي باسم “مجموعة التعاطف[x]” فكل أولئك الذين سيغادرون هذه المجموعة غدًا سيتركونك في ذهول. والغريب في الأمر، أن هذا الحجم هو نفس الحجم في معظم الفرق الرياضية، وفي عدد أعضاء هيئة المُحلفين وحتى عدد الرُسل…إلخ.
وتبدو أن كل دائرة من دوائر التعارف هذه تخطط بدقة عالية لكيفية ترابطنا بمن حولنا. فمعدل التواصل يكون على الأقل مرة واحدة في الأسبوع للدائرة الحميمة المكونة غالبًا مِن خمسة أفراد، وعلى الأقل مرة واحدة في الشهر في دائرة الخمسة عشر فردًا، وعلى الأقل مرة واحدة في السنة لدائرة الـ 150 فردًا. ولكن يبدو أيضًا أنه يتزامن مع الشعور بالحميمية الذي نشعر به في علاقتنا الوثيقة تكون مع الخمسة المقربين جدًا علاقة باردة قليلا مع الأشخاص العشرة الإضافيين الذين يشكلون دائرة الخمسة عشر التالية. و يبقى برود مشاعرنا على التوالي تجاه الطبقات الآتية (أولئك الذين في الدوائر من خمسين و 150 و هكذا).
هناك حد أقصى لعدد الأشخاص الذي يمكننا أن نبقيهم في مستوى معين من الحميمية. وهناك العديد من الخانات التي يمكن أن تملأها في دائرتك الضيقة. وإذا دخل شخص جديد إلى حياتك لابد أن يهبط شخص ما لمستوى أدنى أو يصعد لمستوى أعلى لتفسح لكل مِنهما المجال. ومن المثير للاهتمام، أن ذوي القربي يتكررون في كثير من الأحيان، وأكثر مما نتوقع عن طريق الصدفة في كل مستوى من هذه المستويات المتعاقبة. وهذا لا يعني أننا يجب أن نحب ونود كل ما لدينا من ذوي القربي، ولكن يبدو أن ذوي القربي يحصلون علي تفضيل. فعندما يكون الجميع على قدم المساواة في الدم حقًا نكون أكثر استعدادًا لتقديم يد العون لهم.[xi]
[i] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 25
[ii] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 26
[iii] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 27
[iv] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 29
[v] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 29
[vi] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 30
[vii] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 31
[viii] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 33
[ix] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 36
[x] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 36
[xi] كم صديقا يحتاج إليه الشخص؟ .. عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى، ص: 37