غايتانو بولان

كتب بواسطة محمود عبد الغني

ثلاثة عشر تمساحاً أمريكياً (مقطع من رواية)

ترجمة: محمود عبد الغني

 ازداد الكاتب التشيلي غايتانو بولان ب”أريكا” سنة 1969، من أم فرنسية وأب شيلي. يكتب باللغتين الفرنسية والشيلية. عاش طفولة مطبوعة بديكتاتورية “بينوشي”. منذ وصوله إلى سن المراهقة بدأ يدمن الرحلات والأسفار. استقر لمدة زمنية بفرنسا، وهناك نشر روايته الأولى “مذبحة العشاق” سنة 2005. فعرفت شهرة منقطعة النظير في الأوساط الأدبية الفرنسية. فتحولت إلى المسرح. ورواية “ثلاثة عشر تمساحاً أمريكياً” هي روايته الثانية، التي اختار لها موضوع المافيا الشيلية. عاد للعيش في الشيلي في قرية شبه معزولة عن العالم. نقدم هنا، لقراء مجلة الفلق، مقطعاً من هذه الرواية الجميلة.

واحد

!!! – آآآههه

     ملأ صراخ المريض الغرفة. كان صراخاً أصمّاً وخشناً، جاء من عمق الحنجرة. من الواضح أن الصبي شعر بألم شديد.

– لا تصرخ بشدّة، ذلك يجعلني مضطرباً. لا أستطيع ضبط حركاتي…

    نطق الدكتور مانديز كلماته بنبرة متقطعة، تكاد تكون باردة. تلك هي طريقته المتعالية، كما دائماً، في فحص مرضاه في عيادته لطب الأسنان. طريقة شخصية جدّاً لإفهامهم بأنه هنا يجب المعاناة في صمت. والأفضل: التظاهر بعدم الشعور بالألم. وأن تبقى بشوشاً ورهن الإشارة أمام العجلة الصغيرة، والمثقاب الكهربائي وباقي أدوات القلع. في الحالة التي أمامنا، أنا أتّهم خصوصاً الدكتور مانديز لكونه لم يحقن المريض بجرعة التخدير الكافية. فكان من الواضح أن الصبي المسكين عانى في مشهد آلام حقيقي.

   ها قد مرّت عدّة أشهر وأنا أعمل مساعداً في عيادة طبيب أسنان. لم أكن متأكّداً حين قالت لي خالتي: إن وظيفة قد فرغت مؤخراً في عيادة الدكتور مانديز، وبأن مواصفاتي هي المطلوبة. كانت مساعدته السابقة قد استقالت بعد قرار مفاجئ، بعد أن طفح بها الكيل، وأعوزها الصبر، فوافق على تشغيلي بسرعة، دون مراعاة للإجراءات المعتادة. إذن، لقد عوّضت مساعدته دون استعداد، بغض النظر عن كفاءاتي المحدودة. والمعضلة هي أن طبيب الأسنان لا يدع فرصة تمر أبداً دون أن يذكرني بذلك. فهو يرى دوماً بأنني بطيء جداً، ومهتمّ جداً، ومفرط في عدم الدِّقة. دائماً مفرط في هذه، وليس أقل مما ينبغي في تلك. مرة أخرى يوبّخني:

 كيف تريدني أن أصل إلى اللثة؟ بدون ضعف مهارتك، يا سيد كاستيلا، لن يكون!- اللعنة. أمسك الفك جيّداً

! هناك أي سبب للشكوى

   لم يكن سعيداً بظهور تلك البرودة الدائمة أمام مرضاه، وها هو يفرغ كل شيء عليّ كل تخميناته. ولست أنا على أي حال من حرّف المثقاب الكهربائي. لقد بدأ الدكتور “مانديز” يوترني كثيراً. الآن مرّت ثلاثة أشهر، نعم، ثلاثة أشهر كاملة، وأنا أتحمّل استهزاءاته. لقد كان التعنيف والابتذال هما حصتي اليومية. فهمت بشكل جيّد لماذا تركته مساعدته في وقت وجيز…أظن أنني كنت، من جهة أخرى، سأتحمل سخريته القبيحة لو كان محترفاً شريفاً ومجتهداً. لكنه كان بعيداً عن أن يكون كذلك. إن دوافع عدم الاكتفاء من طرف مرضاه كانت عديدة: متعجرف، يطلب ثمناً زائداً فيثقل بذلك كاهل المرضى بفاتورة باهظة، بمبالغ لا تتناسب مع نوعية العلاجات المقدّمة لهم. قمّة ضرس موضوعة بشكل سيء، تعفّن متكرّر، قلع مؤلم: يجب أن تكون مازوشيّاً، أو راضخاً كلياً للطب، حتى تستمر في وضعية مريض منتظم. والسواد الأعظم من زبائنه لا يعود أبداً بعد الزيارة الأولى: حصة واحدة كافية بأن تكوّن كراهية دائمة تجاه أطباء الأسنان.

    لقد طوّر الدكتور مانديز، إذن، نوعاً من الخشونة، يعمل على تأجيجها وهو يسخر من زبائنه ما أن يديرون ظهورهم:

– هل تعرف، أيها الشاب، في ماذا يذكرونني كل هؤلاء المرضى بأفواههم الواسعة المفتوحة وبأضراسهم المتعفّنة؟ بالتماسيح…نعم، أيها الشاب: بالتماسيح المخدّرة، التي يتم اقتلاع أسنانها النخرة. أنا لست طبيب أسنان، أنا طبيب حيوان.

    ذات يوم شعرت فيه بالحمى أكثر من المعتاد، ومجبر من الدكتور مانديز على فعل ثلاثة أشياء دفعة واحدة، حدث ما كان يجب أن يحدث. ونحن في غمرة عملية صعبة، قمت بحركة خاطئة، وفي اللحظة الحرجة، فانقلب المجموعة الكاملة للأدوات.

– أيها الأبله. صرخ قائلاً. هل رأيتم فاشلاً مثل هذا؟ كيف جاءتني فكرة تشغيلك؟

   هنا، طفح كيلي. منذ عدّة أيام وأنا أعمل على ضبط نفسي. دارت دمائي دورة واحدة:

– لا، هل أحلم؟ أنت تستمتع بمعاملة مرضاك باعتبارهم تماسيح. في الحقيقة، أنت أكبر سحلية. نعم، أنت. يا مقتلع الأسنان. الذي يعضّ مؤخرتي.

    وصفقتُ الباب في وجهه.

   ما أن أصبحت في الخارج عزمت على عدم وضع ولا إبهام رجلي في عيادة الأسنان هذه، انطلقت مثل سهم. اجتزت الرصيف بخطوة سريعة وقبضة يد متشنجة. كان الهواء حارّاً، وأصبح أكثر حرارة بفعل موجة الغضب التي اجتاحتني، التي ابتلعتها بأنفاس كبيرة. بدأت الأفكار السوداء تتزاحم تحت جمجمتي، بينما كنت ألعن الطبيب المقزز، أدواته الطبية، استهزاءاته والكرة الأرضية كلها. لكن، وأنا أغادر الدكتور مانديز، كنت لا أشك في أنني بعد مضي وقت قصير، سأواجه تماسيح حقيقية.

اثنان

     كيف يمكن أن أصبح قاتلاً لطبيب أسنان؟ الأمر بسيط جدّاً: ممارسة الملاكمة. أو بدقّة أكثر: بأن أكسر  أسنان الناس.

   نشأت في أريكا، في حيّ فقير من المدينة. كان بيتنا فوضوياً إلى درجة أني كنت أقضي حياتي خارجه، أتسكّع في الشوارع حتى مجيء الليل. كنت أذهب إلى المدرسة بالإجبار وليس بدافع آخر، وكنت أجني منها نتائج ضعيفة. دون أن أصبح تلميذاً كسولاً تماماً، كنت أفضل مباريات كرة القدم مع أصدقائي، القيام بالنزهات، وتناول الوجبات المسروقة. مرت السنين، وتخليت شيئاً فشيئاً عن متابعة دروس السيدة العظيمة “ماما”، التي وجدتني شغوفاً بالقراءة:

– مانويل، إذا كنت لا تذهب إلى المدرسة، خذ على الأقل كتاباً. أو افعل شيئاً في أيامك.

   بقوة التسكّع في غبار مللي، انتهى بي الأمر بالاستقرار في قاعة الملاكمة بالحي. وبسرعة أعجبت بالحلبة وبمنظرها: الأضواء الخافتة، الجلد. أثواب السراويل ولمعان العضلات. يقوم أنطونيو- “بيبي” بالنسبة للقريبين جدّاً- بتأطير بطولات النادي كما بالنسبة للمراهقين العاطلين الذين، مثلي أنا، لا شغل لهم سوى لكم الأكياس المليئة بالرمل طوال اليوم. ولممارسة الملاكمة، يمكن القول أنني كنت ألكم تلك الأكياس. مئات الساعات، والأيام، والأسابيع. إلى أن أثمل بالتعب. كان “بيبي” يثق بي، فدفعني إلى التمرّن أكثر. كنت أضرب الكيس كما لو أني محكوم بذلك، واضعاً كل طاقتي في كل ضربة. أحسّن من قفزاتي، واجتنابي للضربات،كما اشتغلت على سرعتي على كيس اللّكم. بدأت أقفز فوق الحبل، آلاف القفزات. وحين لا أكون فوق الحلبة ولا أمام كيس الرمل، موجهّاً الضربات كما لو لعدو حقيقي، يسل مني الدم والماء على آلات تقوية العضلات. نعم، لقد فهمت بأنه في هذا العالم الفاسد لا تعتمد سوى على نفسك. وبأنه بتوجيه الضربات تلو الضربات يمكن أن أصل ذات يوم إلى شيء ما.

    لم يكن “بيبي” يكفّ عن ترديد:

– اضرب، يا مانويل، اضرب. إنه بفضل عرق جبينك ستصبح شخصاً معروفاً. بفضل الملح الذي في دموعك. ينبغي أن تخرج هيجانك. ينبغي أن تصنع منها سلاحاً مدمّراً عظيماً. كل لكمة يجب أن تكون قنبلة ذرية.

      كان من الطبيعي أن تتوالى المعارك. في المواجهات الأولى، كنت أسيطر على الخصم بسهولة غريبة. شعرت بإحساس واضح بالتفوق على خصومي؛ كنت أربح كل المقابلات قبل انتهائها، طارحاً الأولاد فوق البساط بسلسلة من الضربات القوية أو بلكمة جيدة على الذقن. كنت أشعر أني لا أُقهر، العضلات بارزة، وقبضة يدي من حديد.

      لكنني لم أكن أعرف من عالم الملاكمة سوى الوجه البارز، الأضواء والميداليات، دون أن أشك أيضاً تتردّد الوشوشات وألف مراوغة. كنت مزهواً مثل ديك، أتألّق فوق الخشبة التي تآكلت أساساتها بفعل الفساد؛ لم أكن أشكّ في أن “بيبي” كان يرتّب المباريات، ويتدبّر أمر إيجاد خصوم في مستواي…

    كنت أرى صورتي في أعلى الملصق. إلى أن جاء اليوم الذي سأواجه فيه “روبيرتو ديران”، الملقّب ب” كروكو”. في الحقيقة، كان كروكو رجلا قوياً قادماً من “بيتر”، في الجبال. قوي، سريع، عضلاته تخيف أكبر المقاتلين. إضافة إلى أن المواجهة ستجري على حلبته. ومن المنطقي أن يستفيد من تشجيع الجمهور.

     أما أنا فلم أكن أرتاب من شيء. فأنا قوي من انتصاراتي السابقة، أصعد إلى الحلبة منتفخًا إلى أقصى حدّ. لكنني شعرت بنوع من التردّد بالضبط حين لاحظت أن “دوران” يتفوّق عليّ برأس جيّد. لو كنت في مدرجات الجمهور، لكنت من المحتمل سأبدو أكثر وضوحاً: كنت سألاحظ بأن هناك تقريباً نوعان من المسافة بين “كروكو” وبيني، كم هو جليّ الاختلاف…

       منذ الدقائق الأولى من النّزال، عرفت أن الأمور ستكون سيئة. لقد بدأ خصمي يضرب وفقاً للقواعد. في الكبد، والخاصرتين، والصدغين: كنت أتلقى الضربات. كلما لكمني الفتى، كلما صرخ الجمهور. لم أجد راحتي المعتادة: اجتناب الضربات كان رخواً، تراجع اللعب بساقي عملياً إلى درجة الصفر. لم تعد قبضتي من حديد، بل أثقل الرصاص حدائي. تبلّلت بالعرق، نفسي أصبح ضيقاً، وكنت بين حين وآخر أسرق النظر إلى زاوية الحلبة: كان “بيبي” ينظر إليّ بعين مستسلمة. أفكار متناقضة بدأت تتزاحم في رأسي. لماذا “بيبي” لا يشجعني؟ لماذا لم أستطع الردّ على ضربات “ديران”؟  لماذا كان الجمهور يصفّر؟ هل كان يحيّي أسلوب “كروكو”، أو كان يسخر من ضعفي؟ شعرت بالتعب من هذه الأفكار، فبدأت أحاول ما أمكنني تفادي الضربات، حين فاجأني الفتى بلكمة صغيرة في ذقني، والتي رجّت واقي أسناني، توجّهت حينها، وأنا أحرّك يداي، بنظري نحو الحكم. لكن هذا الأخير لم يحرك ساكناً. أدرت رأسي ورأيت بصعوبة “ديران”، وبسرعة الضوء، هجم بقبضته المغلّفة بالجلد الأحمر على فكّي. ثم لا شيء. ثقب أسود.

    حين استعدت وعيي، كانت قد مرّ يومان. شفتاي تشبهان مؤخّرة قرد. لقد عرّضني “كروكو” لقتلة العمر. والأسوأ من ذلك هو أنه وقّع على نهاية مساري كملاكم. أصبح فمي شبيهاً بهوة: فبلكمة قوية واحدة فقدت تقريباً كل أسناني. مما اضطرّني طيلة عدّ أسابيع إلى أكل العصيدة حصرياً، وبواسطة أنبوب بلاستيكي فضلا عن ذلك.

       هكذا بدأت أبحث على تقنيات طب الأسنان. فماذا نفعل حين نفقد أسناننا؟ هل ينبغي ملء الأماكن الفارغة، بوضع بدائل صالحة بهذا المعنى أو ذاك؟ هل يجب أن تكون من الخزف؟ أم من المينا؟ أم الفضة؟ أم بالعكس يجب اختيار طاقم أقل كُلفة؟ لكن ما الذي يفرض اقتلاع آخر الأسنان السليمة، ثم قطع اللثة حتى العظم…أوليس من الأنسب أخيراً التنازل والاستسلام لتكشيرة بلهاء لمحاولة حجب ابتسامة غامضة؟ باختصار، بما أنني أُصبت بصدمة دائمة من طرف “كروكو” والضّرر الذي سبّبه لي، بدأت أهتمّ جديّاً بمشاكل الأسنان. بدأت أستغل الساعات الطوال التي أُهديت لي، والتي كنت أقضيها دون تمارين ولا كيس رمل أعتدي عليه، كي أغوص في أعماق الكتب. أوه، لا أقول أن هذا الأمر كان سهلاً. المعرفة لا مصدر لها، خصوصاً إذا كنت قد كبرت في أحياء فقيرة. كان عليّ في البداية الانتصار على تحفظاتي عن الكتابة؛ ثم الخجل، حتى أتجرّأ على مواجهة عجرفة المثقفين في المكتبات، أو الابتسامات الماكرة من طلاب كليات الطب. لكن هناك دوماً هيجان في داخلي، كما لو أنه كامن في أحشائي. هيجان الملاكم المتعطش للانتقام. تأملوا إذن: مئات الساعات من العرق فوق الحلبة، و”بيبي” يدفعني بدون توقّف ويخزني، كي في النهاية أخرب فمي من طرف “كروكو”، لا نيّة لي أبداً في حمل هذه الآثار طيلة حياتي، لقد قرّرت التماسك، وأحظى بإجراء عملية جراحية دقيقة.

   لكن في هذه الفترة بالضبط عرفتُ أولى اضطراباتي…

  بعد أن قلّبت وجوه القضية لمدّة طويلة، اخترت استبدال الأسنان المفقودة بطاقم من السيراميك. وبما أن كل واحدة باهظة الثمن، وبما أنني لا أستطيع الاعتماد على تلك البيزوات[1] التي ربحتها من منازلاتي الأولى، كان عليّ تدبر الأمر من أجل جمع المال السهل. عدت إلى بعض عادات شبابي، وبدأت أتاجر في الحي في كل شيء وأي شيء. في الحشيش، الكوكايين، معجون أساس الكوكايين. في الأسلحة، في الملابس المزوّرة. وفي نفس الآن كنت أوسّع معرفتي بطب الأسنان…وبسرعة، لاحظت أنني ورطت نفسي تدريجياً في حكايات معقّدة: إما أن يكون زبائني مدينون لي بالمال وبالتالي لن أراهم أبداً، وإما أبقى ثابتاً في مكاني طيلة ساعات خلال منتصف الليل، في أزقة “مايبي” أو “شاكابوكو” القذرة، أنتظر الزبون المفترض. أصادف دوماً بعض المختلين عقلياً ينبغي استعمال الحيلة معهم، أو بعض عناصر الشرطة الذين يحاولون اختراق الشبكة. رغم أنني لم أكن أطلب الشيء الكثير: فقط المبلغ المطلوب للعلاجات، والبعض الآخر أعطيه لأمي…

   جرت تجارتي على إيقاع تعويض أسناني.  


– العملة النقدية المعتمدة في الشيلي والمكسيك.[1]

أدب الحادي عشر بعد المئة ترجمات

عن الكاتب

محمود عبد الغني