شعر درويش اعتنى بكثير من الالتفاتات اللونية في قصيدته
للشاعر والباحث الجمالي اللبناني شربل داغر، مكانة كبيرة داخل الساحة الثقافية العربيّة، مرتبة لا يُجابهه فيها،إلاّ من شبّ على سياحة واسعة في تاريخ الفكر الإنساني وداخل أجناس أدبية وفنية مُتعدّد تبدأ بالشعر والرواية لتنتهي بالتنظير الأدبي والفني، حتى باتت كتاباته في هذا الصدّد مرجعاً مهماً للباحثين العرب، ممن يتلمسون طريقم إلى دراسة الشعر واللوحة المسندية وآفاقها الجمالية ومنطلقاتها التاريخية والفكرية. لكن في كتابه عن رفيق دربه الشاعر محمود درويش الموسوم ب “محمود درويش يتذك في أوراقي”(2019) حاول شربل داغر هذه المرة أنْ يتخلى عن بعضٍ من الأكاديمية صوب كتابة ذاتية وحميمة، عَمِدَ من خلالها إلى القبض عن اللامفكر فيه من سيرة محمود درويش عبر لقاءات وصداقاتٍ جمعتهما في كل من لبنان وتونس وعمّان والمغرب وباريس وغيرها من المدن منذ سبعينيات القرن المنصرم،وجعلها تأخذ مكانتها داخل التاريخ الشخصي من سيرة درويش، خاصّة وأنّ القارئ إلى هذا الكتاب، يندهش من حجم الأسرار، التي يحبل بها بكل أفراحها وأحزانها، والتي تجعل أخيراً من عملية كتابة سيرة درويش، تبدو مستحيلة ومُركبة لشاعر في حجمه، بسبب الصُوَر المُتعدّدة،التي رسمتها له الجماهير العربيّة منذ بواكير تشكّل قصيدته الشعرية داخل الوطن العربي.
- صدر لك عن محمود درويش كتاب مميّز بعنوان “محمود درويش يتذكر في أوراقي” (2019)، وهو كتابٌ هائلٌ من حيث الجانب الحميمي والذاتي، الذي حاولت أنْ تُنسجه، أولاً، مع تراث درويش الشعري، وثانياً معه كذات عاشقة للشعر والجمال. لكنك لا تلبث أنْ تُشير في مقدمة الكتاب، أنّ بعد رحيله الشاعر، أصبحنا نجد أنفسنا أمام سيّر مُتعدّدة، وليس سيرة واحدة واضحة المعالم والأفق والمنطلقات الجمالية في شعره. كيف ذلك؟
هذا الكتاب له سيرة. في مطالع الثمانينيات، اتصلت بي “دار الجنوب” في باريس لكي أضع سيرة درويش في حوارات. وافقتُ، ووافقَ درويش، إذ كان يعيش حينها في العاصمة الفرنسية مثلي. عقدنا عدة جلسات، ثم توقف المشروع…
ثم اتصلت بي “مؤسسة العويس”، قبل سنوات قليلة، لإصدار كتاب عنه، فوافقت. غير أنني واجهت مشاكل جمة، بمجرد مباشرة الكتابة. عمَّ أكتب؟ عن درويش الشاعر؟ عن درويش الإنسان؟ عنهما معًا؟ هذا ما انتهيت إليه، إذ كانت تشدني فكرة سرد بعض ما اعرفه عنه، وهو كثير، عدا أن بعضه أعرفه وحدي، وكنت شاهدَا أو مشاركًا فيه.
تركت ذاكرتي تقودني، في مسعى أول، كما لو أنني ورقة طافية في نهر. وهو ما احتفظت به منذ عنوان الكتاب، كما لو أن درويش يستفيق في غمار الكتابة. ولكنني ما لبثت، عند إعداد الكتاب النهائي، أن تساءلت : ماذا يحق لي أن أسرد؟ أيحق لي ذكر ما لم يكن درويش يرغب في ذكره؟ ثم تساءلت سؤالًا أدهى : من يضمن لي أن ما سرده درويش… صحيح؟ فقد تنهبت غير مرة، في أحاديثي معه، أو في أحاديثه مع غيره في حضوري، أنه كان يقلب الخبر أحيانا، أو بقلب عنوان كتاب شعري جديد له… مثلما كان يحدد مواعيد سفره بطريقة خاطئة… هذا ما تعلمه درويش، ومارسه، لدواع أمنية، خشية من الاغتيالات التي أصابت عددًا من أصدقائه في قيادة العمل الفلسطيني المقاوم. وهو ما نقله إلى الوسط الصحفي والأدبي، الذي كان يهواه ويخشاه في الوقت عينه…
- كتابة سيرة درويش صعبة، متفرقة، وتفتقر إلى مقومات بسيطة في السيرة. أتعرف أنني لم أجد سيرة ذاتية مدققة له؟
سبق أن تحققت مع درويش، وفي معرفتي المديدة له، أنه لن يكون هناك سيرة ذاتية لدرويش، مثلما لا نجد ذلك ممكنًا عند “نجوم” الغناء والفنون والأدب في الثقافة العربية.
- في كتابك هذا، لم تكتب سيرة ذاتية لدرويش، وإنما عملت على القبض عن الحميمي وما لم تنتبه له الصحافة والنقد داخل الوطن العربي، خاصّة وأنك لجأت في كثير من المرات إلى أسلوب “الأنا” الذي يستند في أساسه على خلفية واعية بالأحداث السياسية والاجتماعية التي ساهمت في إبراز قصيدة درويش، منذ استقراره في باريس. هل يُمكن أن نقول مثلاً، أنّ هذه المرحلة من حياته، كانت الأغنى في سيرته الشعرية؟
في كتابي أخيار ووقائع وكشوفات تنشر لأول مرة عن درويش، مما يسمى “الأسرار” في لغة الصحافة العربية. إلا أنني ملتُ خصوصًا، في الكتاب، إلى تفسير بعض مسالك حياة الشاعر، والتوجهات التي اتخذتها، ولا سيما بعد “اتفاقية أوسلو”. كما ملتُ، في درس شعره، إلى استبيان التحولات الأساسية في تجربته الشعرية، ومغازيها في الصراع المكشوف، في زمنه، بين النثري والشعري.
- عملت في الكتاب على نوع من الكتابة المتدفقة والمسترسلة، التي لا تُعير اهتماماً للدرس الشعري، إلاّ بوصفه شهادة، لا تخرج عن سياقها الجريح، وأحياناً تتجاوز الأمرين معاً، لتنسج كتابة أشبه بحكاية دافئة عن علاقتك بمحمود درويش، التي يبدو من خلال الكتاب أنّها شكلت ناصية كبيرة من حياتك واهتماماته إلى حدود اليوم بالكتابة الشعرية والتنظير لها في آن واحد. لماذا هذا التحوّل من دراسة علمية، صوب كتابة تتجاوز فيها التجريد لصالح الصداقة والشعر؟
حرتُ، كما سبق القول، في توجهات الكتاب. فأنا أعرف درويش، منذ حلوله في بيروت، وأنا لا زلت طالبًا جامعيًا… ثم تقاطعت حياتنا غير مرة، ولا سيما في باريس… عدا أنني اتفقت واختلفت معه في السياسة… إلى هذا درست شعره غير مرة، وتوقفت عند لحظة “التوازن” – التوازن القلق – التي سعى إلى إقامتها، في الكتابة، بين الشعري والنثري.
إلا أن هذه العلاقات القوية والمتمادية لم تقم على توافقات بين تجربتينا الشعريتين، بل على خلاف وانتباه إلى تجربة الآخر. وإذا كان محمود درويش بدأ الشعر بالسليقة، ثم احترفه متأثرًا بنزار قباني وعبد الوهاب البياتي ونيرودا وغيرهم، فإنه ما لبث أن تنبه بصورة أشد إلى أن الشعر – ولا سيما الحديث منه – شعرُ ثقافة، وشعرُ جمالية، ولا ينبني بالمشاعر والغناء فقط. لهذا تجد درويش أطل على تجارب القصيدة بالنثر في التسعينيات وبعدها، بعد أن حاربها بعنف قبل خروجه من بيروت (1982). كان درويش شديد المتابعة والقراءة في سنواته الأخيرة… ومن يتوقف عند عناوين الكتب الشعرية في مكتبته، إثر موته، تستوقفه الكتب الشعرية بالنثر العديدة فيها، ومنها كتبي، على ما ذكر أحد التحقيقات الصحفية في عَمان.
أدركَ درويش، بذائقته، أن ما يجري، في قصيدة أخرى غير التي يكتبها، يطلب… الشعر بدوره، ويسعى إلى بناء أفق للقصيدة. هذا ما يمكن ملاحظته في جميع مستويات قصيدته الأخيرة، حيث أفاد من جوانب بلاغية، ومن خيارات جمالية، استقاها من تجارب القصيدة بالنثر، وضمنها في شعره.
هذه شهادة في شعره، وفي شعر غيره ممن وقف على ضفة مقابلة لشعره.
- الذات هي أول ما يُميّز هذا الكتاب ويجعله منفرداً ومُنفلتاً من قبضة النقد و سُلطة الدراسات التحليلية. ألاّ ترى أنه قد آن الأوان لخلق كتابات من هذا النوع الذي تتجاوز فيه مرض الأكاديمية والنسقية؟
كتابي عنه لا أدرجه في نمط كتابي بعينه، ولا أدعو غيري إليه. كتابي صنيع نفسه، إذا جاز القول.
- يغلب على الكتاب الطابع التوثيقي الذي يهتم بتفاصيل صغيرة من حياة درويش، إما من خلال علاقتك به أو عبر ما سمعته من قصص من لدن أصدقاء داخل لبنان أو خارجها. شربل داغر، ما الذي تبقى اليوم في جسدك من رحيل درويش على مستوى الصداقة والشعر؟
بقي الكثير مما لم أذكره في الكتاب… فقد جمعتنا الخلافات والتباينات ولكن… عن قرب.
- من الأشياء التي لم تلتقطها في كتابتك عن درويش هو علاقته بالفنّ التشكيلي، خاصّة وأنّ نصوصه الأخيرة، ظلّت تحبل بهذا العنصر الجمالي المُشكّل لقصيدته على مدار سنوات خلت. لماذا ذلك؟
اعتنى درويش، في أي شقة سكنها – مثلما يَظهر، في كتابي، في إحدى صوري معه في بيته الباريسي – باللوحة. عدا أن فنانين اقتربوا منه، عدا اشتغالهم على شعره في كتب أو معارض… إلى هذا فإن شعر درويش اعتنى بكثير من الالتفاتات اللونية في قصيدته، وهو ما نجده عند نزار قباني قبله.
- الكتاب غزير جداً من حيث المعلومات والأسرار الخفية التي يجهلها الكثير من الناس عن حياة درويش. ما الصعوبات التي واجهتها وأنت تُقلّب الجمرة في حياة شاعر مثل محمود درويش، ثم ألاّ ترى أنّ ذلك سيكسر قليلاً من ماهو موجود عن الشاعر وسيرته في أذهان الناس؟
سعيت إلى أن أكون أمينًا في ما كتبت، مع أنني أخفيتُ أمورًا كان في مقدوري روايتها.